المراقب للتصريحات الأميركية المعقّبة على الشريط الصوتي الأخير الذي بثته محطة "الجزيرة" لأسامة بن لادن، سيلاحظ من دون شك درجة كبيرة من الارباك، وسيُغرق نفسه بأسئلة عدة عن ذلك اللغط الذي سبق بث الشريط. فالارباك الأميركي مصدره خسارة واشنطن الدلالات الرمزية في حربها على الأرهاب التي لم يبق منها الا صورة بن لادن: صورته التي راح الأميركان يلاحقونها من تورا بورا الى مناطق القبائل البشتونية في باكستان، والتي رجح المسؤولون الأميركيون ذواءها في احد الأنفاق التي دمرتها القذائف الذكية. كان مهماً بالنسبة الى الأميركيين قتل هذه الصورة. فبن لادن صار بفعل الملاحقات عدواً متوهماً لا يصبح النصر ناجزاً من دون الاتيان برأسه. انها الشحنة الرمزية التي ساهم الأميركيون في حقنها واعطائها لحربهم على الإرهاب، اذ دخل بن لادن الى ادبيات هذه الحرب كممثل للشر وكصورة للشيطان. فهو ليس عدواً تقليدياً متمثلاً بجيش وسلاح، ومتمركزاً في خنادق وجبهات. انه معنى. هذا ما اراده الأميركيون، وهم بذلك وقعوا في شر ما ارادوه. فالخلط بين المعنى وبين العدو المتمثل في جسم ووجه في حروب من هذا النوع سيؤدي الى خيبات كالتي اصاب بها بن لادن اميركا بالأمس. لقد اصبح مهماً ان يبقى الرجل حياً حتى يصيبهم بالهزيمة. انه البعد الخرافي للحرب. الهستيريا الدينية التي بها مهّد الأميركيون للحرب. الهستيريا التي دفعت بعمدة بلدة قرب كاليفورنيا الى اصدار قرار "يجرد الشيطان من حق الاقامة في البلدة" واوكل العمدة مهمة تنفيذ هذا القرار الى الشرطة والقساوسة معاً. شريط بن لادن هذه المرة يحمل اكثر من خيبة. فقد روى الرجل معركة تورا بورا، وأرسل روايته الى العراقيين حتى يستفيدوا منها، وفي الوقت نفسه الهب مخيلات متحفزة لشحذ خرافة جديدة في مواجهة خرافة النصر الأميركي. حمل كلامه هذه المرة بُعداً واقعياً. فهو تحدث عن الخنادق المموّهة وانواع الطائرات والقذائف وحدد تواريخ المعارك ولحظات تأججها، وميز بين معارك الليل ومعارك النهار وعدد المقاتلين، والمسافة التي تفصل خندقاً عن آخر. وهذه الوقائع لها قوة مضاعفة حين تدخل وعي جمهور عربي تتنامى نزعاته غير المتقبّلة للزعامة الأميركية، فما بالك بأولئك الذين استبطنوا بن لادن إما كخرافة وخلاص او كشيطان وشر. بالنسبة الى من يعتبرونه خلاصاً، من المؤكد ان تورا بورا صارت قادسية ثانية. فهم حتى تاريخ بث الشريط لم يكونوا يملكون مادة لاطلاق خيالهم، اما بعده فصار في امكانهم تعليق جداريات برتقالية يُطل من بين الوانها فرسان القاعدة في تورا بورا. اما اصحاب نظرية الشيطان، فمن المفترض ان يشكل لديهم انبعاث الصوت واضحاً على محطة "الجزيرة"، تحطم الخرافة المضادة. اذ ان الخير لم يتمكن من افناء الشر، والشيطان الذي اصدر عمدة البلدة الأميركية قراراً بمنعه من الدخول الى البلدة، عاد ودخلها من خلال شاشة ال"سي ان ان" التي نقلت عن "الجزيرة" الشريط كاملاً ومترجماً. حاولت الادارة الأميركية التعويض عن خيبتها بأن تجعل من الشريط دليلاً على علاقة العراق بالقاعدة. انتقلت من الدلائل الحسية المعدومة الى محاولات استنتاج لا تقل غرابة. فقال الناطق باسم الخارجية الأميركية ان الشريط الصوتي يؤكد وجود مصالح مشتركة بين القاعدة والعراق. انه هبوط في مستوى الدلائل، وكأنهم يخرجون من جعبتهم أصفاراً كبيرة. فقبل اسبوع تقريباً انتظرنا أدلة كولن باول في مجلس الأمن، فجاءت مُخيبة ومترافقة مع شروحات لا طائل منها. ولا يبدو ان تلقفهم لحكاية الشريط الا تأكيداً على خلو جعبتهم من اي دليل. ويبدو ان قضية اثبات علاقة العراق بالقاعدة لا تهدف الى تسويق الحرب خارج الولاياتالمتحدة، اذ تبدو ضآلة الأدلة الأميركية عاجزة عن النفاد الى رأي عام مركّب ومتطلب. اما في اميركا، فالجمهور الذي صُوّر له بن لادن كشيطان وممثل للشر، لا تعوزه الأدلة الدامغة حتى يوافق على حرب يعتبر الارهاب الذي دمر البرجين والبنتاغون طرفاً فيها. اذاً الأميركيون يخاطبون انفسهم بهذا الخطاب الركيك، ولا يتوجهون الينا. بالأمس، عندما اعلن باول عن وجود رسالة لبن لادن تؤكد علاقة العراق بالقاعدة، حصل هذا قبل بث الرسالة على شاشة "الجزيرة". نفت المحطة وجود الرسالة، ثم عادت واعلنت عنها. وبعد بثها استضافت الناطق باسم الخارجية الأميركية ريتشارد باوتشر، فشعرنا ان ثمة تواطؤاً بين "الجزيرة" وبين الأميركيين يشبه التواطؤ الحاصل بين القناة وبين بن لادن. ثمة لعبة اطرافها خصوم ثلاثة، هم حلفاء واعداء في آن، اذ كيف وصلت الرسالة الى الأميركيين قبل ان تبثها "الجزيرة"؟ وما سر تلك الابتسامات التي اجاب بها باوتشر عن سؤال "الجزيرة" عن طريقة وصول الرسالة الى الخارجية الأميركية؟ اذاً بن لادن ما زال حياً على رغم القذائف المتغلغلة في الكهوف، وعلى رغم مرور ما يقارب سنة ونصف السنة من الحرب على الارهاب. ويبدو ان الادارة الأميركية مستعدة للقبول بهذه الهزيمة الرمزية في حال تمكنها من توظيفها في نصر لاحق. هذا ما أوحى به تدرج التعليقات الأميركية على الشريط الصوتي. فباول، وقبل بثه، قال انه يثبت علاقة العراق بالقاعدة، وباوتشر تراجع قليلاً ووصفه بأنه تأكيد على وجود مصالح مشتركة، لكننا هنا بصدد السؤال عن أمر آخر قد لا تعيره الادارة المنهمكة بتجميع الأدلة اهمية في الوقت الراهن، الا وهو وقع الشريط على مجتمع خاض حرباً مقدسة لأكثر من سنة وكاد يعتقد انه تمكن من قتل الشيطان، ليكتشف ان الصورة ما زالت جاثمة؟ السياسة في جريانها اليومي تجرف معها ما سبق ان ارسته من رموز وتعاويذ. فاعتبر الأميركيون للحظة ان بث الشريط يمكن ان يوظّف لمصلحتهم في معركتهم مع شيطانهم الجديد. بثت المحطة القطرية الشريط بعد ان وصلت نسخة منه الى الخارجية الأميركية. انبعث بن لادن من تورا بورا بينما كان المارينز على ابواب بغداد. فُجعنا نحن بالأمر. اما المسؤول الأميركي الذي ظهر مبتسماً على محطة "الجزيرة" فكاد يقول: "لا بأس فالقضية بالنسبة الينا، نحن الدولة الكبرى، مجرد ذريعة نستجمع بها همم مواطنينا.