كوندوليسا رايس، مستشارة الرئيس بوش للأمن القومي، قد تكون مخطئة في تقديراتها، أو قد تكون كاذبة تتستر على واقع الأمور، عندما تصف، في أحد تصريحاتها الأخيرة، أعمال العنف المتزايدة حدةً ووتيرةً ضد قوات التحالف في العراق، بأنها من رواسب حرب الربيع الماضي. ناهيك عن أنه من الحري بها أن تقر "بحق المؤلف" للسلطات الجزائرية، تلك التي سكّت مصطلح "الرواسب" هذا، ودأبت على استخدامه في الحديث عن إرهاب وعن عنف الجماعات الإسلامية الذي تمادى لعقد من الزمن أو ما يزيد. واقع الحال ومجريات الأمور في العراق تدحض ما تدعيه مستشارة الأمن القومي في الإدارة الأميركية وتسفّهه، وتوحي بأن حرب العراق هي تلك الجارية الآن، أو أنها بدأت يوم سقوط بغداد في التاسع من نيسان أبريل الماضي. قبل ذلك، لم تكن تلك الحرب حربا، بالمعنى الفعلي، بل كانت، تقريبا، مواجهة من جانب واحد، حيث أن قوات التحالف لم تجد مقاومة تذكر، أو أن المقاومة تلك لم تكن إلا بالقدر الذي يمكّن النظام العراقي السابق، رأسه ورجالاته وقواته الموثوقة من "الحرس الجمهوري" ومن "فدائيي صدام"، من متسع من الوقت للهروب والاختفاء. فهل يكون العالم قد بالغ في الاستخفاف بما كان يردده صدام حسين، في أواخر أيامه رئيساً وقائدا "ضرورةً"، من أنه يسعى إلى استدراج القوات الغازية إلى حرب عصابات، طويلة ومنهكة، أعد لها العدة ووضع خططها؟ يصعب الجزم بشيء في هذا الصدد، وإن كان المنحى الذي اتخذته "المقاومة العراقية" خصوصا في الآونة الأخيرة، يمنح تلك "النبوءة" الصدّامية ضربا من مصداقية متأخرة، أو ذات مفعول رجعي. مهما يكن من أمر، يبقى أن المنحى المذكور فرض منطقه على الولاياتالمتحدة، باتجاه الإمعان في توريطها والزج بها في مواجهة طويلة الأمد، لا تتحكم في روزنامتها ولا في مداها. دعك مما تقوله الإدارة الأميركية حول نيتها تخفيض عديد قواتها في العراق إلى الحد الأدنى، من خلال الإسراع في تدريب قوات عراقية تحل محلها في أشق المهام وأكثرها خطرا، ودعك مما تردده حول عزمها التسريع بنقل السيادة السياسية إلى العراقيين... هي بطبيعة الحال قد تكون صادقة في كل ذلك، لكن الخطة تلك غير قابلة للتنفيذ، وفق الآجال الأميركية، ولن تكون، على الأرجح، فاعلة، أو أن أقصى ما قد تبلغه من فاعلية، لن يتعدى التوظيف الدعائي، حيث ستُلاك تلك الخطة بلا هوادة طوال الحملة الانتخابية الأميركية، إلى أن يقضي الله، أو الناخِب، أمراً. أما في ما عدا ذلك، فإن ضيق الوقت لا يلعب لصالح تلك الخطة. إذ يصعب، في أمد وجيز كذلك الذي تريده واشنطن، تهيئة قوات عراقية قادرة على الاضطلاع بالمهام المرجوة منها. أما عن نقل السيادة إلى العراقيين، فأمر يبدو مستبعدا في الوقت الراهن، إذ أي العراقيين ستُنقل إليهم تلك السيادة وأين هم وفي من يتمثلون؟ في مجلس الحكم الانتقالي، ذلك الذي صاغته الولاياتالمتحدة وأنشأته؟ بول بريمر نفسه، الحاكم المدني الأميركي في العراق، لا يتستر عن برمه بذلك المجلس وضيقه به، يأخذ عليه بطأه أو تردده في أداء وظائفه، وعجزه عن التحول إلى مرجعية سياسية يتعرف فيها العراقيون على أنفسهم، وينتقده على نحو يكاد يكون علنيا، من خلال تذكير أعضاء المجلس العتيد بضرورة الإسراع في صياغة الدستور العراقي الجديد، وفق ما تعهدوا به أمام مجلس الأمن... أجل أمام مجلس الأمن، طالما أن الولاياتالمتحدة باتت أكثر أمم الأرض حرصا على التقيد بالإرادة الدولية! بل أن أنباء تحدثت عن تفكير واشنطن، أو مندوبها السامي في بغداد، في استبدال مجلس الحكم الانتقالي بهيئة أخرى تبتعثها. ولكن كيف ووفق آية آليات وممن ستتكون تلك الهيئة؟ الوضع العراقي الراهن لا يحمل أجوبة عن تلك الأسئلة. إذ ليس في ذلك البلد لا حميد كرزاي، كما في أفغانستان، ولا نغو دين ديام، أو من شابهه من الجنرالات الذين توالوا على "حكم" ما كان يُعرف بجنوب فيتنام برعاية واشنطن ومباركتها، بل بمساعدة استخبارتها. ومحصلة كل ذلك، أن مثل تلك الخطة الأميركية في العراق، إن قيض لها التنفيذ، تتطلب أعواما، لا أشهرا أو سنة وبعض سنة، كما تأمل واشنطن، أو توحي بأنها تأمل. في أثناء ذلك، تسير الأمور ميدانيا وعمليا، باتجاة إطالة أمد الحرب. القوات الأميركية نفسها قد تكون، بإرادة منها أو دون إرادة، وتعمدا منها أو اتفاقا، انتقلت بالمواجهة من طور إلى طور، ومن مستوى إلى آخر، عندما أقدمت طائرات ال"أف-16" على قصف جوار تكريت بقنابل تبلغ زنة الواحدة منها 500 رطل، وذلك للمرة الأولى منذ أن وضعت حرب الربيع الماضي أوزارها، أو منذ أن أعلن الرئيس جورج بوش نهاية "العمليات العسكرية الكبرى". هكذا إذاً، وللمرة الأولى، انتقلت قوات الاحتلال الأميركية من وظيفة أشبه ما تكون بالبوليسية، تتمثل في العمل على إحلال الاستقرار وإنهاء جيوب الاضطراب و"رواسب" المواجهة السابقة، حسب عبارة كوندوليسا رايس، إلى وظيفة قتالية، عسكرية، بالمعنى الحقيقي للكلمة. ومن المرجح أن العملية تلك لن تكون مجرد فعل استثنائي، بل "سابقة" وإيذانا بمرحلة جديدة في النزاع الدائر في العراق، وأمارة لا تخطئ على تصعيد لم نشهد سوى بداياته أو إرهاصاته الأولى. وإذا ما تذكرنا ما أورده مؤخرا تقرير أعدته وكالة الإستخبارات الأميركية، ونشرت الصحف بعض فحواه، وما تضمنه من تخوف من ميل أعداد متزايدة من العراقيين إلى مناصرة المقاومة، لاعتقادهم بأن قوات الاحتلال باتت قابلة لأن تُهزم، فإن في ذلك ما يوحي بأن المواجهة باتت مهيأة للاتساع وببطلان نظرية "الرواسب" تبعا لذلك. تلك هي الصورة إذاً: الولاياتالمتحدة قد تكون راغبة فعلا في الحد من وجودها العسكري في العراق، وقد تكون ساعية إلى ذلك، لكن مجرى الأمور يملي عليها تورطا طويل المدى، بل هو استدرجها إليه وحُسم الأمر. وغني عن القول إن مجرى الأمور هذا أقوى وأفعل من تلك الرغبة... إلا إذا ما أقدمت الولاياتالمتحدة على انسحاب يكون له مذاق الهزيمة، وهو ما لا قبل لها بتحلمه والقبول به، ناهيك عن أنها تمتلك وسائل تأجيلها إلى ما نهاية ربما، أقله نظرياً. هكذا، ربما شهدت الفترة الأخيرة تحول الوضع العراقي، من حالة سلام متعذر أو يعسر إرساؤه، إلى حالة حرب لم يكن نزاع الربيع الماضي إلا مقدمة لها وأهون أطوارها.