لا يتبع ياسين رفاعية قواعد روائية في "وميض البرق" التي يراها الناشر، دار الخيّال، بيروت، من "غير المألوف في الرواية العربية". "ليست بذلة خياطة، أزرار هنا وأزرار هناك. وثنية هنا وثنية هناك" يضيف الناشر فيدين الأعمال التي تتبع مساراً محدداً بصورة مجانية. لا ترتبط قيمة العمل الأدبي والفني ببنيته، وقد تكون التجربة في "وميض البرق" جديدة على ياسين رفاعية إلا انها ليست كذلك في الأدب العربي. يستشهد الناشر بقول الكاتبة الانكليزية فرجينيا وولف ان العقدة القصصية غير ضرورية، وبدعوتها الى تسجيل "الذرات كما تتساقط على وعينا". وهذا ما يفعله رفاعية الذي يتجاهل التخطيط القصصي وبناء الشخصيات ليترك التداعيات تنساب في مونولوغ يبدو كأنه لا ينقطع بين الصفحتين 40 و84 مقطع واحد. تبدأ الرواية بالتلصص على امرأة تتلصص هي أيضاً على صورتها في المرآة، وتفتح للراوي نافذة على الماضي. يستعيد الكهل الناظر اليها حياته ويبدأ بجلد ذاته. كان أنانياً يشبع ما يرغب به ويغوي النساء من دون التزام بالأخلاق والمبادئ. وأصدقاؤه لم يكونوا أفضل منه: زهير قتل وأفلت من العقاب، وليد أغوى واغتصب واشترى الجميع بالمال، ورياض سارق نمام واشٍ. "فعلاً حققت كل مآربي بذكاء شيطاني" ص14. البداية الدرامية تجعلنا نتوقع خطايا مرعبة، لكن رفاعية لا يضيء أو يوسع، وينتقل من ذكرى الى كابوس أو رؤية في جو قاتم يهجس بالنهايات. في "وميض البرق" دور كبير للشرفة "العربية" التي تجعل التلصص شرعياً وتقدم جانباً واحداً لا يتعلق بالدمار في حال المرأة العارية. من الشرفة يرى الأرملة التي ترتدي الأسود منذ ثلاثين عاماً ويفكر بجمعها مع صاحب الدكان المجاور. يحدق في الأم الشابة التي سافر زوجها فشغلت نفسها بمزروعاتها والعندليب في القفص. يشاهد العجوز الباكية التي فقدت زوجها وشقيقتها التوأم فتبدو له كأنها تصلي كل ليلة وتطلب الرحيل. ويبلغ القتام ذروته مع الأم التي انتظرت سنيناً ان ترزق بطفل وعندما أنجبته لاعبته برفعه عالياً والتقاطه على الشرفة ما غيرها حتى وقع على الشارع. يشعر الراوي بالذنب تجاه هذه المرأة ووديع الرياضي الذي غلبه السكري وتسبّب بقطع رجليه، ويتذكر عبدالرحمن الذي أحب مسيحية قبلت باعتناق دينه ليبقيا معاً لكنه تركها خوفاً من أبيه الذي رفضها. مآسٍ تلائم الجوّ النفسي للرجل الذي نكتشف انه بقي وحده بعد رحيل زوجته. "أنا أمضي، أتقدم في السن، قريباً أموت" يقول في ص21، ويتساءل ما إذا كان حريقه "عقاباً حقيقياً" ص25. لكن ما هو هذا الحريق؟ الندم والكوابيس التي جعلته يفكر بالانتحار ليتخلص منها؟ لا يبدو التطرف الانفعالي مبرراً، ولا نجد تضاد الشباب والشيخوخة سبباً كافياً لإحساسه "بالذل والهوان حتى ازاء نفسي" ورفضه الخروج من البيت مع معرفتنا بشبابه الوسيم النرجسي اللاهي. تبدو حال الراوي متكلفة في مراجعته نفسه ومشاهدته المتكررة للمآسي والأبواب المغلقة. يشعر ان عزلته تطهره وتقرّبه من نفسه: "في جوهرك ما يجعل منك انساناً مثالياً لو أردت" ص24 و"أشعر ان الله في داخلي" ص25. لا يسمح تبعثر النص بتراكم حال من الندم والإيمان والصوفية ويوحي "وميض البرق" بالعجلة في الكتابة. ربما شاءها الكاتب رسالة حب الى مرأة راحلة في مرحلة يقترب فيها من النهاية، لكن القارئ يبقى بعيداً وسط سيادة الأحاسيس الانشائية لا الشخصية. الراوي مصاب بالشلل في التزامه حبسه الاختياري، البيت، واسترجاعه الأعزاء الراحلين: "كل الذين أحببتهم تواروا دون رجعة وها أنذا على حافة الانتظار" ص68. لكن حريق القلب يجعل التعبير عادياً أحياناً، ولا نقع في الرواية على ما يشركنا في احساس عميق أو غامض أو نجد تفسيراً أو اضاءة له. في الصفحة 26: "ما أصعب أن يفقد المرء الزوجة التي اعتاد عليها" في ص35 يتحدث عن الفنان الذي مات من "المرض الخبيث" ويتجنب ذكر السرطان. في ص54 يقول ان الطفل الذي وقع كان يمكن ان يكبر ليكون طبيباً أو مهندساً أو محامياً. في ص79 يشير الى مجتمع فردي غير متضامن "مجتمع حارة كل من ايدو إلو". لماذا اختار رفاعية لغة الرجل العادي، البديهية في أفضل الأحوال، بدلاً من لغة الفنان؟ وهل مأساة الطفل الذي هوى الى حتفه تكبر إذا أصبح طبيباً أو مهندساً أو محامياً وتصغر لو أتيحت له الحياة ليصبح معلماً ابتدائياً أو ساعي بريد؟ ولماذا يستعير تعبير "حارة كل من ايدو إلو" من دريد لحام بدلاً من أن يبتكر تشبيهاً آخر؟ يحتاج الراوي الى النظر خلفه في وقفته أمام وجعه كما نفعل كلنا، لكنه يقع في شرك التعاليم الموروثة في تكريم الأموات وأهل البيت كأن الحقيقة بجانبيها السيئ والجيد تقع في باب الثرثرة الاجتماعية. والده الأمي كان "أكثرنا فهماً وذكاء دون استثناء" ص62. وزوجته كاملة الأوصاف جمالاً وأخلاقاً والتزاماً إذ شغلها بيتها طوال الوقت وكان "مملكتها". زوجته "كانت تتمنى أن تكون ملأى بالعافية لكي تتفرغ لاسعادي" ص86 وهو لن يجد "امرأة بجمالها، ليس جمال الجسد وحده، بل تلك الروح الجياشة بالعواطف النبيلة" ص87. ويبلغ خطاب الرجل العربي ذروته في طلبه الكمال من المرأة في وهم الزوجة - العشيقة. في الصفحة 87: "وعندما تدرك انني اشتهيها، يصبح كل ما فيها نداء. ما من مرة جاسدتها ووجدتها هي نفسها". يغطي الراوي رغبته بأكثر من امرأة بجعل زوجته نفسها أكثر من امرأة هل هذا ممكن؟ لكنه يشير الى "الجسد الملائكي" في الجملة التي يتحدث فيها عن شعوره بأنها "امرأة أخرى مختلفة" في كل لقاء. ويبقى علينا أن نفهم جمعها بين المهارة في الجنس والاحتفاظ بجسدها ملائكياً في الوقت نفسه، ولكن ما معنى "الجسد الملائكي"؟ لا يمكن الحديث عن ثنائية الفرد - المجتمع التي تجذب أصحاب الميول الطوباوية والمتظاهرين بالمثالية والمتنصلين من المسؤولية. الفرد شبه غائب، على الرغم من تفرد صوته وحده بالري، لامتناع رفاعية عن رسمه، لكن المؤلف يذكّرنا من حين الى آخر بصراع خرج منه الفرد منتصراً على "المجتمع الكاذب المصطنع العابر... مصح للمجانين" ص73. محبته للوعظ ومدح الفضائل لا يتعلق بتطور روحي محتمل بعد الصراع بل بميل حضارته الى التلقي والمحاضرة في العفاف. يتساءل في ص125 ما إذ كان لازم بيته منذ سنة أو سنوات، وفي ص31 يقول ان الموت أخذ جسد زوجته وبقيت الصورة. في الصفحة الأخيرة من الرواية، ص159، يتساءل: "أكان كل هذا وميض برق؟" ويتحدث عن عودة زوجته "بلحمها ودمها". انتصرت على الموت إذاً ونقاه الوجع من أدران المجتمع؟ أو أن عودة كل شيء الى مكانه بما في ذلك صورته وهو شاب، أي شيطان، تعني انه بقي على حاله؟