بعد الرواية الأولى "فراق في طنجة" 1996، تأتي الرواية الثانية لعبدالحي مودن "خطبة الوداع" مركز تواصل الثقافات، الرباط 2003 متقاربة في التركيب الفني المزاوج بين التشويق البوليسي والسرد الواقعي، لكن مع تعميق وتوسيع للمعضلات والأسئلة المطروحة. منذ الصفحات الأولى، تكشف "خطبة الوداع" عن بنْيتها المركبة الجامعة بين سيرة احمد الغزواني، الشخصية الرئيسية، وبين محفّز الفعل الموازي المقترن المرزوقي صديق احمد الحميم الذي اعتُقل في بداية السبعينات من القرن الماضي بسبب انتمائه اليساري... وعلى رغم تداخل مكوّنين في البنية العامة للرواية، فإن مكوّن سيرة احمد الغزواني هو الأساس لأنه يمتد افقياً ليلامس فضاءات متعددة متصلة بحياته في احدى قرى شمال المغرب ثم في مدينتي القنيطرةوطنجة. وأحمد الغزواني الذي يسترجع في النص مساره الحياتي بلغ الأربعين وراكم الخيبات والتعثرات وانجلت الأوهام عن وعيه، وأصبح مدركاً ان الحقيقة متلوّنة تتزيّا بألف زي، ومن ثم قرر ان يكاشف تلاميذه في آخر حصة للسنة بخطبة وداع تقول مرارته ويأسه من ان تتغير احول المجتمع والعالم. لكنه قبل ان يبدأ الخطبة اصيب بنوبة سعال تطورت الى اختناق فاضطر الى ان يصرف التلاميذ ويستعيض عن خطبته بسرد وقائع ولحظات ومواقف في حياته يستجْلي من خلالها ما عاشه منذ اكثر من ثلاثين سنة، منذ يوم 7 تشرين الأول اكتوبر 1967 عندما تعرّف على سعيد المرزوقي التلميذ الوافد من الدار البيضاء الى القنيطرة بصحبة امه الجميلة السيدة ليلى. هذه الصداقة غيّرت مجرى حياة احمد الذي كان محتقراً من زملائه وزميلاته في المدرسة والذي لم يكن يعرف كيف يدافع عن نفسه وكيف يحلل ما يجري من حوله. كانت ذاكرة احمد ممتلئة بطفولته في قريته الجبلية وبهَمْزية البوصيْري التي حفّظه اياها ابو عن ظهر قلب... غير ان صحبة سعيد اتاحت له اكتشاف مدينة القنيطرة وجعلته يحلم ويشتهي جسد أم سعيد الجميل ويستعيد ثقته بنفسه. وعندما افترقا، اخذت حياة احمد مجرى آخر لأنه تعثر في دراسته الجامعية بينما انتقل سعيد الى الجامعة في الرباط وانخرط في احد التنظيمات الماركسية وانتهى الى السجن وانقطعت اخباره. اما احمد فأصبح استاذاً في طنجة ثم عاد الى القنيطرة وانغمر في السهر والشرب وعاش علاقة جنسية عاصفة مع البارميتر "فاتي" المتزوجة من جندي اميركي يعمل في القاعدة العسكرية في القنيطرة، ثم تزوّج من زينب التي التقاها صدفة في احدى سيارات الأجرة وتعثر الزواج لأن احمد كان فريسة لقلق يجهل مصدره، ولأنه فشل في الإنجاب استعاض عن ذلك بمتابعة مسلسل "روزيتا" التلفزيوني والتردد على مقهى "ايلدورادو"... ولم يقبل اخوا زينب بهذه الوضعية فحاولا ارغامة على الطلاق، ولما تلكأ قررا تسفيرها الى ألمانيا لتعيش هناك مع اخيها الأكبر. في هذه الأثناء، كان احمد يحاول ان يجمع معلومات عن صديقه سعيد، استجابة لعرض ليزا التي ارسلت له مبلغاً من المال وزعمت ان سعيد والدها وأنها تريد ان تكتب "سيناريو" عن حياته. تمكن احمد من الاتصال بالضابط المتقاعد عبدالله الذي كان آخر من رأى سعيد المرزوقي قبل ان يختفي من السجن في كانون الثاني يناير 1970. وأوضح الضابط لأحمد بأن صديقه لم يهرب من السجن بل انه هرّب بمساعدة والده الكولونيل وسافر خارج المغرب. وتأكد احمد من صحة هذه المعلومة لأنه كان يتلقى، من حين لآخر، رسائل بخط سعيد تحمل طوابع بريد من بلدان اجنبية مختلفة. عندئذ تنبّه الى ان رسالة اخيرة تحمل اشارة الى موعد يضربه له سعيد في قصبة "المهدية" القريبة من القنيطرة حيث اجتمعا منذ ثلاثين سنة ونحتا اسميْهما على خشب باب القصبة. يذهب احمد ليلاً الى قصر القصبة المتهدّم وينادي على اسم صديقه سعيد الذي كان قابعاً في الظلام ويحكي له عن تعثراته وعن الزمن الذي عاشه من دون جدوى: "- هل انت هناك؟ ام تُراني لا اخاطب إلا الفراغ؟ ردّ يا سعيد، قل لي هل انت هناك ام انني اختلقك اختلاقاً، اصنعك حبلاً ينتشلني من قعر هزائمي، حلماً اضيفه الى الأحلام المتراكمة..." 213. ورد عليه صديقه سعيد: "تأخرت، جئت ماشياً من الميناء. كان عليّ ان اتجنّب المخبرين. زيارة قصيرة للقنيطرة اعود بعدها للبحر. عدتُ الى القنيطرة تخفياً على ظهر سفينة ... - ما زال صدرك يشتعل غضباً - الغضب، الشعلة، قدر محتوم. لا بد للشعلة ان تبقى متّقدة، لو تنطفئ تعمّ كوايس الظلمة...". ثم يختفي سعيد في ثنايا الليل عائداً الى منفاه، تاركاً صديقه احمد الغزواني وجهاً لوجه امام حصيلة ثلاثين سنة من تاريخهما وتاريخ المغرب. الاستئناف المتعذّر ان تحليل مكونات بنية "خطبة الوداع" من خلال تفكيك وترتيب اجزائها على النحو الذي تقدّم، يطمس ولا شك التشكيل الموفّق الذي أنجزه عبدالحي مودن عبْر التوازي والارتداد والحوار على امتداد 47 فقرة مكتوبة بطريقة تستوحي التقطيع السينمائي... ويبدو لي، وأنا احاول تأويل هذا النص الغنيّ في شكله ودلالته، ان اجد المفاتيح الأساسية للنفاذ الى سراديبه هو سؤال الحقيقة الذي حيّر احمد الغزواني طوال التجارب التي عاشها خلال ثلاثين سنة: "الحقيقة؟ اية حقيقة؟ حقيقة اصوات الموتى، حقيقة الحروف المحنّطة، حقيقة الصور والأرقام المتحركة؟ حقيقة الواقع الصلب الذي يتسرب من بين الأصابع كلما أمسكته قبضة الوعي الفولاذية، الهلامية؟ حقيقة الخيال الذي ينتصب امامك واضحاً وضوح الشمس وأنت تركّبه صُنعاً من بياض الأوراق، من ومضات الجنون؟...". يجري احمد وراء الحقيقة وهي تنفلت منه باستمرار، سواء في واقع حياته الاجتماعية او وهو يسعى الى التحقيق في وقائع اعتقال صديقه سعيد المرزوقي: على المستوى الأول، ومن خلال استرجاع احمد لثلاثين سنة من حياته، يجد ان الحصيلة تسفر عن اربعة نماذج تلخص الإمكانات المتاحة للعيش: - نموذج حياته هو احمد الغزواني المتمزّق، الضائع، المثقل بالخيبات الذي لم يعرف كيف يصنع سعادة بسيطة تُنقذه من قلقه الوجودي... - ونموذج خليل الموظف بالبنك، المستقر في زواجه والمنهمك في التبرجز والإفادة من الامتيازات التي تُغدقها الدولة على "العقلاء" من ابنائها. - ونموذج زينب، زوجة احمد، التي تعرّضت للإهمال والتشييء والحرمان من الحب ومن المعاملة الإنسانية، تقول مخاطبة زوجها: "لم تتصور يوماً انني انا ايضاً اتحمّل مشاكلي، مشاكل الدنيا والدين، مشاكل الوجود والحياة والموت، وأنني انا ايضاً احتاج للمساعدة التي لم أجرؤ يوماً ان أطلبها منك لأنني اعرف أنك غارق في بحر انانيتك"؟! - ثم نموذج سعيد المرزوقي الذي اختار الرفض والتحدي وربط احلامه بالعدالة ومقاومة الاستبداد... إلا ان هذه النماذج الأربعة لا تشمل الحقيقة كلها، لأن لها وجوهاً اخرى تبدو فارضة لقيم مؤثرة في سلوكات الناس وعلائقهم وتتمثل في الحلول "الواقعية" التي تغدو جزءاً من النسق العام: تجارة المخدرات، من خلال تجربة عبدالسلام احد اقارب احمد، والهجرة الى أوروبا طلباً للشغل، وإعادة إدماج جلاّدي الأمس الكولونيل قادر المرزوقي والضابط المتقاعد عبدالله اي التعايش مع إرث الماضي البشع. وعلى المستوى الثاني المتّصل بالبحث عن معلومات تتعلق باختفاء سعيد المرزوقي من السجن، يجد احمد الغزواني ان الحقيقة كاذبة هنا ايضاً، لأن هرب سيد تم بمساعدة من والده الكولونيل الذي اغتنم الفرصة ليعيد ام سعيد الى بيت الزوجية في مقابل انقاذ ابنها من السجن... لأجل ذلك، عندما سأل احد التلاميذ استاذه احمد الغزواني عن الحقيقة اجابه: "- الحقيقة كاذبة ... بين العالم الذي أعلّمه والذي احمله فوق كتفي شرخ لا ينفكّ يكبر..." ص124. وعندما يسأله ما العمل في هذه الحال، يجيبه: "- ان نلملم الجراح ونحن نعيش الشرخ الأبدي". امام الأبواب الموصدة في وجه من يريد ان يعيش داخل مجتمع يحترم الفرد وحقوقه، يغدو الزمن عبئاً بلا جدوى يسحق المواطن ويدفعه الى اليأس. وهذه الحصيلة المجسّدة في مسار احمد الغزواني تجعل استئناف الحياة متعذّراً والمراهنة على التعليم او التبرجز ضمن شروط الدولة، بلا معنى. ماذا يبقى اذن؟ التعلق بالحلم الطوبوي الذي يمثله سعيد المرزوقي المتشبث بقيم العدالة والتغيير ومحاربة الظلم. يقول في إحدى رسائله من المنفى: "... أغفو، أُفيق، يستبدّ بي الغضب من مكر الناس بالناس، من الظلم، من القهر والعجز والكذب، من الحب المغتَصَب والحلم الممنوع، اقلب الصفحة وأفتح من على حروف الغضب أقبيتها، ادعوها تنفُث النار الحارقة في فضاء البشاعة، حماقات الطغيان. أحفر قبور الطغاة، أعرّي اغطيتها المزينة بالرخام والخطوط المذهبة الكاذبة، أُلقي بأشلائها النتنة وحلاً، ادوسها ثأراً، اعلّق رقابها المقطوعة على ابواب المدن الراقصة..." ص175 لقد استطاعت رواية "خطبة الوداع" ان تلملم الأسئلة الصعبة التي تواجه المجتمع المغربي في مرحلته الراهنة. ولعل التوازن الملحوظ بين البنية المحكمة، والكتابة المقتصدة ذات الفسحات الشعرية الماثلة في ست فقرات من سعيد المرزوقي، هو ما يوفّر لهذه الرواية متعة القراءة وعمق الإيحاءات التي تدفع القارئ الى توسيع نطاق التفكير والتأمل. وفضلاً عن ذلك، فإن ملامح شخصية احمد الغزواني تعلو على خصوصيتها وبيئتها لترتقي الى مستوى نموذج الشخصية القلقة المأخوذة في شرك اليومي والمجهول، بعد ان فقدت بوصلة الاطمئنان والتناغم سواء مع القيم الموروثة او الحديثة الموؤودة.