ان كان معظم الروائيين الأميركيين الذين سبقوا بول بولز أو عاصروه أو أعقبوه مأخوذين بما سمّي "الحلم الأميركي" فأنّ الروائي والقاصّ المقتلع أو المنفيّ طوعاً افتتنه ما يمكن أن يُسمى "الحلم الأفريقي" بل "المغربي". وعوض أن يسعى على غرار مواطنيه الروائيين الأميركيين الى كتابة "التجربة الأميركية" وجعلها نموذجاً روائياً أو مثالاً راح يتمرّد على هذه "التجربة" وعلى الرواية الأميركية نفسها حتى قيل عنه أنّه يكتب وكأنّ رواية "موبي ديك" لم توجد. غير أنّ بولز لم يتمرّد فقط على هيرمان ملفيل صاحب هذه الرواية الشهيرة و"الأميركية" بامتياز والقائمة على مغامرة شبه توراتية وشبه أسطورية بل واجه أيضاً روّاد "الحلم" الأميركي من مثل فيتز غرالد ونورمان ميلر ثائراً على آباء الرواية الأميركية، ولم يتوان عن هجاء "التجربة الأميركية" معلناً خوفه من الكتابة عن "الوطن - الأب" كي لا تظهر كراهيته له وعداؤه. وأميركا هي الوطن - الأب لا الوطن - الأم في نظر بول بولز. فهو لم يحفظ من ذكرياته الأميركية سوى عقدة الأب التي سيطرت عليه ولم يستطع الفكاك منها على الرغم من تشويهه صورة الأب وقتلها. ولعلّ رفضه الحياة الأميركية وهروبه الى أفريقيا وأميركا الشمالية واستقراره في المغرب عبّرت جميعها عن هاجس الانعتاق من ذكرى الأب القاسية الأليمة. وفي مذكراته التي حملت عنواناً طريفاً هو "بلا توقف" تناول بولز شخصية والده والعقدة "العصابية" التي جمعته به قسراً كأب يدمّر ابنه ويجعله ضحية الرعب والذنب وكإبن يكره والده وما يمثل في وعيه ولا وعيه على السواء من سطوة وبطش. ولعل الأسطورة الأميركية حملت في بعض نواحيها صورة من صور الأب المتسلّط والرهيب. إلا أنّ افتتان بول بولز ب"الحلم المغربي" أو الأفريقي والصحراء والسماء والغيوم كان أيضاً افتتاناً بجنّة مفقودة راح يبحث عنها بشدّة وإصرار، وان وجدها في أحيان كثيرة فهو لم يجعل منها عالماً بديلاً أو أرضاً لحياة بديلة مقدار ما قارب الموت فيها والتلاشي في دفئها بل في ضوئها وظلمتها. وقد أدرك كلّ الادراك أن من يصل الى ذلك الفردوس المفقود فإنّما يستحيل عليه أن يعود منه أو أن يستقرّ فيه كأرض مستعادة بل فيه يواجه نهايته "السعيدة" التي طالما ارتجاها. وهكذا انتهت مثلاً "البطلة" كيت في رواية "السماء الوارفة" فاقدة لا ذاكرتها فقط بل ذاتها تائهة في الصحراء أمام قدر مجهول تماماً، وهكذا أيضاً انتهى "البطل" ديار الموظف الأميركي الذي يتمرّد على إدارة المصرف في نيويورك ويسافر الى المغرب منصرفاً الى ادمان المخدرات في طنجة لينسى ماضيه ويصبح من دون ذاكرة. وهكذا أيضاً يغامر ذاك الشخص الأميركي الغريب الذي كان يدرّس اللغة مستسلماً لإغراءات القرى المغربية البعيدة حيث يواجه مصيره كشخص غريب ومقتلع. تحمل شخصيات بول بولز الكثير من ملامحه الشخصية وقسماته والكثير أيضاً من هواجسه ومزاجاته. فهو إذ يجعلها على صورته يرمي بها في حياة مقتطعة ومبتورة ويدفعها الى مواجهة ذاتها عبر مواجهة العالم الذي يحيط بها: تتمرّد على العالم إمّا باختراقه وتخطيه من خلال "المغامرة" وإما في الانكفاء على ذاتها أو الشذوذ عن الطبيعة أو الانجراف في الحلم والنسيان وفي أوهام "الفراديس المصطنعة". ولا تشبهه شخصياته فقط في ملامحها وأحلامها وهواجسها وإنّما في القلق العميق أيضاً والخوف والهرب وهذه "الشؤون" هي التي جعلت مغامراتها في وسط الطبيعة الصحراوية أو الأفريقية مغامرات داخلية أيضاً، روحية وربّما ميتافيزيقية وحلمية. وهي المغامرات نفسها التي عاشها بولز حين اختار الهجرة "الأكزوتيكية" والابتعاد عن العالم الأول، عالم الآلة، عالم الحضارة الحديثة باحثاً عن حياة مظهرية أو بدائية. وكم دفع بعض شخصياته الأميركية المتحضّرة والحديثة الى مواجهة الشخصيات البدائية التي تنتمي الى عالم الصحراء أو الغابة. وخير مثال على تلك المواجهة ما خبرته تلك الشابة الأميركية في قصة "الصدى" حين التقت رجل الغابة المجنون والبدائي الذي رماها بالماء. ولم تعان شخصيات بولز فقط ألم اقتلاعها و"فرح" غربتها الطوعية بل قاست أيضاً مثله مأساة الإزدواج والخوف من الآخر ومأزق الهوية أو الذات. فبولز عاش حالاً من الازدواج النفسي والجسدي وليس حالاً من التناقض فحسب: حبه المرأة وكرهه اياها، ماضيه ومنفاه، طفولته وحاضره، انتماؤه الأميركي ونزعته المغربية... لكنّ بول بولز ظل كما قال فيه غور فيدال في تقديمه كتابه القصصي "العقرب" ذلك "العصفور" ذا "النظرة البارقة والنافذة" والذي يحلّق من حكاية الى أخرى، محدّقاً في الصحراء، في التلال والسماء". وكم أصاب استهلال برايس ماتيوسنت مقالة عن بولز بحوار جميل مقتطع من نصّ للشاعر الفرنسي بودلير عنوانه "الغريب" وفيه يقول "إيه! ماذا تحب إذاً، أيّها الغريب الفذّ؟ انني أحب الغيوم... الغيوم التي تعبر... هناك... هناك... الغيوم العجيبة!". وفعلاً أصغى بول بولز الى نداء الغيوم ولكن تلك التي تعبر سماء الصحراء الواسعة، تحت شمس لاهبة، أو في ضوء قمر ساطع أبداً. لكنّ بولز الهارب أبداً من ماضيه ووطنه - الأب ومن الحياة نفسها أصغى أيضاً وبهدوء الى نداء الحلم ذاك الذي قاده الى السوريالية في مطلع حياته الأدبية وظلّ يرافقه حتى لحظاته الأخيرة في طنجة. والحلم أصلاً يصعب فصله عن الواقع لا في مخيلة بولز فقط ولا في وجدانه وإنّما في قصصه وفي عالمه الرحب الذي لا تحدّه حدود! ومَن يقرأ سيرة بولز الأدبية لا يستغرب أبداً أن يستهلّ هذا الكاتب الفريد حياته الأدبية شاعراً وشاعراً سوريالياً ولكن على طريقته أولاً وتحت أثر السورياليين لاحقاً. وكان في السابعة عشرة عندما نشرت مجلّة "تحوّل" الطليعية في باريس قصائده الأولى. وبدا فيها منحازاً الى "الكتابة الآلية". لكنّ الكاتبة الأميركية "المغتربة" والمقيمة في باريس هي التي أطفأت فيه جذوة الشعر ولكن لتشعل فيه نار الرواية والقصّة. وتروي غور فيدال لقاء بولز بها وكيف كان انطباعها الأول سلبياً حيال قصائده التي قرأتها وقالت له "المضجر في هذه القصائد أنها ليست شعراً". وأعربت للشاعر الشاب حينذاك عن عدم اقتناعها بما يُسمى طريقة سوريالية في الكتابة. وسألته لاحقاً ان كان أعاد كتابة قصائده. وحين قال لها لا أكّدت له "أرأيت، قلت لك أنّك لست شاعراً. إذ أن الشاعر الحقيقي بعد محادثة واحدة، يصعد الى غرفته ويحاول على الأقل أن ينسّقها فيما أنت لم تلق حتى نظرة عليها". وأثر رأي جيرترود شتاين في الشاعر الشاب فسرعان ما كف عن كتابة الشعر منصرفاً الى الموسيقى. وفي حقل الموسيقى راح بولز يشق طريقه وشرع لاحقاً يؤلّف المقطوعات والموسيقى التصويرية متعاوناً مع بعض المخرجين السينمائيين والمسرحيين المعروفين. إلا أنّه لن يهجر الكتابة أبداً بل سيظلم حلم الكتابة يقضّ حياته ومخيّلته. وقد أصابت جيرترود شتاين منه مقتلاً إذ جعلته ينقطع عن الشعر لينصرف الى الكتابة القصصية والروائية، وكم أصابت فعلاً حين اعتبرت طريقته في الكتابة غريبة أي غير أميركية. فهو فعلاً سليل المدرسة الفرنسية وبعض الأنغلوساكسونيين وفي طليعتهم ادغار ألن بو الذي نشأ على قراءته. وظلّ يعتبر نفسه ابن المدرسة الفرنسية وروّادها من أمثال: أندريه جيد، بول فاليري، لوتر يامون، روسيل... ويضيف اليهم بورخيس وترومان كابوت والتراث الشعبي المغربي والمكسيكي... ولعلّ تحاشيه "الأثر" الأميركي جعله غريباً عن الحركة الأدبية الأميركية وشبه مجهول في وطنه - الأب. في حين عرفته الأوساط الأدبية في فرنسا ونقلت قصصه ورواياته الى الفرنسية وعرفت بعض الرواج. وان كان انتماء بولز المتعدّد أو "لا انتماؤه" جرّده من هوية واضحة ونهائية أذ جعله أميركياً وغير أميركي، مغربياً وغير مغربيّ فهو أيضاً أضفى عليه سمات فريدة مذ حوّله الى "كاتب من العالم" كما يقال، كاتب منتم وغير منتمٍ، غربي وشرقي، حديث وبدائي... كاتب على حال من الاقتلاع الدائم، مغامر ومدمن على الترحال، مدمّر ومستقيم. ولم يكن استقراره في المغرب بل في طنجة تحديداً إلا حالاً من اللاستقرار أو اللاقامة. فهو أبداً ذلك الغريب الذي لا مكان له كي يؤوب اليه. وكم تماهى بولز في أولى شخصياته القصصية تلك المرأة التي تحدّث عنها في قصّته الأولى "العقرب" 1945 وقد جعلها في مغارة حفرها لها أبناؤها قرب نبع قبل أن يهاجروا الى المدينة. وهي لم تكن "لا سعيدة ولا بائسة" في أن تقيم في المغارة. فالحلم هو المنفذ اليتيم في ذلك العالم القاتم والضيق الذي حشرت داخله. وظلّت تحلم حتى أصبحت من صنف العقارب إذ دخل العقرب فمها من غير أن يؤذيها. والقصة هذه، الغريبة المناخ نمّت فعلاً عن جذور بولز السوريالية وعن نزعته الأتنوغرافية وميله الى عالم الحيوانات الذي سوف يتبدّى لاحقاً في بعض نتاجه القصصي. وان كان من الصعب الإلمام بما كتب بول بولز وما ألّف من موسيقى فأنّ رواية في حجم "سماء وارفة" ترجمت الى الفرنسية تحت عنوان آخر هو "شاي في الصحراء" وهكذا سمّى برناردو برتولوتشي فيلمه المستوحى منها هي بحق عمل روائي طليعي وفريد في الأدب الأميركي والأدب العالمي على السواء. وقد كانت بمثابة بيانه الأدبي والوجودي إذ أبرزت مقولة "الانحراف" التي تزول حيالها الهوية ويضمحل الانتماء. وروايته الأولى هذه 1949 ترسم بدءاً من وهران في الجزائر المغامرة التي قام بها ثلاثة أميركيين في خوض غمار الصحراء: بورت، كيت زوجته وتونر الصديق. والمغامرة هي أقرب الى مغامرة "النزول" الى الجحيم، جحيم الطبيعة وجحيم العلاقات المنحرفة، ثلاثة أشخاص يدمنون المغامرة يرحلون من غير أن يدركوا متى يرجعون الى "البلاد" التي غادروها، الى الغرب الذي هجروه ملبّين نداء الصحراء المغربية. وهناك بل هنالك سوف يكتشف الزوج والزوجة أن ما يجمعهما هو قدرتهما على خيانة بعضهما بعضاً: بورت يخون زوجته مع أحدى العاهرات وكيت تخون زوجها مع الصديق المشترك. وهناك في عمق الصحراء، في عمق العالم الغريب البعيد كلّ البعد عن الحضارة الحديثة يلقى بورت حتفه تحت وطأة الداء. أمّا كيت فتترك جثة زوجها والصديق - العشيق وترحل بعدما فقدت ساعة يدها في احدى القوافل العابرة الصحراء نحو السودان وفي القافلة تقع في حبّ الفتى العربي، فيأسرها ثم تهرب لتتوه نهائياً شبه مجنونة... وتتخلّل الرواية صفحات بديعة تبرز فيها "ملكة" بولز في وصف المناظر الصحراوية والمشاهد الساحرة. اضافة طبعاً الى قدرته الكبيرة على رسم ملامح الشخصيات وصراعها النفسي وأزماتها الوجودية هي الهاربة من حضارة العصر الحديث الى حضارة الصحراء بحثاً عن النسيان والموت تحت الشمس وبين الرمال. في الرواية قال بورت مرّة لزوجته كيت "السماء هنا غريبة تماماً. غالباً ما يتولّد فيّ إحساس حين أنظر اليها، أن ثمة شيئاً صلباً هناك، يقينا ممّا يكمن وراءه". وإذ تسأله كيت عن هذا "الشيء" وما وراءه يقول: "لا شيء، كما افترض، ظلام، مجرّد ظلام، ليل مطلق". أما في رواية "بعيداً جداً عن الوطن" فتؤثر "البطلة" أنيتا التي جاءت الى مالي تزور أخاها الرسام أن تبقى في بلاد الدفء والشمس وهي لم تهجر وطنها أميركا إلا هرباً من حياة مضطربة انتهت بانفصالها عن زوجها. وفي الأرض الأفريقية بعيداً عن وطنها شعرت أنيتا "أنّ الليالي تمرّ ببطء. وفي أحيان، عندما كانت تستلقي في العتمة الصامتة كان يتراءى لها أن الليل هبط وأطبق على الأرض إطباقاً يمنع ضوء النهار من اختراقه". عاش بول بولز في المغرب سحابة خمسين عاماً وأكثر لكنّه لم يستطع أن يصبح مغربياً ولكن من دون أن يكون أميركياً صرفاً. وفي طنجةالمدينة التي أحبّ أحاط نفسه ببعض الأصدقاء ولا سيّما أولئك الذين سمّوا "رواة" طنجة وكانوا يسردون عليه مروّيات مغربية وحكايات ذات طابع شعبي وخرافي وكان هو يكتبها ويدوّنها صوناً لها من النسيان. وشرع خلال حياته في طنجة يستوحي طبيعة المغرب والتحوّلات التي شهدها وشهدتها الأمكنة والفضاءات من عقد الى آخر، من مرحلة الاستعمار الى مرحلة الحكم الوطني. واستوحى كذلك الحياة المغربية والتقاليد والأشخاص وحفلت قصصه وخصوصاً المغربية منها بأسماء مغربية ووجوه: عمّار، أدريس، محمد، عبدالواحد، رحمة، عبدالكريم، علي، كنزة... وخلال حياته المغربية كان بولز على علاقات مع بعض الكتّاب والمثقفين لكنّه لم ينخرط تماماً في الحركة الثقافية المغربية. وقد جذب الى المغرب وطنجة بعض الكتّاب الأميرركيين مثيراً فيهم الرغبة في العيش هناك في بلاد الشمس والدفء ومن هؤلاء: تينسي وليامز، أودن، وليم بروز، ألن غينسبرغ وكذلك الرسام البريطاني فرنسيس بيكون. أما جان جينه الذي كان غريمه في حبّ المغرب والعيش فيه فلم يكن يحتاج الى أحد ليدلّه الى أسرار المغرب ومعالمه السحرية. ومثلما عاش جينه حياة عاطفية صاخبة في المغرب هكذا عاش بول بولز وحيداً ولا سيّما بعد وفاة زوجته الكاتبة جاين بولز. أما الكتاب الذي وضعه عنه محمد شكري الذي رافقه فترة فلم يفِ الكاتب الأميركي حقه وأبدى شكري فيه بعض العدائية تجاه صديقه القديم الذي ما لبثت أن "فسدت" صداقته به وتوترت العلاقة التي جمعتهما. وجعل شكري بولز داخل المشهد الثقافي الذي عرفته مدينته طنجة وتناول اقامة بولز فيها كمنفى طوعي وجميل اختاره رغبة في عناق سحر المكان ورمزيّته وعراقته. لكنّ التهم التي كالها له وهي شخصية جداً فكان من الممكن أن يتخلّى عنها مدافعاً عن نفسه في طرق أخرى أشد أدبية وتعالياً. بول بولز كانت تنقصه أيام ليودّع القرن العشرين، قرن العولمة والحداثة والآلة الذي كرهه أيّما كراهية والذي دفعه الى هجر بلاده بحثاً عن حلم غامض وفردوس مفقود. لكنّه ودّعه خير وداع من طنجة، من الأرض التي أحبها ولم يستطع أن يعيش خارج حدودها السحرية وخرافاتها الجميلة. * غاب الكاتب الأميركي بول بولز عن 89 عاماً قبل يومين في مدينة طنجة المغربية التي كان يقيم فيها.