رواية أمين معلوف الأخيرة "رحلة بالداسار" "عادت" الى موطنها بالترجمة العربية التي انجزتها نهلة بيضون وصدرت عن دار الفارابي في بيروت والمؤسسة الوطنية للاتصال في الجزائر. "العودة" لأن الرواية التي ترسم خريطة صراع الأفكار والمعتقدات في القرن السابع عشر تجد استجابة في مخاض يجتازه العالم العربي في صراعه مع اسرائيل وفي مشكلاته الداخلية بحثاً عن التسامح والديموقراطية. ولدى أمين معلوف نبع لا ينضب: تلك المعتقدات الشرقية الكثيرة المتكاثرة وقد بلبلت المجتمعات وحفرت عميقاً في نفوس الأفراد والجماعات، وبقيت الى الآن في خلفية ما يحدث في العالم العربي فلا تستطيع تحليله في ضوء المصالح الاقتصادية والسياسية ومبدأ التوازن. الجنوي المشرقي بالداسار امبرياكو تقوده الأقدار في القرن السابع عشر من منزله في جبيل على الشاطئ اللبناني، إلى جذره البعيد في جنوى، في رحلة يعبر فيها أمكنة وأفكاراً وصراعات وحرائق، ماراً بشمال لبنان وسورية والأناضول، وصولاً الى اسطنبول وأزمير، ثم الى جزيرة يونانية موحشة فإلى جنوى، ثم الى الجزر الاسبانية والشاطئ البرتغالي فأمستردام فلندن، الى أن يستقر عند نهاية الرواية في جنوى مجدداً سلالته التي غادرت المدينة الايطالية في الحروب الصليبية هو السليل الثامن عشر ل"فاتح" طرابلس. رحلة بالداسار في سنة الوحش، حين شاع في المجتمعات اليهودية والمسيحية ان نهاية العالم حددت في العام 1666 بناء لنبوءات قديمة، وبدأ العارفون البحث عن كتاب يشبه الأسطورة، مؤلفة المازنداري عربي من العصر العباسي وعنوانه "الاسم المئة"، اذ يجتهد في البحث عن اسم يلي اسماء الجلالة ال99 المعروفة لدى المسلمين، وسبب البحث المحموم عن الكتاب اعتقاد بأن ذكر الاسم المئة يقي الانسان نهاية العالم كما وقى الله نوحاً وقومه الطوفان. وعبر المدائن يرى بالداسار الحاخام شاباتاي في أزمير وقد أعلن نفسه مسيح اليهود المنتظر فعطل معظم شريعتهم واستبدلها بأخرى، قائلاً انه سيحكم العالم في عهد جديد، لكنه انتهى في يد السلطان العثماني وقد اعتنق الاسلام ظاهراً وأبقى على يهوديته باطناً مؤسساً بذلك طائفة يهود الدونمه المعروفين حتى اليوم في تركيا. وغير شاباتاي يشهد الرحالة صراعات الأفكار والأحقاد الطائفية المسيحية - المسيحية في حديث الناس وفي حريق لندن، حين لا يشفع للغرباء أحد إلا مثقفين قلة وقفوا موقف الشك فأنقدوا الآخر. وإذ يربط أمين معلوف رحلة بالداسار بخيط البشر المتنوعين والأفكار المتعارضة والاحساس بدينونة قريبة، لا يكتفي فيربطها ايضاً بقصة حب خائب وحالات حب عارضة لرجل يبحث عن نفسه في حمّى الشكوك وخلخلة الإقامة وسؤال الهوية. تلك المرأة التي رافقته بحثاً عن مصير زوجها مع وعد باستعادة حب قديم متى ثبتت وفاة الزوج، لا نعرف تماماً هل كانت تخادع أم انها ضحية؟ وهاتيك اللندنية التي انقذت الغريب المهدد ومارست الحب معه في قلب الأخطار، لم ترافقه حين غادر سالماً، ألأن الحب عابر أم انها فضلت صداقة الأفكار مع صحبها؟ والفتاة الجنوية التي ارتضت الزواج منه، أهي الحبيبة الحانية أم رسالة القدر إذ يعد بتجديد سلالة نبيلة غاربة؟ يواصل أمين معلوف فنه الأثير: الرواية التاريخية ويحاول تقديم الروائي على التاريخي كي لا يصبح الفن ذريعة. ويختار من مسرح الماضي ما هو متنوع ليضيء العيش الكوسموبوليتي الذي اكتمل غيابه عن مدن المتوسط فصارت "نقية" كمدن الداخل. والكوسموبوليتيه لا تزال تعطي للرواية معناها وشخصياتها الملونة والمتصادمة الأمزجة والأفكار. وإذ تغرب عن موطنها في حوض المتوسط "تهاجر" الى القارة الأميركية، حيث تجربة مغايرة قائمة على الاعتراف بتعدد الثقافات، ولكن، تقودها ثقافة وحيدة تحاول توسيع "سيطرتها" بالعولمة.