عندما يثار الحديث عن الهوية الثقافية تتبادر إلى الذهن أمور كثيرة كاللغة والطعام والملبس والأهازيج والأدب والعادات والدين، ولكن أكثر هذه العناصر الثقافية إثارةً للنقاش والجدل هو الدين ومكانه في الدولة المدنية الحديثة. وإذا اتفقنا على أن من أهم المعالم التي تميز الدولة الحديثة هو كونها مدنية تحترم حقوق الإنسان وحرياته الفردية والعامة وتعامل جميع مواطنيها على قدم المساواة من دون تمييز بسبب دين أو عرق، فهل يمكن أن يكون للخصوصية الدينية التي تمتزج بهذه المنظومة القيمية دور سلبي يعوق تكوين هذه الدولة؟ هنا لا بد أن نلاحظ أن الدولة ليست هي النظام السياسي فحسب وإنما هي أيضاً تجليات قيم الحق والخير والجمال في مجتمع ما والتي لا بد أن تتأثر بالخصوصية الثقافية والدينية للمجتمع. يريد بعض المنادين بالعلمانية وبفصل الدين عن الدولة أن يعزلوا الدين بشكل كامل عن الحياة العامة والسياسية والتشريعية بل والتعليمية، بدعوى أن الدين عامل تفرقة وتشرذم بين مكونات المجتمع وأنه مدعاة للتمييز بين المواطنين في الوطن الواحد. وإذا كان مبدأ فصل الدين عن الدولة يعني عملياً المساواة بين المواطنين بغض النظر عن الدين في العمل والتعليم وأمام القضاء بحيث لا يحصل أي تمييز في الحقوق والواجبات، فهذا أمر مطلوب وضروري في الدولة الحديثة، وأما إذا كان المقصود هو منع التأثر بالدين في النشاط السياسي والتعليمي وفي التشريع فهذا أمر غير واقعي وغير مسلم به حتى في الديمقراطيات الغربية العريقة حيث نجد أمثلة كثيرة على وجود الإرث الديني والطابع المسيحي أو اليهودي في نصوص دستورية أو قانونية وفي توجهات سياسيين وأحزاب. ثم هل من المفروض أن تكون كل التطبيقات الديموقراطية نسخة واحدة من دون أي اعتبار لصبغة ثقافية أو خصوصية دينية وأن نعمل على اجتثاث جذور المجتمع من تربتها الطبيعية وخلق بيئة مصطنعة لا تنبت الزرع ولا تخرج الكلأ، كما حدث حين طبق أتاتورك بين عشية وضحاها النموذج العلماني بشكل متطرف مما سبب أضراراً جسيمة في الوجدان والشخصية لدى الأمة التركية لم تبرأ منها حتى اليوم، في حين لم يحقق هذا التطبيق الأتاتوركي بتقليده الأعمى التقدم المنشود. التشبث بالهوية الثقافية أو الدينية أو العرقية قد يتحول إلى ظاهرة مرضية هدامة إذا اتخذ منحى عنصرياً متعصباً يستبعد الاندماج والمشاركة المجتمعية مع الآخرين المختلفين. وفي المقابل إذا رفضنا القبول بثوابت أخلاقية أو قيمية فإننا بذلك نفقد ذاكرتنا وإنسانيتنا ونجد أنفسنا تحت رحمة عقل علماني نفعي من دون اعتبار لأي قيمة إنسانية أو أخلاقية، مع ما يولد ذلك من انحرافات خطيرة كما رأينا في الأحزاب النازية التي وصلت إلى السلطة بصورة ديموقراطية وأخذت تنكل بالأقليات من يهود وغجر وبالعجزة بدعوى أنهم طفيليات تؤذي المجتمع، وقد لاقت هذه النظرة النفعية العنصرية قبولاً واسعاً آنذاك من عموم الناس. ونجد اليوم كذلك أن صناع القرار الغربيين ينهجون النهج النفعي العنصري نفسه ويتراجعون شيئاً فشيئاً عن مبدأ الدولة أو المجتمع المتعدد الثقافات لمصلحة الثقافة السائدة ومنظومة القيم الأحادية التي تنتمي إليها الغالبية الأوروبية في محاولة لإذابة وتفتيت ثقافة الأقليات وعلى رأسها الثقافة الإسلامية بدعوى فشل سياسة الاندماج ومحاربة التطرف الإسلامي. وإذا أخذنا في الاعتبار الظرف التاريخي لدولة الخلافة الإسلامية قديماً من دون أن نقيّمها حسب مفاهيم الدولة الحديثة المعاصرة، نجد حضارة مترامية الأطراف استطاعت بتسامح واحترام للتنوع أن تستوعب شعوباً وأدياناً وأعراقاً مختلفة من دون المساس بهذه المكونات التي شاركت في صنع تلك الحضارة ذات المرجعية أو الخصوصية الإسلامية. ولا يقتضي اعتماد المرجعية أو الخصوصية الإسلامية أن نقوم بعملية تكرار لتطبيقات وتجارب تاريخية سالفة أو أن نمتثل لآراء فقهية نشأت في بيئات أو فترات زمنية معينة، وإنما المقصود بالخصوصية الثقافية الإسلامية الثوابت والمبادئ الكلية والمقاصد الشرعية التي تشكل روح الدين الإسلامي وجوهره. وكما يقول الفقهاء فإن الأصل في العبادات هو الاتباع وأما في المعاملات فالأصل هو الابتداع، لذلك نرى مثلاً أن صورة الحكم في الإسلام جاءت بسيطة تقوم على مبدأ الشورى ليتنافس الناس في بناء مجتمعهم وإنماء حضارتهم. إن خصوصيتنا الثقافية الإسلامية هي عامل ضروري لا بد من استثماره جيداً في عملية الانتقال السليم إلى فضاء الدولة الحديثة والتميز الحضاري. وإذا كانت الدول الأوروبية المعاصرة قد مرت بمخاض تاريخي وفكري طويل قبل أن تستقر معالم الدولة الحديثة في العقل الجمعي الأوربي، فإنه من غير المجدي أن تستخدم النخبة الشواهد الفكرية والتاريخية نفسها في عملية التحول إلى الدولة الحديثة في المجتمع المسلم الذي لم يمر بالمسار الفكري نفسه ولم يمارس الثقافة الديموقراطية كما هي الحال في الدول الأوروبية. لذلك فإن معالم الثقافة الإسلامية بما تتضمن من قيم مثل حرية الإنسان وكرامته والمساواة والعدل وغيرها، لا بد أن تشكل وسيطاً لإحداث نقلة نوعية باتجاه الدولة الحديثة وترسيخ ثقافة ترفض أوضاع الاستبداد والفساد والتخلف. ولئن كان من غير المعقول والمفيد استنساخ نموذج من الماضي للدولة كما أنه من غير الممكن أن نجد نموذجاً كاملاً في الحاضر، فإن من المنطق والحكمة أن ننطلق من خصوصيتنا الثقافية لمواجهة التحديات التي يفرضها العبور إلى دولة حديثة تحترم التنوع والإبداع الحضاري الإنساني.