غير ان المنعطف الكبير الذي شوش، في العمق، على العلاقات بين العرب المسلمين والمسيحيين، تمثل في الغزو المغولي للعالم العربي والسند الواضح الذي منحه بعض النصارى العرب للمغول ما بين سنتي 1258 و1260. بل انهم حين اطمأنوا الى حماية المغول عبروا عن مواقف احتقارية من المسلمين، وأصدروا أحكاماً عدوانية تجاههم. هل كان الأمر يتعلق بكبت تراكم مع الزمن وجد في تدخلات القوى الخارجية مناسبة لتفجير بعض حمولاته؟ ممكن. الا ان الطرف الاسلامي لم يغفر لفئات نصرانية عربية "دعمها للاجتياح المغولي ولا نسى الاهانة التي ترتبت عن ذلك. وكانت تظاهرات دمشق بعد معركة "عين جالوت" تعبيراً عن الربط الاسلامي، في حينه، بين بعض الفئات الذمية والمغول، أي بين بعض النصارى والأعداء الخارجيين. وعلى رغم الحمولة الاتنية التي تتخذها تسمية الافرنج التي اختارها المسلمون لنعت الآخرين الآتين من شمال غرب المتوسط، مهما كانت جنسياتهم، فإن العامل الديني احتفظ بحيوية قوية كلما تعلق الأمر باستئناف "الشغف النبوي" والانخراط في عملية جهادية. فالدولة في الفهم الاسلامي التجريدي، ولو اتخذت مضامين مختلفة، سيما حين تتخذ السلطة من المرجعية السنية قاعدة انطلاقها ومصدر توجهها، تبقى هي "دولة العقيدة" أو "دولة الفكرة" التي تميز العالم بين ما هو "دار الاسلام" و"دار الكفر أو الحرب"، قصد اعادة اللحمة للجماعة واعطاء الأولوية للوحدة. لهذا السبب لم تكن الحرية مبدأ حاسماً في التعامل مع الآخر، ذمياً أو افرنجياً، وانما اعتبار الجماعة والمصالح الضامنة للوحدة والاستمرار. فالعلاقة بين الذات والآخر، في نظر رضوان السيد "هي علاقة ذات خط واحد وليست علاقة الخطوط المتشابكة. وعنوان العلاقة ليس الحرية أو الاقتناع الفردي بل الجماعة ومصالحها ودورها تجاه ذاتها ووجودها ومستقبلها وبالتالي تجاه العالم. وقد كانت هناك حريات للآخر وتجاهه، وحريات أو رحابة داخل الجماعة أو الأمة. لكن العنوان ما كان الحرية وما كانت هي المقصودة، كان المقصود استيعاب الآخر أو احتواءه من اجل الدور والاستمرار".لا شك في ان الحملات الصليبية المتعاقبة على الوجود العربي الاسلامي زعزعت الاطمئنان الاسلامي الى الذات وخلخلت النظرة الى الآخر. لم يعد النصراني ذمياً فقط، له حقوق وعليه واجبات ضمن الجماعة وفي اطار "دار الاسلام" لأن قوة اخرى اجتاحت مقومات هذه الدار وهددت كيانها في أكثر المناطق جاذبية ورمزية. وفي سياق جدلية الأخذ والرد، تعرف المسلمون على شعوب مختلفة. فكانت التسمية تعكس رهان معرفة الآخر، فهو تارة رومي، أو من الصقالبة أو من الافرنج، وفي غالب الأحوال، فإنه يمثل ذلك الاختلاف الذي لم يكن الدين وحده كاف للاحاطة به، وانما فرضت حقائق التاريخ معطيات من طبيعة ثقافية وحضارية على التواصل، المتوتر عموماً أو المتساكن أحياناً، بين الاسلام والغرب اللاتيني. والمثير للانتباه هو انه اذا كان نظام الدعاية الصليبي استمد مقوماته من صور نمطية تتغيا التشويه والتحريف، مستنداً في ذلك الى معرفة ناقصة بالآخر، فإن منطق الصراع ومقتضيات الاحتكاك والاتصال أدت ببعض الرهبان المسيحيين الى التعبير عن ارادة خاصة للمعرفة. فبطرس الناسك رئيس "دير كلوني" لم تقتصر زيارته لاسبانية سنة 1141 على معالجة قضايا ذات طبيعة تنظيمية، وانما شغله مشكل أكبر من ذلك، اذ انتبه الى الجهل الذي كانت تعيشه أوروبا بمذهب المسلمين"، وانتهى الى الاقتناع بأن تخليص المسلمين من "أوهامهم الدينية" يفترض اتباع وسائل اخرى غير الحرب. هكذا اهتم بضرورة ترجمة معاني القرآن وبعض النصوص العربية الأخرى للاطلاع مباشرة على التعاليم الاسلامية في مصادرها. وهو ما شكل النواة الأولى لما سيسمى في ما بعد بالاستشراق. في مقابل ذلك لم يرتق الفضول الاسلامي الى مستوى جعل الآخر موضوعاً للتفكير والدراسة. نعثر على مذكرات وكتابات تاريخية غالباً ما تطغى عليها الاعتبارات الايديولوجية، ورحلات وكتابات جغرافيين ونصوص أدبية ومشاهدات سفراء… الخ لكن الشعور بالانتماء الى الاسلام، بوصفه مصدراً مطلقاً، والاحساس بالتفوق الحضاري ازاء الآخر الغربي، جعلا المسلمين، على ما يبدو، يكتفون بالوصف والرصد والمشاهدة "الانتروبولوجية" أكثر مما كانت تحركهم ارادة حقيقية لمعرفة الاجنبي الآتي من شمال غرب المتوسط. ومع ذلك لم يكن المجتمع الاسلامي في العصر الوسيط منغلقاً على الأفكار والمذاهب والتجارب، اذ شهد أكبر عملية تثاقف بفضل الترجمة والتفاعل الفكري الذي حصل له مع حضارات وشعوب احتك بها أو ادخلها في نسيجه الثقافي العام. كما ان الاختراق الصليبي، وما تلاه من استيطان ومصادمات، وما ترتب عنه من تناسل وتوالد طيلة قرنين من الزمان انشأ حقائق اجتماعية واقتصادية وثقافية على الأرض. لقد حصلت تحالفات ومعاهدات شتى بين الصليبيين والمسلمين، وتواطأ البعض ضد الآخر، بسبب التمزق السياسي والحسابات الشخصية، سواء بين المسلمين أو بين الصليبيين أنفسهم، لدرجة شكل الشرق الاسلامي مشهداً فسيفسائياً من الناحيتين السياسية والعقائدية. غير ان ذلك لم يمنع التبادل من الوقوع تجارياً وثقافياً. ولم يكن شعار "الدفاع عن قبر المسيح" أو "الله اكبر" وحده كلمة الأمر وقاعدة التعامل، ذلك ان الاسلام، كما يرى كلود كاهين، الذي انبعث داخل وسط تجاري، أو على الأقل داخل نمط خاص من التجارة، لم يكن "يحمل للتجارة نفس الحذر الديني مثل المسيحية، أو نفس الاستخفاف المتعالي للزرادشتيين من مجمل الأشغال الغربية عن المحاربين والكتاب".12 فالطبيعة التثاقفية المنفتحة للاسلام جعلته يدمج تجارب انسانية وثقافية متعددة. ودخول البحر المتوسط، من خلال الزخم الجهادي الأول، لم يقتصر على الفتوحات الجغرافية أو الدينية، وانما واكبته حركة تجارية لها منطق غير ذلك الذي يوجه الفعل الجهادي بالضرورة. فالوقائع الاقتصادية والاجتماعية تضع المرء أمام مشاكل استباقية أكثر تعقيداً، لأن الاقتصاد يتبع لعوامل يكون لبعضها - وعلى رأسها عوامل الجغرافيا - طابع الديمومة ومستقلة تماماً عن وقائع الثقافة، كيفما كانت انواع التفاعلات التي تقيمها التطورات في ما بعد. لذلك فإن وجود متخيل صليبي عدائي للاسلام، بل وممارسات متوحشة في غاية العنف والبربرية، لم يمنع الجماعات الافرنجية طيلة قرنين من نسج علاقات مع المحيط العربي الاسلامي. فالأجيال التي ازدادت وترعرعت على الأرض العربية، ارغمتها شروط العيش على التبادل والاحتكاك بالآخر. والأمر نفسه بالنسبة الى المسلمين، ما فرض على الطرفين وضع انظمة لحل المنازعات، اذ نشأ كثير من المشكلات السياسية والاقتصادية الخاصة بالمناطق المتنازع عليها ومناطق الحدود، لذا كان من الضروري قيام تنظيم جديد يكفل حل تلك المشكلات. وهو ما اصطلح على تسميته بپنظام بلاد المناصفات" بل خضع بعض المناطق "لادارة اسلامية - افرنجية مشتركة، هذه الادارة يرأسها نائبان احدهما يمثل سلطان المسلمين والآخر يمثل الحاكم أو الأمير الافرنجي الذي وافق على عقد المعاهدة الخاصة بذلك النظام وكان يتم النص في المعاهدة على الا ينفرد أحد منهما بشيء بل باتفاق من الجهتين"، ووضعا من اجل ذلك مرجعيات وبنوداً يتم بموجبها تطبيق "الشريعة الاسلامية ان كان الشخص مسلماً، ويطبق القانون الافرنجي ان كان الشخص فرنجياً".13 كثافة التبادل والمتاجرة بين المسلمين والافرنج زمن الاستيطان الصليبي اثارت انتباه "ابن جبير" وهو يترحل بين الامارات والجهات في المشرق العربي. ملاحظاً ان "اختلاف القوافل من مصر الى دمشق على بلاد الافرنج غير منقطع، واختلاف المسلمين من دمشق الى عكا كذلك. وتجار النصارى ايضاً لا يمنع أحد منهم ولا يعترض. وللنصارى على المسلمين ضريبة يؤدونها في بلادهم، وهي من الأمنة = الامن والاطمئنان على غاية. وتجار النصارى أيضاً يؤدون في بلاد المسلمين على سلعهم، والاتفاق بينهم والاعتدال في جميع الأحوال، وأهل الحرب مشتغلون بحربهم، والناس في عافية، والدنيا لمن غلب".14 لا مجال للتمييز بين الأزمنة، تحصل التجارة على رغم المواجهات والحروب. وكان التبادل المادي لا علاقة له بالصراع على الأمكنة والرموز. لميزان القوى القول الفصل، كما يجوز توظيف الاقتصاد في المجهود الحربي لاسترداد المواقع، لكن الواقع العملي فرض على كل الأطراف سلوكاً براغماتياً جعل من تبادل الخبرات والسلع مسألة لا تخضع للاعتبارات الايديولوجية أو الدينية بالضرورة. ومع أن الصليبيين دخلوا الأرض العربية كغزاة، فإنهم لم يسلموا من تأثير المسلمين في كثير من مظاهر حياتهم. وهذا التأثير لم يقتصر على ما جرى من تبادل داخل الفضاء الشامي أو المشرقي، بل امتد إلى بعض مناطق الغرب اللاتيني فضلاً عن التثاقف الأكيد الذي حصل بين ضفتي المتوسط بفضل الحالة الحضارية للغرب الإسلامي. في سياق من الحذر والحيطة واليقظة والمد والجزر والتحرير والاستيلاء والموت والحياة، حصل تفاعل ثقافي قل نظيره. واستفادة الصليبيين من التمزق السياسي الإسلامي لا ترقى إلى مدى استفادتهم من العطاء الحضاري العربي الإسلامي. وقد سجل الباحثون اشكالاً لا حصر لها من الاقتباس والأخذ عن الحياة الإسلامية وأنماط ترتيب شؤون الفضاء الداخلي والخارجي. هكذا تأثر الافرنج بنظام اللباس الإسلامي وأشكال التزيين وأنواع الطبخ، واقتبسوا طرائق تقنية وعملية مثل الطاحون الهوائي والدواليب المائية وأنواع التواصل البريدي، كما استفادوا من الكيفيات التي يسلكها المسلمون في تنظيم الأراضي الزراعية والبساتين والعمارة... الخ. وأما الاقتباس اللغوي فقد ادمجت اللغات الأوروبية مئات من الألفاظ والكلمات العربية في قواميسها. وهو ما يمثل معياراً يصعب الطعن في قوته على مستويات التحضر الذي كانت عليه الحضارة العربية الإسلامية وقتئذ. خلقت الظاهرة الصليبية والاندفاعة الجهادية دينامية خاصة على صعيد العلاقة بين الاسلام والغرب اللاتيني، تداخل فيها المستوى الديني بالحالة الوجدانية وتشابكت اعتبارات الثقافة وحسابات الاستراتيجيا. لقد مثل الهجوم الصليبي أكبر صدمة تلقاها الاسلام منذ دخوله إلى مسرح العالم في القرن السابع. وعلى رغم التعبئة الجهادية التي نظمها المسلمون، وتحرير الأراضي الشامية من الوجود الصليبي، فإنه يمكن ادراج الظاهرة الصليبية ضمن الضغوط الموضوعية للتاريخ البنيوي. ورضة عميقة أحدثت جروحاً غائرة في الوجدان العربي الاسلامي العام، وانتجت صوراً ومواقف عن الغرب المسيحي ما زالت تعتمل، بأشكال مختلفة، داخل المتخيل الجمعي. اعطت حركة الجهاد للواقعة الاسلامية أبعاداً جديدة في القرنين الثاني عشر والثالث عشر مهما كانت الانتماءات الاثنية للزعامات الاسلامية. ومع ان العنصر العربي لم تعد له مواقع طليعية في هذه الحركة، إلا أن إرادة القوة الاسلامية التي لفظت الوجود الصليبي من الجغرافيا العربية الاسلامية هي التي منحت للذاتية الاسلامية امكانات تجددها، ووفرت لها بعض شروط النهوض والاحساس الحضاري بالذات. أصبح الجهاد مهمازاً يستفز الوعي بمقومات الهوية وعملية متراكمة المستويات للتعامل مع الآخر، سواء بوساطة اتسمية أو النظرة أو الحكم، فأصحاب الصليب يمثلون، في التصور العربي الاسلامي، الاختلاف الجذري في كل أصعدته الاثنية والدينية والثقافية. المراجع 1- Emmanuel Sivan, I'islam et la croisade, ideologie dans les reactions musulmanes aux croisades Ed Librairie d'Amerique et d'Orient - Andrien - Maisonneuve Paris, 1968, P205. 2- Emmanuel Sivan, P206. 3- Bernard Lewis, IFRANDJ, Encyclopeadie de I'islam, T III, P1070. 4- Bid, P1071, aussi, Bernard Lewis, Les Arabes dans L'histore, P150. 5- Fransesco Gavrieli, Chroniques arabes des croisades, Ed Sindbad, Paris, 1977, P17. 6 - حسين العودات، العرب النصارى، عرض تاريخي، ص 141 - 140. 7 - حسين العودات، المرجع السابق، ص 142 - 143. 8 - "الفكر الاسلامي والحريات الدينية" مجلة "الاجتهاد"، العدد 30، 1996، ص 38. 9 - حسين العودات، المرجع السابق، ص 146. 10 - Emmanuel Sivan, op cit, P 180. 11 - Ibid, P180 - 181. 12 - Claude Cahen, Les peuples musulmans dans l'histoire medievale, Ed, Institut Francais de Damas, Damas, 1977, P187. 13 - خالد محمد عزب، العلاقات الاقتصادية بين العالم الاسلامي والغرب، رؤية تاريخية، الاجتهاد، العدد 33، 1996، ص 75. 14 - ابن جبير، رحلة ابن جبير، دار صادر، بيروت، 1980، ص 260.