يُشكل الاحتكاك الثقافي مساحة أولية إما للحوار بين الجماعات أو للتصادم في ما بينها، وبينها وبين السلطة. وذلك تبعاً لمواقف الرفض أو القبول والانفتاح أو الانغلاق، والمرونة أو التشدد، والى ما هنالك من عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية محلية واقليمية وعالمية، تجعل من الاحتكاك الثقافي مصدراً للغنى الحضاري أو للتخلف والتقوقع. ونظراً لكل هذه المؤثرات، لا بد للاحتكاك أن يأخذ أشكالاً متعددة ينتج من تفاعلاتها واقع تاريخي محدد. نذكر من هذه الأشكال ما يأتي: أ - يأخذ الاحتكاك أنماطاً قد تؤدي بالمجتمعات الى اللقاء أو الى الافتراق. ذاك أن الاحتكاك قد يكون بين ثقافتين متشابهتين أو متضاربتين. فالتضارب قد يؤدي الى تصادم وربما الى عنف وعداء، خصوصاً متى طغى عنصر من مكونات الثقافة، على العناصر الأخرى، وكان هذا العنصر حاجزاً بين الجماعات، فيحدد سلفاً سلبية العنصر المقابل له عند الجماعات الأخرى، ما يجعل الآراء المسبقة تحكم على العلاقات، هنا يجدر بنا أن نحدد بعضاً من أشكال الآراء المسبقة المتحكمة بأجواء الاحتكاك: 1 - في ما يخص التنوع: اختلاف ثقافة الآخر عن ثقافتي لغة وديناً وأنماط سلوك، يعني أنه يتصرف في شكل مغاير لتصرفي. لأجل ذلك يصعب بل يستحيل إقامة علاقات بناءة ومثمرة معه. 2 - في ما يخص الأولويات الحياتية: حين تجعل واحدة من الثقافات في أول اهتمامها العلم والعمل والضمان الاجتماعي والإنماء، وتضع أخرى التسلح والحرب والغزو والعصيان المدني المعلن أو الخفي. هذا الواقع يؤدي الى اختلاف أساليب التعاطي مع الأمور اليومية، وينشأ شرخ وتباعد كبير بين الجماعتين، فتنظر واحدة الى الأخرى من خلال عقدة النقص. 3 - في ما يخص المحاذير والأخطار: حين تجد جماعة في الأخرى تهديداً لخصوصياتها وكيانها وحياة أفرادها، فتنظر إليها كأنها تقاسمها الخير الذي من المفروض أن يكون لها وحدها. هذه الآراء المسبقة تولِّد عصبية وعنصرية عند كلا الطرفين تكونان أساساً للحكم على الآخر، ودافعاً أساسياً للاستكبار واستصغار الآخرين والتقليل من شأنهم، ما يجعل إمكان الحوار مستحيلاً. ب - تختلف نتائج الاحتكاك تبعاً للأرض التي يحصل عليها هذا الاحتكاك. فإذا ما حصل على أرض قلَّ سكانها الأصليون وضعفوا أمام المستعمرين، غلبت ثقافة الداخلين على ثقافة المقيمين وانتهت هذه الأخيرة بالاضمحلال، كما حصل لسكان استراليا الأصليين إزاء حضارة المستعمرين على أنواعهم. أما اذا حصلت على أرض ثابتة المؤسسات والنُظُم، كما في أوروبا التي تستقبل ملايين المهاجرين، ينتهي الأمر بأن يكتسب المهاجرون ثقافة البلاد المضيفة وإن كان لهم بعض الأثر في تطعيمها بشيء من ثقافتهم. غير أن التحكم الكامل بنتائج هذه النماذج من الاحتكاك ليس أكيداً، فقد نرى جماعات تعايشت على أرض واحدة وكان التأثر والتأثير متبادلاً، فإما أن يأخذ واحد اللغة ولا يأخذ الدين، أو يأخذ بعض العادات ويترك أخرى، وتبقى هذه الثقافات متمايزة على رغم مرور مئات السنين على الاحتكاك. فمثَلُ العرب والأتراك يدلنا كيف أن الدين المشترك لم يعط اللغة الواحدة، ومثل السريان والعرب يدلنا كيف أخذ السريان اللغة ولم يأخذوا الدين، والإسبان والعرب يدلنا أن الإسبان لم يأخذوا لا اللغة ولا الدين، وكذلك اليهود والعرب. هذا يعني أن حتمية النتائج أمر غير مؤكد، وأن الحدود الثقافية على رغم الاحتكاك الطويل، تبقى قائمة، وأن الوقت لا قيمة له في إسقاط الهوية الجماعية، إذا ما عرفت هذه الهوية كيف تتحصن ضد محاولات الابتلاع. ج - يتأثر الاحتكاك بالأسباب التي كانت وراءه. فقد يتم الاحتكاك بين جماعتين قسراً أو إرادياً، وذلك لأسباب اقتصادية أو عاطفية أو سياسية أو عسكرية أو ثقافية. وقد يتمُّ بعد تمهيد الطريق بأساليب متنوعة منها التربية والتعليم، أو الإلزام والقهر. فإن تمّ طوعاً كانت النتائج أقرب الى المنطق وربما لمصلحة الجميع، كما يحصل مع المهاجرين الراغبين في الدخول الى بلد معين. وإن تم قهراً ولَّدَ تنافراً هو وليد عدم الرغبة المتبادلة بوجود هذا الآخر. وهذا ما حصل آخيراً حين هربت جماعات من الألبان الى إيطاليا، أو من الجزائر الى فرنسا أو من الفلسطينيين الى بعض دول العرب والى لبنان. د - تتأثر نتائج الاحتكاك بالمستوى الثقافي للجماعات. لذلك من المستحسن أن يتم الاحتكاك بين جماعات لها الدين ذاته واللغة ذاتها والتاريخ ذاته، وهذا خير من أن تلتقي جماعات لا رابط بينها، لا على المستوى الرمزي ولا مستوى القيم والنظم وأنماط السلوك الاجتماعي، لأن الاحتكاك يتأثر، أكثر ما يتأثر، بكيفية فهم كل جماعة للأخرى. فبعض يرى ضرورة زوال الآخر إما بالرحيل أو باقتباس ما عندي ليصبح مثلي. وبعض يعترف بالآخر، ولكنه يرى فيه مصدر إزعاج وتهديد، لذلك يفضل أن يبقيه تحت المراقبة. وثمة بعض يرى الإيجابيات بوجود الآخر، ويعتبره مصدر غنى للإثنين أفراداً وجماعات. ه - تتأثر نتائج الاحتكاك بطول الوقت أو بقصره، لأن الزمن كفيل بخلق تطورات وتغييرات أساسية في نوعية العلاقات. وهنا يمكن أن نذكر أربع مراحل من عمر العلاقات وتحولاتها: 1 - الأولى، تبقى فيها المجموعة الدخيلة خاضعة تمام الخضوع للنظم القائمة، فتسعى لتعلُّم اللغة إذا كانت تجهلها، وتتبع القوانين من دون جدال، إدارياً واجتماعياً واقتصادياً، وكل ذلك كي تتمكن من الاستمرار. 2 - الثانية، هي مرحلة التحرك الجماعي أمام بعض الصعوبات المقبولة في مرحلة أولى، وخصوصاً تلك التي تتطلب بعض التضحيات. 3 - الثالثة، هي مرحلة اكتشاف القيمة المادية للتضحيات المطلوبة، ويتبعها فوراً اكتشاف القيمة المعنوية والنفسية، وهذا الأمر يُحكِم الروابط بين أفراد الأقلية الواحدة وداخل الأقليات على اختلاف مشاربها، وتنشأ قيادات تستثمر هذا الشعور وتبدأ بالمطالبة المدعومة بالتحرك الجماعي، خصوصاً اذا ما لمست مماطلة أو تهرباً من قبل السلطة أمام المطالب الجماعية الملحة. 4 - الرابعة، هي مرحلة اليقظة الإتنية، وقد تكون هذه اليقظة عند الدخلاء وعند السكان الأصليين، وتبدأ عبارات "نحن وهم" أو "لنا ولهم" تشير في شكل واضح الى التمييز بين الدخيل والأصيل، وتتفاعل أسباب التفرقة حتى تشمل القطاعات الأساسية كالمواقف السياسية، والتحالفات، والقيم الاجتماعية، والإنماء المتوازن، والتربية والتاريخ واللغة. وتبدأ من هنا وهناك نداءات للحوار بين الثقافات، تدعو الجميع كي يتوافقوا على قواسم مشتركة، وتتعقد متطلبات الحوار، أي الأولويات التي يجب أن يُبدأ بها، ويضع كل فريق محرماته، لا يتنازل عنها، أو لا يقبل البحث بها. وكل هذا دليل على القسمة المتجذرة أصلاً، وأن محاولات التوحيد تتطلب معجزة عقلية وربما سماوية. كل هذا دليل على أن الثقافة والإتنية والدين والعصبية واللغة والرؤيا المستقبلية، التي من شأنها أن تكون موضع غنى متبادل، نراها تقف عثرة وتزيد من الإنغلاق وتوسِّع الشرخ بين الجماعات التي دفعتها ظروفها الى العيش على أرض واحدة. أضف الى كلّ ما سبق ان الجماعات تسعى للتلاقي، او تُدفع إليه، أو ترفضه او تتجنّبه خوفاً من التأثر بالثقافة المغايرة. لذلك نرى جماعات منفتحة لا تخاف التعاطي مع الآخرين، وإقامة علاقات فكريّة حضارية سياسية تربوية وما شابه، وذلك انطلاقاً من ثقافتها ومن الثقة بالنفس التي تؤكد ثبات المعطيات الموجودة لديها وصحتها. بينما نجد جماعات اخرى حذرة، تتريّث وتراقب قبل المبادرة بأي نوع من العلاقات، وهذا امر طبيعي، خصوصاً إذا كانت هذه الجماعة مرّت بتجارب مخيّبة للآمال. كما نرى ثقافات مقفلة مُنغلقة تخشى "العدوى الثقافية" إذا جاز التعبير، فتحارب كل دخيل وتمنع عن ابنائها، بموجب القوانين الوضعية واستناداً الى الشرع، اي انفتاح على ثقافة الآخر، وذلك لعدم الثقة بما لديها ولهزالة او هشاشة المعطيات التي بنت عليها رؤياها المستقبلية، او لضعف المنطق امام تجارب المجابهة العلمية الرصينة البعيدة من كل نزوات التطرف والأصولية والمنبرية التي تتبدل كل يوم، بحسب الظروف والأهواء. لاحظنا حتى الآن كثرة الاعتبارات والعوامل التي تزيد صعوبة الاندماج بين الإتنيّات والأقليات الثقافية، وأن محصِّنات الهوية لا يمكن ان تموت، وإن طال زمن محاولات تفتيتها او تذويبها في هوية واحدة او ثقافة واحدة. لذلك بات من الضروري درس حلول تجعل امكان التعايش في المجتمع، الى حد يقلل الصدامات إن لم يكن قادراً على إزالتها بجملتها. لا شك في ان القناعة تزداد يوماً بعد يوم في ان التعددية طغت على المجتمع الإنساني الحالي، ليس من حيث وجود جماعات اتنية متعددة فقط، بل من حيث تأثير هذه الجماعات في الصعد الاجتماعية الثقافية الاقتصادية والسياسية. وهذا الأمر كان سبباً لمخاوف كثيرة ولآمال كبيرة، خصوصاً في الدول الغربية الاغترابية، من دون ان يكون الشرق وإفريقيا بعيدين من هذا الواقع. هذا ومن الملاحظ، إن على صعيد الدولة او على صعيد العالم، أنّ هناك خطين بارزين يسيران معاً هما: التوجه نحو العولمة من جهة، لما تتيحه من تجانس في السلوك الفردي الاجتماعي في شكل عام، والتوجه نحو التنوّع والتمايز لما نراه من يقظة الإتنيات في معظم انحاء العالم. كما نلاحظ ميلاً الى الاتحادات والتجمعات الدولية من جهة، كما جرى في اوروبا أخيراً، ومن جهة اخرى نرى ميلاً للاستقلالية والتفرق، وتكفي نظرة الى الاتحاد السوفياتي السابق وإلى يوغوسلافيا او افريقيا الوسطى والغربية وبعض مناطق آسيا، لنتثبّت من هذه الظاهرة. وإذا كانت العولمة تدفع المجتمعات نحو التجانس ولو بالظاهر، فإننا لا نزال نرى الروابط الأساسية تحدُّ، بشكل فاعل، من انصهار المجتمعات، كما نلاحظ ان الشعور بالانتماء الى هوية معينة، لا يزال على اشده في مناطق واسعة جداً من القارات كافة. فاللغة والدين والعصبية الدموية والتاريخ والأرض، ما زالت موضع تغن وافتخار، وبالتالي فالثقافة المميزة للشعوب ما ذابت ولن تذوب، أقله في المدى المممكن تصوره. غير ان هذه الروابط ليست بالضرورة سبب وحدة كاملة، فلو أخذنا سويسرا مثلاً، لرأينا تاريخاً يوحّد ولغات تفرّق، امّا اوكرانيا فاللغة فيها توحّد والدين يفرّق، وفي إسبانيا الدين واحد والعصبيات تفرّق، وفي الولاياتالمتحدة الدولة توحّد بالمؤسسات، والإتنيات تفرّق. اما في الشرق الأوسط فإننا نرى ايران جمهورية اسلامية لغتها فارسية، وتركيا إسلامية الدين وتختلف عن المسلمين باللغة والحرف، اما في لبنان فالدولة توحّد بالمؤسسات والشعب يتفرّق بالانتماءات الدينية واللغوية والتاريخية والسياسية احياناً. * عميد كلية العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة الحكمة - بيروت.