عندما يحصل الطالب الجامعي على الشهادة الجامعية، وتزغرد امه، ويفرح ابوه، وينظر اليه مجتمعه على انه الفارس الناجح المنتصر، وتتغير معاملة الناس له، على اعتبار انه العالم المثقف المثالي، القادر على التغيير الى الافضل، ورمز الشفافية والاخلاص. ولكن في معظم الاحوال ليست هذه هي الصورة الحقيقية او الواقع الا في حال قلة من الطلبة يتمتعون بحماية اجتماعية وأسرية ومالية، ونفوذ يجعلهم فوق المساومة، وفوق الاستغلال والانتقام والتعسف. فيخرج الطالب المحظوظ من الجامعة سليماً، معافى، محتفظاً بطهارته ونقائه وتفاؤله وأحلامه الوردية في المستقبل. اما الغالبية الضعيفة فإن معظمها عندما يتخرج يدفن في صدره سر نجاحه، وثمن هذا النجاح، وعار سقوطه الاول في معركة الحياة. وتبدأ المعركة مع امتحان القبول في الوظيفة، ووسيلة حصوله على الوظيفة، وشروط قبوله، وثمن الاستمرار فيها. فإذا استسلم، نجح وارتفع، وإلا نزل الى بئر النسيان، وضاع في عالم الضائعين. ووجد نفسه وجهاً لوجه امام كبار الذئاب الذين لا تصل اليهم يد القانون. فهو إما يخاف ويتقوقع، وإما يدخل ويغرق، ويسقط بعد ذلك حاجز الشرف، ويموت الضمير. والافلام والاقلام صورت لنا بشاعة هذا العالم، وسوق المصالح العليا الذي يقدم فيه الداخل كل شيء. وليست قصة نجيب محفوظ "القاهرة الجديدة" سوى تصوير بداية الدخول الى هذا العالم. وليس فيلم "الطريق المسدود" إلا صورة بدائية ساذجة عما يلاقيه الداخل الى عالم الوظيفة. وكذلك فيلم "بنت سيادة الوزير" رفع جزءاً من الستارة عن عالم رسالات الماجستير والأدب والنشر: من الذي يكتب؟ ومن الذي يشتهر؟ ومن الذي يطبل ويهلل لابداع بنت الوزير؟ وماذا يدور وراء عالم الشهادات العليا، وعالم الادب والشهرة؟ وما هو ثمن الشهرة؟ وما هو ثمن المجد الذي يدفعه الأديب الموهوب، والشاب الحالم بالمجد؟ سوق آخر للسمسرة والبيع والشراء، يتدرج ويصل الى الاحتكار والاستغلال والجريمة. ولعل قصص الصحف عن الانتهازي، والأديبة المزيفة، وشهادات الماجستير والدكتوراه المزيفة والمسروقة والمرفوضة لأن صاحبها لم يدفع الثمن، اقل القصص عرضاً، لأن الكتاب يخجلون من عرض عارهم على الناس بأيديهم. فالأديب في معظم الأحيان لم يصل الى الشهرة الا بعد دفع الثمن. فهو يخجل من فضح آلامه وسقوطه ومأساته. لهذا لا نجد افلاماً ولا قصصاً تعري عالم الادب، عالم الدراسات العليا، عالم الاطروحات. أما عالم الجامعة المغلق الحصين فهو قلعة الجرائم الخفية. فلا يتجرأ احد على دخوله او فضحه. لأن من يحاول فضحه انما يفضح نفسه! وفي بلد عربي أفتى بعض "العلماء" سراً بإباحة الرشوة، لأنها "مقابل خدمة"، او لأنها "ضرورة" ولأن المواطن لا يحصل على غرضه وحقه من دون رشوة، والطالب لن ينجح إلا بها. فأصبحت هذه "عرفاً قانونياً"، يؤخذ علناً. فالفرّاش في الجامعة مرتشٍ، والاستاذ مرتشٍ، والمعيد مرتشٍ، ومجلس الجامعة يغض البصر. ومن ليس له سند او حام ضاع في معارك الرحمة والظلم. هذه المافيا لا نعرف عنها شيئاً إلا ما يخرج من الجامعة الى المحاكم، مثل حوادث سرقة بحوث اجنبية، وتعريبها على يد اساتذة عرب. اما سرقة بحوث الطلبة، فلا يجرؤ احد على تقديم دليل عليها. وكتابة الاساتذة المتقاعدين للطلبة رسالات دكتوراه امر شائع. فلا يجرؤ احد على فضح هذه الجرائم ما لم تكن هناك جريمة جنائية ومن اين يؤتى بالشهود، والاساتذة شركاء وحلفاء؟ ومن يجرؤ على الوقوف في وجه كبار الاساتذة، وبعض القضاة لم يبلغوا القوس الا من المجد نفسه. ان الحوادث التي وصلت الى المحاكم هي وحدها الدليل على عالم مافيا التعليم في العالم العربي بعد ان ترك التعليم اساليب ابو حنيفة والشافعي وغيرهما، وأصبح للعلم جهاز بيروقراطي، وعصابة منتفعة، اصبح العلم بثمن تجاره. وفي الجامعات الحكومية، الرشوة هي اكسير الحياة. وهي على انواع، فمنها الطائفية، والحزبية، والأسرية، والشخصية، وكل ما يخطر في البال. ومن يسدد الثمن يفقد طهارته، ويصبح فاقد المناعة. فالذي يسقط مرة سقطة كبرى لن يجد رادعاً يردعه، او يمنعه من استمرار السقوط. بيروت - رضية إحسان الله