لا، بل هذا هو صدام حسين. حقيقياً كان الى ابعد الحدود، عندما اظهره آسروه، ضعيفاً هشاً هلعاً خانعاً ذليلاً، كما يمكن للانسان ان يكون، في مثل حالات الوهن تلك وانعدام الحول والقوة. صدام الآخر، ذلك المستبد، كما عهدناه طيلة اكثر من عقدين، قاطع الألسن والآذان وجادع الأنوف، مبيد الأبرياء والمبادر بالحروب، مطلق التهديدات والمعتدّ بنفسه وبقوته المتوهّمة، الباطش الآمر الناهي، هو الذي كان مخدراً... بعقاقير السلطة، ب"ألوهية" التحكم في رقاب عباد الله ومنح الحياة أو سلبها، بمسيرات الهاتفين "بالدم، بالروح" تصاحب كل خطوة يخطوها، بالمنحنين على يديه تقبيلاً وإجلالاً، بتزلّف المتزلّفين وتملّق المتملقين ممن اتخذوه وثناً يعبدونه، يسجلون كل كلمة يتفوّه بها بالدم او بماء العين او بماء الذهب. أما الاميركان، اذا أسروا الديكتاتور العراقي السابق، وأظهروه على تلك الهيئة وهو ما قد يكون من قبلهم أمراً مشيناً، ولكن ذلك جدل آخر، فقد كشفوا فيه، من حيث أرادوا نسف أسطورته، عن إنسانية لم تكن يوماً من سماته المعهودة او المتوقعة. نقول "الانسانية" ولا نقول "البشرية" ان صح هذا التمييز، لأن نماذج من قبيل صدام حسين او أدولف هتلر او بول بوت، لا يمكنهم ان يكونوا إلا من بني البشر، لا مثيل لهم ولا صنو بين الوحوش الآبدة وهوام الأرض. لأول مرة اذن بدا صدام حسين فردا يواجه قدره ضعيفاً خائفاً سليب الإرادة بين أيدي أعدائه. قد يبدو هذا الكلام من قبيل المفارقة، اذ يقال في شأن رجل جسّد "حكم الفرد" اكثر من اي مستبد سواه ربما في زمننا الراهن هذا. لكن حكم الفرد خرافة. لا يوجد شيء اسمه حكم الفرد الا من باب الاصطلاح وتواضع الناس على تسميات غير دقيقة. اذ ليس اكثر حرصاً على الاجماع من المستبدين. الحاكم الديموقراطي يكتفي بالغالبية البسيطة او النسبية، اما المستبد فمحكوم بهاجس الاجماع لا يقنع بما هو دونه، يستولده او يستولدونه له استيلاداً. وقد بلغ الهوس ذاك بالديكتاتور العراقي السابق أوجه، حيث انفرد بين نظرائه بإعادة "انتخابه" بنسبة مئة في المئة من الاصوات. الحاكم المستبد اذن هو نتاج تواطؤ عريض جداً على الجبن او الخوف او الطمع او دناءة النفس. صدام وحيداً هو ذاك الذي رأيناه بين أيدي آسريه الاميركان، اما صدام الحاكم فكان أبعد من ان يكون فرداً بل كان نقطة يتقاطع عندها ويتبلور فيها ما لا يستوفيه حصر من الحسابات الصغيرة ومن الاستراتيجيات الفردية القميئة، من المخاوف المبررة في احيان كثيرة ومن وضيع المطامع. وكل ذلك كان جماعياً الى أبعد الحدود. والمستبد ذاك، مثله في ذلك مثل كل مستبد، انما يُستنسخ في آلاف، بل في ملايين، المستبدين من مختلف المراتب، من أعلاها الى أدناها، يستظلون بمشيئته، حقيقة او ادعاء، يسومون من هم دونهم بطشاً وتنكيلاً. فالاستبداد سرطان يستشري في أوصال المجتمع، وذلك هو سر استمراره وشرطه. لذلك، لا يمكن لأمة او شعب كابدا الاستبداد، خصوصاً ما كان منه على شاكلة ذلك الصدامي، الا ان يستشعر إهانة عميقة وقصوى، والا ان يعودا الى تجربتهما تلك لمحاسبة الذات من خلال محاسبة الجلادين. يكون من السهل الركون الى دور الضحية، ووضع كل الوزر على كاهل الرئيس العراقي المعتقل وبطانته، من دون التساؤل بعمق وصراحة حول ما الذي يجعل استبداداً بتلك الفظاعة يخرج من أحشاء المجتمع العراقي، ويتمكن منه بكل تلك القوة، وطوال تلك العقود المديدة، بحيث لم يأت الخلاص الا على يد الأجنبي، وبذلك المقابل الباهظ، ممثلاً في مقايضة الاستبداد بالاحتلال. ليس في القول بذلك لوم للعراقيين او انتقاد، اذ لا فارق بينهم وبين "الأشقاء" او الكثيرين منهم في ذلك الا ما كان من قبيل الدرجة والفداحة لا من حيث الطبيعة، وان كانت للاستبداد الصدامي فرادة لا تُنكر. لكل ذلك فان أمر محاكمة الديكتاتور السابق يجب ان تؤول الى العراقيين، هم الذين حُرموا امكانية تحرير أنفسهم من ربقته، يجب ان يتولوا تصفية حساباتهم معه ومع حقبته، التي كانت حقبتهم أيضاً. نعلم بأن الرئيس جورج بوش قد تبنى المطلب هذا، وذهب الى حد الايحاء مسبقاً بالحكم محبذاً الإعدام، على ما هو معلوم عنه من ولع بتلك العقوبة الهمجية على ما دلّت سنوات حاكميته في ولاية تكساس وان في ذلك ما قد يثير الشبهة. لكن هذا لا يلغي ان أمر محاكمة صدام يجب ان يؤول الى محكمة عراقية والى قضاة عراقيين. لأن اللحظة تلك، لحظة المحاكمة، هي التي يمكنها، شرط ان تكون عادلة وغير ثأرية، ان تكون أول فعل سيادي، وان تستوي فعلَ تأسيس للعراق الجديد او المنشود، لا التاسع من نيسان ابريل يوم دخول القوات الاميركية الى بغداد، ولا يوم القبض على صدام حسين. ولأن محاكمة صدام حسين مدعوة الى الاضطلاع بمثل تلك الوظيفة التأسيسية، ولأنها ستكون المرة الأولى في التاريخ الحديث للعراق، وللمشرق عموماً التي يتم فيها التأسيس على فعل عدالة، لا على أحداث انقلابية يصار الى تضخميها والى أصنمتها أو أسطرتها، فان الامر ذاك لا يمكن ان يتولاه احد، او طرف، مكان العراقيين ونيابة عنهم، ولا حتى بعض المحاكم الدولية او الأممالمتحدة. هناك خصوصية عراقية في هذا الصدد، قد لا يستقيم قياسها على حالات أخرى، كتلك الصربية، مع احالة سلوبودان ميلوشيفيتش الى محكمة جرائم الحرب في يوغوسلافيا السابقة، او حالة سييراليون او بوروندا او سواهما. صحيح ان اشكالات قد تنتصب في مواجهة خيار كهذا. بعضها محلي عراقي، حيث يمكن لمحاكمة الديكتاتور السابق ان تنزلق الى محاكمة للطائفة العرقية المذهبية التي ينتمي اليها، اي العرب السنّة. لكن المشكلة تلك قد لا يكون من المتعذر تجاوزها، خصوصاً اذا ما تذكرنا أن صدام حسين، وإن صدر عن غلبة سنية تقليدية تعود الى لحظة تأسيس العراق الحديث، الا انه، ومن معه من رعاع السنّة وسواهم، ومن أهل عشيرته، هو الذي انحرف بتلك الغلبة التقليدية، والتي ربما باتت تستوجب مراجعة، باتجاه الاستبداد. والفارق جلي بين هذا وتلك. وتبرئة السنّة من الاستبداد الصدامي متاحة اذن، وليس فقط على سبيل "الحيلة الفقهية"، ويمكن لمحاكمة الديكتاتور السابق ان تكون أداتها الفاعلة. ثم هناك إشكال آخر، هو المتعلق بالطرف المخوّل المحاكمة ووفق أية تشريعات. فمجلس الحكم الانتقالي لا يمثل السلطة الشرعية في العراق، ولا يحظى بالاعتراف الدولي بصفته تلك. وهذه عاهة حقيقية خصوصاً اذا ما تعلق الأمر باجراء محاكمة عادلة، ومستوفية كل الشروط القانونية ولا غبار عليها. ثم ان الترسانة القانونية، هي تلك التي صيغت في عهد صدام حسين. فهل يمكن القطع مع عهده، على ذلك النحو المبرم الذي يريده العراقيون، او أغلبية منهم، مع الإقرار بشرعية قوانينه؟ تلك مشكلة يتعين تذليلها، ربما من خلال تبني المحكمة العراقية التي سيصار الى تشكيلها، وفق آليات يتعين ابتكارها او في صورة انتقال السيادة السياسية الى العراقيين على ما وعد الرئيس بوش، للقوانين والتشريعات الدولية والاجتهادات التي تراكمت في مثل تلك الحالات، منذ مقاضاة النازيين في نورمبورغ الى يومنا هذا... واذا ما حصل ذلك، إن افتى الحقوقيون بجوازه، فسيمثل خطوة رائدة وبداية جيدة للعراق الجديد، إن هو استدخل أرقى التشريعات الدولية في ذلك الصدد في محاكمة داخلية وسيادية. ولكل تلك الاعتبارات يكون من الاجحاف في حق العراقيين حرمانهم من محاكمة ديكتاتورهم السابق.