"أعلم أنك تحب الحكايات، وأنك كلما سمعت قصة ذهبت وكتبتها في دفاترك أو نشرتها في الجريدة. قرأت ما كتبته عن عملي خياطاً مع الإنكليز ولا أعلم لماذا أضفت كل تلك التفاصيل الخيالية. لم أجد ما كتبته كاذباً لكنه ليس دقيقاً أيضاً. نسبة الخيال الى الواقع فيه كنسبة الماء الى البن في هذه الركوة. أن تبتسم ولا تقول كلمة فهذا يعني أنك توافقني الرأي. اسمعْ هذه القصة، ما دامت صحف هذه الأيام لا تحكي إلا بسيرة الرؤساء والمنافي، وإذا أردت انقلها الى القراء. هذا إذا كنت تحسب أن أحداً ىقرأ فعلاً. في أي حال لا تفسدها بإضافة ما لا يلزم". * يمكن أن يكون العنوان: غرفة الملك فاروق. "أنت تعرف الملك فاروق، ملك عابدين، ملك مصر. بعد 1952 بات ملكاً بلا مملكة. اكتبْ كل هذا بأسلوبك الخاص. أعلم أن الكتابة غير الكلام. المرحوم خالي التقاه في لويزيانا. كانا ينزلان في الفندق ذاته. الغرفة في مقابل الغرفة. هناك صورة فوتوغرافية تجمعهما لكنها ضاعت في الحرب. كان ضخماً، بديناً، بنظارات قاتمة، وقميص واسعة فوق البنطلون. بعد أن طرده الضباط الأحرار عثروا في قصره على كرسي منحوتة من قطعة خشب واحدة بخمسة أرجل. خمسة أرجل لكي تحتمل ثقل جسمه. في إحدى الغرف عثروا على ثوب للملكة الأم نازلي يحلم كل خياط أن يرى مثله. ثوب لم يستطع أربعة رجال حمله من الجواهر الكثيرة التي تزينه. كيف كانت الملكة تلبسه وتمشي، لا أعرف، ربما كانوا يحملونها كما في الأفلام عن كليوباترا. لكن هذه ليست الحكاية التي أريد أن أخبرك إياها الآن. كنت تسألني عن مغامرات خالي في أفريقيا. تذكرْ ان ذلك حدث قبل زمن بعيد وانني سمعت القصة مُقطعة غير متصلة، ولم أسمعها من طرف واحد فقط. خالي حكى، وأصحابه نقلوا عنه، كما أنني قرأت أشياء في الصحف، ورأيت فيلماً على التلفزيون عن الامبراطور بعد أن صار فقيراً يعيش في قصرٍ عتيق جنوبفرنسا". * "الفرنسيون هم الذين دبروا الانقلاب على بوكاسا في 1979 وأزاحوه من السلطة.13 عاماً في القمة ثم سقط. أسقطه حليفه جيسكار ديستان. هذه معلومات يمكن أن تقرأها في الصحف. ثم هناك أقاويل عن زوجة بوكاسا، الامبراطورة كاثرين، التي ذهبت الى لوزان بعد سقوطه وكانت على علاقة طيبة بالفرنساوي ديستان. هذه كلها حكايات معروفة. خالي التقى الإمبراطور المخلوع بوكاسا في الإقامة الجبرية في ساحل العاج سنة 1980. التقاه في فيلا في قلب أبيدجان. الإمبراطور المخلوع قال ان صديقه ديستان سرق منه كل شيء. الامبراطورة والبلاد والألماس، لم يترك شيئاً. قال إنه حبيس هذه الفيلا، وهذه الحديقة اليابسة بنباتها الشوكي، وهذه السجاجيد القديمة على الحيطان. هزّ الصولجان الذهب الطويل في يمناه وقال إنه عائد". * يروي ريكاردو أوريزيو انه حين أراد أن يؤلف كتاباً عن "سبعة طغاة من العالم" وجد نفسه مندفعاً للقاء بوكاسا. منذ قرأ مقالاً عن بوكاسا في "الغارديان" استولى الرجل على مخيلته. بحث أوريزيو في الكتب وقابل الإمبراطور المخلوع أكثر من مرة أثناء 1995. استطاع أن يبني للرجل ما يشبه حياة متصلة منذ غادر السلطة سنة 1979 وحتى وفاته عن 75 عاماً في 3 تشرين الثاني نوفمبر 1996. أوريزيو وصف الرجل العجوز وقد تخلى عن طموحه السياسي وجلس في ثوب رهباني أبيض في "فيلا ناصر" على اسم الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر في جمهورية أفريقيا الوسطى. رجع بوكاسا الى بلاده عام 1986، لكنه لم يرجع رئيساً. العملية "براكودا" أخرجته عام 1979 الى المنفى. حاول اللجوء الى ليبيا، لكن الرئيس معمر القذافي بحسب أوريزيو كان منشغلاً عندئذٍ بتأمين لاجئ آخر هو عيدي أمين الهارب من أوغندا. الفرنسيون أقنعوا ساحل العاج باستقبال بوكاسا. في "فيلا كوكدي" أبيدجان اكتشف الامبراطور المخلوع أنه بات فقيراً. الإمبراطورة فرَّت الى سويسرا بثروةٍ صغيرة وقلبٍ بارد. "إمرأة جميلة لكن قلبها كالثلج"، قال لأوريزيو. حين احتاج الى المال باع قصوره في فرنسا بنصف ثمنها. بعد عام سافر الى باريس، ورفع دعاوى قضائية لاستعادة ممتلكاته الفرنسية المصادرة. نجح في استرجاع قصر خارج باريس. في القصر القديم المتداعي عاش بين أولاد لا يعرف عددهم، يتسلق سلالم طويلة الى غرفة النوم كل مساء، ويقضي نهاراته بين قاعات واسعة وممرات تفضي الى باحات موحلة. كان القصر بارداً. لم يكن يملك المال الكافي لتدفئة المكان. "لا نقود في جيبي، وعندي 15 ولداً هنا عليّ إطعامهم"، قال للصحافيين الفرنسيين في شتاء 1985، "وكل يوم أتلقى فواتير جديدة: كهرباء وماء ورسوم بلدية وهاتف. من أين أجلب المال لأدفع؟". كان العام ينتهي واحتفالات الميلاد ورأس السنة تضيء باريس بالكهرباء والألعاب النارية والمفرقعات. * في 1986 رجع بوكاسا الى بلاده. بعد محاكمة أولى تلقى حكماً بالإعدام. إثر محاكمة أخرى في 1987 وُضع في السجن المؤبد مع تعليق الأشغال الشاقة. عام 1993 أُطلِق سراحه. طوال الأعوام الثلاثة الباقية من عمره عاش في "فيلا ناصر" في العاصمة شبه وحيد. هنا، في خريف حياته، التقاه أوريزيو وسأله عن الجرائم التي ارتكبها. تظاهرة الطلاب مثلاً، حين فتح الجيش النار وقتل 150 شاباً وشابة. سأله أيضاً عن تهمة أخرى: "أكل لحوم البشر". أجابه بوكاسا انها تهمة ملفقة: "لفقوا التهمة لتدميري. كنت ضابطاً فرنسياً قبل أن أصير رئيساً، كيف أكون آكلاً للحوم البشر؟ إنها كذبة... تسألني عن جرائم؟ وهل أنا الوحيد؟ ماذا عن الإسرائيلي، ما اسمه؟ آرييل شارون. لماذا تُغفر له مجازر صبرا وشاتيلا، وأنا لا يغفر لي؟ فقط لأنني أفريقي؟". * "لا، لا أعرف هل كان يأكل لحوم البشر، ولا أعرف الكثير عن أعماله السياسية وكيف حكم بلاده. هذا الكتاب، ما اسم المؤلف، أوريزيو، كتاب عن سبعة طغاة من العالم؟ حلوة فكرته. بأي لغة مكتوب؟ ربما إذا ترجموه الى العربية أقرأه. أحب قراءة الكتب التي تخبر قصصاً حقيقية. في الصحف والمجلات أتابع دائماً التحقيقات المصورة. خصوصاً ما يتعلق ببلدان لا أعرفها. في السبعينات كنت أقرأ مجلة اسمها "العربي". ما زالت تصدر؟ لم أكن أعرف ذلك. كنت أحفظ أعدادها في صناديق. لكن كل كتبي ضاعت في الحرب بين جعجع وعون. هذه الأيام لا أقرأ كثيراً. تدمع عيناي. العمر يحرق الشبكية. أستطيع الخياطة مغمض العينين. أما القراءة... لا تقدر أن تقرأ بعينين مغمضتين". * "إذا كتبت هذه القصة في الجريدة اكتبْ أن بوكاسا كان عنده زوجات كثيرات عنده أولاد في أنحاء العالم، وابنة تعيش في لبنان، وكان عنده القصور والسيارات والثياب والألماس والجنود والحدائق، وكان عنده كل ما يطلبه الإنسان، وكان عنده الذهب وصولجان ذهب، وكان يسود على بلاد. اكتبْ ان بوكاسا كان عنده كل هذا ثم خَسِر كل شيء. لكن اكتب انه احتفظ بالصولجان. وانه هزّ الصولجان في وجه خالي. وددتُ دائماً أن أكتب هذه الأشياء".