اليوم آخر يوم من شهور الضغوط والديبلوماسية، وغداً يبدأ شهر المواجهة في العراق. قطار الحرب غادر المحطة ولن يوقفه جدل في مجلس الأمن، أو تظاهرات في الشوارع، ولا حتى تلبية الرئيس العراقي صدام حسين كل شاردة وواردة في القرارات عدا تنحيه عن السلطة. الإدارة الأميركية تشيد في واشنطن أجزاء جاهزة لعراق ما بعد صدام على نسق البيوت الجاهزة في المعامل. والرئيس جورج دبليو بوش بدأ حملة طمأنة المنطقة إلى "شراكة" معها لإحداث تغييرات فيها وتعهد انجاح "خريطة الطريق" لحل النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي. بالمقابل، بدأ دعاة اجتياح العراق حملة مبرمجة على سورية والسعودية، تمهيداً لاجراءات بعد "تحرير" العراق. المنطقة تتوقع اهتزازاً زلزالياً للوضع الراهن بعد الاجتياح، فيما تتقوقع في تواري الإجابة على "لماذا" وعلى "ثم ماذا". هذا الأسبوع اطلقت الإدارة الأميركية الخيار العسكري في مشروع قرار "العواقب الوخيمة" أمام مجلس الأمن، وألحقته بخطاب رئيسي لبوش عن شكل العراق والمنطقة في غياب صدام خسين. التصويت على مشروع القرار الأميركي - البريطاني - الاسباني سيتم بعد أسبوعين من تقديمه، أي أسبوع 10 آذار مارس، وستتبعه العمليات العسكرية في غضون أيام. يوم الاثنين الماضي قدّم مشروع القرار الذي حمّل العراق وحده مسؤولية اهدار الفرصة الأخيرة التي اتاحها له القرار 1441. والإدارة الأميركية تعتبر القرار 1441 قرار إعلان حرب، مع وقف التنفيذ. وفي رأيها، ان فشل بغداد في الاستفادة من الفرصة المتاحة يفعِّل قرار الحرب. وما مشروع القرار المطروح سوى تفعيل لإعلان الحرب الوارد في القرار 1441. على رغم الانقسام الجذري في مجلس الأمن، والمواجهة بين المحور الأميركي - البريطاني - الاسباني وبين المحور الفرنسي - الألماني - الروسي الذي يريد الاستمرار في الاحتواء وتعزيز التفتيش، ستحصل الولاياتالمتحدة على الأصوات التسعة اللازمة لتبني القرار، وسيكون لضمان هذه الأصوات تأثير في استراتيجية فرنسا ومواقفها، علماً بأن منع مجلس الأمن من تبني القرار يتطلب استخدام "الفيتو" ضده. فصياعة المشروع حذقة جداً وتجعل معارضته صعبةً. فإذا دعم مجلس الأمن قرار تفعيل إعلان الحرب، أو إذا فشل في تبنيه بسبب الفيتو، تنوي الإدارة الأميركية الاستفادة من أي من التطورين لحشد الرأي العام الأميركي وراء قرارها. بالموازاة، حركّت الإدارة الأميركية مختلف المفاعيل لمخاطبة الرأي العام العربي عموماً والعراقي خصوصاً، كما بعثت رسائل مهمة إلى العراقيين العاملين داخل السلطة وكأنها تعد لإطاحة عسكرية ومدنية للنظام العراقي من الداخل والخارج. العاصمة الأميركية بدت كأنها ورشة عمل لتجهيز عراق ما بعد صدام بغية تصديره إلى العراق بعد اسقاط النظام العراقي. وهذا أثار الانتقادات والتساؤلات عن معنى الديموقراطية المصنوعة للعراق وفي العراق إذا كانت مستوردة من واشنطن بانتقائها عراقيين واستبعادها عراقيين آخرين. تنبهّت الإدارة الأميركية لهذا الانطباع، ولذا أوضح بوش في خطابه أن تشكيل حكومة عراقية جديدة أمر عائد إلى العراقيين وحدهم وليس لسواهم، كما حرص على ابراز الآتي: أولاً، مسؤولية أميركا ودورها في شرق أوسط ما بعد صدام. ثانياً، تعهد الولاياتالمتحدة مساعدة العراقيين من أجل استتباب الاستقرار والحرص على وحدة العراق، كما لتقديم المساعدات الإنسانية في حال وقوع الحرب. ثالثاً، تأكيد التزام أميركا البقاء في العراق للفترة الضرورية فقط. رابعاً، تأثير نموذج عراق حر ومزدهر في الأصوات العربية المطالبة بالحرية والإصلاح والمشاركة السياسية. خامساً، "رؤية" أميركا لشرق أوسط جديد تطلقه التجربة العراقية. سادساً، النجاح في العراق يمهد لعملية سلام جديدة تنطلق من "خريطة الطريق" لقيام دولتين، فلسطين وإسرائيل. وسابعاً، مطالبة إسرائيل بدعم انشاء الدولة الفلسطينية والعمل على اتفاق نهائي، وانهاء النشاطات الاستيطانية المرهون باحراز التقدم في المحادثات. ما في ذهن واشنطن، حسب مسؤول رفيع المستوى في الإدارة الأميركية، هو تقديم "شراكة على نسق تلك التي أقامتها الولاياتالمتحدة مع أوروبا الشرقية" بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. والولاياتالمتحدة "تؤمن بقدرتها على ان تكون قوة تغيير إنما على أساس شراكة مع أولئك الراغبين في التغيير في المنطقة، وليس لفرض رؤية أميركية منفردة لما يجب أن يكون عليه شكل المستقبل". الدول المرشحة للشراكة، حسب المسؤول، الأردن والسعودية ومصر والبحرين والمغرب، كما "النخبة التي تتحدث عن العجز والنقص في الحريات". لكن هناك دولاً "عليها إعادة النظر في مسار الدمار الذي تتبناه. فالسوريون يجب أن يوقفوا دعمهم للإرهاب. والإيرانيون يجب أن يستمعوا إلى أصوات شعبهم". ومن أجل بعث رسالة إلى المنطقة بأن الولاياتالمتحدة "ملتزمة على المدى البعيد منطقة أفضل وأكثر ازدهاراً وحرية"، حسب تعبير المسؤول الكبير، كان لا بد للرئيس الأميركي من إعادة طرح النزاع العربي - الإسرائيلي على الطاولة ليشدد على التزامه الدولتين و"خريطة الطريق". وتعتقد الإدارة الأميركية بأن "هناك فرصة لدفعة جديدة" مع إسرائيل، وان التغيير في الوضع العراقي سيعطي "زخماً جديداً نحو السلام" في الشرق الأوسط، مذكراً بعملية السلام التي انطلقت بعد الحرب الأولى في الخليج. وفي رأي المسؤول، ان "خريطة الطريق لتنفيذ رؤية الرئيس التي وضعها في خطاب 24 حزيران يونيو، سوية مع عناصر ايجابية في ما طرحه ولي العهد السعودي" في القمة العربية، تشكل ميكانيزماً جاهزاً ب"مراحل وشروط يجب تلبيتها". وبالتالي فإن "الإطار موجود"، وجورج بوش ينوي تذكير الحكومة الإسرائيلية بواجباتها وضرورة تنشيط البحث عن سلام. قد يكون في ذهن الرئيس الأميركي العودة لاحقاً إلى أسس العملية السلمية التي انطلقت من مؤتمر مدريد عام 1991 على أساس السلام الشامل ومبدأ الأرض مقابل السلام. لكن المؤشرات الآن تفيد بإمكان قيام "خريطة الطريق" إلى معالجة النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي مكان "عملية السلام". وهذا ليس مصادفة، خصوصاً ان زمرة الصقور المتطرفين وضعت تصورها لمثل هذه التطورات في دراسة أشرف على إعدادها ريتشارد بيرل عام 1996 أساسها "قطع الصلة كلياً مع شعار السلام الشامل"، ومحو مبدأ الأرض مقابل السلام، وصوغ استراتيجية بديلة عن مبادئ "عملية السلام"، ورسم خريطة جديدة لمنطقة الشرق الأوسط والخليج تنطلق من "توازن القوى" بعد نسف العراق من المعادلة. تلك الدراسة حملت عنوان "استراتيجية إسرائيلية جديدة نحو العام 2000"، وركزت على ضرورة عزل سورية واحتوائها، كهدف أساسي. وبيرل، الذي يترأس لجنة مستشارين لوزارة الدفاع، له علاقة وطيدة ب"مؤسسة المشروع الأميركي"، والتي أطلق بوش منها خطاب طمأنة المنطقة. ما جعل هذه الحفنة من المتطرفين على هذه الدرجة من النفوذ هو الهجوم الإرهابي على أميركا في 11 أيلول سبتمبر 2001 والعمليات الانتحارية ضد المدنيين في إسرائيل. تلك الذخيرة مكنّت هذه الزمرة وحوّلت أحلامها إلى واقع. جزء منها يقوم بحملة على السعودية ويواجه مقاومة من داخل الإدارة الأميركية. أما سورية فإنها محط ضغوط وحملات وتمهيد لاجراءات من نوع أو آخر. فأحداث 11 أيلول اطلقت عالماً جديداً يعطي الولاياتالمتحدة نوعاً من صلاحية القفز على القواعد والقوانين والمقاييس. ولا أحد يجرؤ على المطالبة بوضوح قوانين ومقاييس وقواعد صارمة يلتزمها العالم بعد 11 أيلول، لأن أميركا ما زالت في صدد فرزها تحت عنوان الاستثنائية. إنها شريعة الغاب وزمن ارتجال القوانين والقواعد. والفضل في هذا يعود إلى حفنة رجال ظنوا ان إرهاب أميركا أو تحديها هو سبيل الانتصار عليها من أجل تحقيق برامجهم أو من أجل ابراز عدالة قضاياهم. وفي هذا، انهم أغبياء. أغبياء لأسباب عديدة، منها أن حفنة أخرى من المتطرفين نصبت شراكها منذ زمن بعيد لتنفيذ مآربها في المواجهة، إنما عبر المؤسسة الأميركية بصبر وإلحاح، وباستراتيجية حذقة تأخذ في حسابها الاعتباطية العربية، ونزعة القيادات لوضع الأنظمة فوق البلاد، وسوء تقدير القيادات العربية للفرص والحسابات. القيادة الفلسطينية راهنت على قشور المعادلات فوقعت ضحية سوء حساباتها ومكابرتها وخضوعها لتفكير محلي لم يأخذ بتفكير واستراتيجية وتكتيك المؤسسة الإسرائيلية والمؤسسة الأميركية العاملة من أجلها. ولذلك طاول النسيان ليس فقط القضية الفلسطينية، وإنما أيضاً التجاوزات الإسرائيلية للقانون الدولي الإنساني ولممارسات ارييل شارون، رئيس الوزراء الإسرائيلي، كشخص ورموز وقيادة. صحيح أن جزءاً من استراتيجية القائمين على مصلحة إسرائيل أولاً وأخيراً تحويل المسألة العراقية إلى جواز سفر لغض النظر عما تقوم به إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، إنما الصحيح أيضاً أن العمليات الانتحارية والتردد في القيادة الفلسطينية ساهما جذرياً في تحويل عاطفة الرأي العام العالمي بعيداً عن عدالة قضية الشعب الفلسطيني. الرئيس العراقي لم يساهم في تحويل الأنظار إلى توازن أو تلاقٍ بين موضوع العراق وموضوع فلسطين، بل العكس، ففقد أدوات التأثير في ما سبق واعتبره استراتيجية مترابطة. وقع في فخ ابراز أزمة العراق على حساب قضية فلسطين بمثابرته على تقطير التعاون العراقي بدلاً من الإقدام على استراتيجية سحب البساط عبر تعاون عراقي باكر وفاعل بمبادرة واستباق ونقلة نوعية ضرورية في الفكر والذهن والسياسة. وبذلك ارتهن صدام حسين القضية الفلسطينية الى جانب ارتهانه العراق، ووقع في مصيدة حفنة المتربصين لمثل هذه الأخطاء. الأهم الآن التعرف الدقيق إلى شخصيات النفوذ في صنع السياسة الأميركية غير الوزراء وكبار المستشارين. فهم وضعوا تصوراً للخريطة الجديدة في منطقة الشرق الأوسط ولديهم كامل الاجوبة عن "ماذا" و"ثم "ماذا".