يكاد الحجاب يقع في دائرة الخلط المتعمد الذي تصنعه الانتقادات الحادة الساعية الى تعميق الإيهام بعدم جدواه. وبحكم تواتره، وبمقتضى الأفكار التي تأسس عليها، ثم بفعل المواقف الذهنية التي تحرك المتناولين له، أصبح الحجاب مطية يتوسل عبرها المغرضون إثارة قضايا حرية المرأة. ويرى كثيرون أن المراوحة بين الحداثة والتقليد أوجدت فكراً مشوهاً غير مكتمل النضوج ينادي بتحرير المرأة من طريق خلع الحجاب، ويؤسس لعلاقة تصادمية بين الحجاب والتحضر وانبثقت عنه مفارقة أزّمت موقف المرأة وحيرتها بين الالتزام بتعاليم دينها، والانسجام مع منظومة الشكل الجميل. ويقول اختصاصي الطب النفسي الدكتور محمد حباشنة ان الدعوة إلى خلع الحجاب من باب تحرير المرأة، تحدٍ ملحوظ لمفهوم الحرية نفسه كونها دعوة تمليها أجندة الرجل. ويلفت الى أن "الشعر اكتسب مكانته من افتتان الرجل به". ويذهب حباشنة إلى أن "تكريس النمطية الأنثوية المتوارثة ضيقت الخناق على المرأة، وحجمتها بقوالب الجمال، ففرضت عليها ناموساً تسرب إلى أدبيات العلم وينزع إلى فكرة مفادها أن المرأة تفرح عندما يمدح جمالها فيما يفرح الرجل عندما يمدح انجازه، مما أربكها كإنسان، واشعل فتيل الصراع داخلها... فإما أن تتحجب فتوصم بالرجعية، وإما ألا تتحجب فتعق خالقها وتخرج عن العادات والتقاليد". وتقول رنا كامل 27 عاماً إنها تحجبت منذ عام إلا أنها تعجز عن تقبل حجابها، معللة بأنه "أضاع ملامح شخصيتها، وقلّص هامش حريتها". وتضيف ان الحجاب حصرها في شخصية محددة في حين أنها تفضل أن تبدو مختلفة المظهر في كل وقت ومناسبة. وتكشف رنا عن أنها تحجبت نزولاً عند رغبة خطيبها الذي لمح لها مراراً انه يفضلها محجبة. وتتهم شيماء 30 عاماً الحجاب بأنه "سرق طفولتها". وتقول ان والدها فرضه عليها منذ كانت طفلة، وتذكرت يوم ضربها ضرباً مبرحاً حين صادفها تلعب في الحي وقد سقط "الإشارب" على كتفيها. وتعلّق شيماء: "لم أر والدي يصلي قط، ولكنه كان متشدداً في موضوع الحجاب من منطلق شرف العائلة". وتستغرب شيماء عدم قدرتها على خلعه بعد مرور أكثر من عشر سنوات على وفاة والدها. وتنتقد منى 26 عاماً دعوات تحرير المرأة المنادية بخلع الحجاب، متسائلة: "لماذا لا يتعامل المجتمع مع المرأة كإنسان بصرف النظر عن طريقة لباسها؟". وترى لبنى وليد، الطالبة الجامعية، أن الحجاب ممارسة واضحة لحق المرأة في حجب جمالها عن الآخرين، مؤكدة انه "ينقي النفس ويريحها من نظرات الشهوة". وتستهجن لبنى، التي ترتدي الحجاب منذ ست سنوات، إعراض بعض الفتيات عنه، "فهو يتسق مع فطرة الأنثى السليمة". وتعتبر لبنى أن "اختلاف المفاهيم وضعف التمسك بالدين، أوجدا ثغرات استغلها المغرضون لتسميم أفكار الفتيات وابعادهن عن الحجاب". وتعتقد ان انطباع الأميركية كريستين فان كامب عن الحجاب "تأثر بالمنظور الغربي الذي برز غداة ظهور الحركات النسائية في الستينات والذي ينتقد الحجاب باعتباره شكلاً من أشكال سيطرة المجتمع الذكوري على المرأة، ظنا منها أن المرأة الشرقية ترتدي الحجاب استجابة لضغوط يمارسها الرجل عليها". غير ان مجيئها إلى الأردن للعمل واختلاطها بمجتمع المحجبات اللواتي أكدن لها أنهن ارتدينه بناء لرغبتهن، كوّن لدى كريستين 32 عاماً قناعة جديدة تتمثل في "احترام رغبة المرأة في ارتداء الحجاب، واستنكار فرضه عليها من الحكومات التي يديرها الرجال". وتنوه كريستين بالمحجبات "اللواتي تحررن من نماذج غير واقعية للجمال أكثر من اللواتي سخّرن انفسهن لملاحقة الموضة". وتنطلق سهام بركات 24 عاماً من الفكرة نفسها، فهي ترى أن الفتاة المحجبة "تفردت بشخصية ميزتها عن نساء العالم اللاهثات وراء الموضة، فتمكنت من أن تشب عن طوق معايير الجمال التي وضعها الرجل مختارة أن تظهر بمظهر يوحي بالحشمة والاحترام أكثر مما ينزع للفت الانتباه وإثارة الاعجاب". وللحجاب جوانب اقتصادية متعلقة بالطبقات الاجتماعية. ويقول الاختصاصي الاجتماعي جمال السعد: "ربما يكون للحجاب بعد اقتصادي يتقاطع مع تقسيمات المجتمع الطبقية. فالحجاب ينتشر بين نساء الطبقة المتوسطة والفقيرة أكثر من انتشاره بين نساء الطبقة الغنية". ويعزو ذلك إلى "تأثير الوضع المادي على أسلوب اللباس، فضلاً عن التأثير الاجتماعي الذي يلزم الأفراد بالانضواء تحت لواء المقبول والمرفوض ضمن معايير الطبقة". ويعتقد السعد أن "الحجاب زهيد التكاليف مقارنة بمتطلبات مسايرة الموضة، وزيارة صالونات التجميل". وفي سياق اللغط الذي يدور حول الحج، يرى السعد أن "التحدي الحقيقي الذي تواجهه المجتمعات الإسلامية هو القدرة على التطور مع الاحتفاظ بشخصية إسلامية القسمات"، لافتاً إلى أن "الحجاب أبرز ملامح المجتمعات الإسلامية وضوحاً". ويبدو ان المزاوجة بين الحجاب والسفور أنتجت ظاهرة "الحجاب المسخ" الذي يتضمن اتباع استراتيجيات تحايل على الحجاب تتلخص بارتداء الملابس الضيقة، وكشف غرة الشعر، والمبالغة بوضع مساحيق التجميل في إشارة واضحة على عدم تبلور مغزى الحجاب. ويرتكز قرار ارتداء الحجاب على التزام ديني ورضا نفسي، وجهد تربوي كما يتأثر بالقدوة والأصدقاء وفي سياق متصل. ويقول اختصاصي العلوم التربوية وليد شرف ان "الفتاة المترددة أو المنزعجة من ارتداء الحجاب تقع فريسة لصراع الإقبال والإحجام، فهي من جهة راغبة في الحجاب ارضاء لله تعالى، وانسجاماً مع مجتمعها، ولكنها وما ان تقترب من حسم الصراع، حتى تتضخم مخاوفها من انحسار جاذبيتها وتراجع تقليل فرصها في الزواج والعمل". ويحذر شرف من "الضغط على الفتاة المراهقة لإجبارها على ارتداء الحجاب لما تشتمل عليه هذه من المرحلة من اضطرابات نفسية، وما تمتاز به من حب للتمرد"، لافتاً إلى أن "للأهل والصديقات تأثيراً واضحاً في قرار الفتاة بارتداء الحجاب". وأفرز الاجبار على ارتد الحجاب وعدم استناده إلى وزاع ديني، فئة من المحجبات فرطت بقدسيته وتحينت الفرص لخلعه. وتقول فتاة تفضل عدم ذكر اسمها، إنها صادفت محجبات "يدخلن أماكن لهو فيخلعن الحجاب ويرقصن ويلتقين أصدقاءهن الشباب للرقص ثم يعدن لارتدائه قبل مغادرتهن". ويوضح أستاذ الشريعة في الجامعة الأردنية الدكتور محمد القضاة أن "الحجاب ليس نتاجاً إسلامياً صرفاً إذ شرع الحجاب عند أهل الأديان السماوية الثلاثة بمعناه الداعي إلى العفة والطهارة وحماية المجتمع من الفتن". وتقول هيفاء مراد إن "للمحجبة حياة مزودجة تلتزم فيها عند الخروج من منزلها بزي شرعي مقتصد الزينة، فيما تضاهي نجمات السينما أناقةً في بيتها وأمام صديقاتها ومحارمها". وتسخر مراد الحاصلة على ماجستير هندسة مدنية من "الذين يتهمون المحجبة بأنها فرطت بأنوثتها وفوتت على نفسها فرصة الاستمتاع بشبابها، لأن المرأة المحجبة امرأة ذكية تشبع رغبتها بأن تكون جميلة ومواكبة للموضة في منزلها أو أمام محارمها من دون ان تغضب الله تعالى". واستطاعت المحجبات في الأردن فرض وجودهن بقوة على السوق، فانتزعن قسماً خاصاً بهن في استديوات التصوير الفوتوغرافي وصالونات التجميل ومراكز التنمية الصحية، ولدى متعهدي تصوير الحفلات. وأفردت لهن محلات تجارية ومصانع متخصصة بانتاج وبيع الملابس الخاصة بهن والتي تشكل رافداً اقتصادياً لا يستهان به. ويقول مدير المبيعات في "شركة ساجدة" للزي الشرعي إن "للشركة 16 فرعاً تغطي معظم مناطق المملكة، إضافة إلى نشاطات بيعية وتسويقية تمتد إلى مختلف بلدان العالم". ويؤكد أن "قسم التصميم في الشركة يعنى بتلمس احتياجات وأذواق المستهلكات على ضوء دراسات وأبحاث يقوم بها، مع المحافظة على الهوية الثقافية الإسلامية للزي". وأضفى العائدون من الخليج عام 1991، تغييراً على الشكل وفرضوا نمطاً جديداً للحجاب يتمثل بالعباءة والشال، وهو اللباس التقليدي للمرأة الخليجية تفصل العباءة من قماش ناعم خفيف أسود اللون. وقد أدخل المصممون الاردنيون بعض التعديلات على شكلها، فتعددت الوانها وموديلاتها بما يتفق مع ذوق المرأة الأردنية. كما نشروا حجاب الرأس المكون من قطعة قماش بحجم متر مربع تطوى على شكل مثلث وتثبت على الرأس بدبوس عند العنق. وهو يعرف باسم "الأشارب الكويتي". ويقال إن حجاب الرأس المكون من قطعتين ويعرف باسم "حجاب الأميرة"، تسرب إلى أسواقنا المحلية من سورية، وتجمع المحجبات على أنه حجاب عملي وانيق، خصوصاً أنه يوفر للمحجبة طيفاً واسعاً من الألوان والخامات تختار منه ما يناسب ذوقها وموازنتها. وفيما يخص ملابس المحجبات، فيمكن تصنيفها في فئتين رئيستين، الأولى تتضمن الملابس الاعتيادية أطقم، تنانير، قمصان…، كما تتضمن البنطلون الذي شاع في التسعينات. وبينما تؤكد محجبات يرتدين البنطلون أن "لا بأس من ارتدائه على انه يكون فضفاضاً ومع قميص طويل"، تعتبره اخريات "خروجاً عن جادة الحجاب". وفي حين يفسر بعضهن انتشاره بالحاجة للباس عملي لا يقيد حرية الحركة، تتجه فئة ثانية الى تفسيره على ضوء "تركيز دور الازياء على البنطلون أكثر من غيره من قطع الملابس". أما الفئة الثانية فهي الجلباب. وتقول فاطمة الكردي إنها ترتديه منذ 35 عاماً، مبينة أنها "كانت تفصله عند خياطة شامية، اذ لم يكن دارجاً في ذلك الحين بينما شاع ارتداء "المانطو" - في الشام - وهو يشبه الجلباب إلا أنه اقل طولاً". وتتقاطع فئة المنقبات مع الفئة الثانية بجزئية ارتداء الجلباب، وتتميز عنها بحجاب الرأس الذي يشبه غطاء الرأس في ملابس الصلاة، وتقتصر ألوانه على الأبيض والأسود، وهو يغطي الجذع، وترخى المنقبة غطاء على وجهها قد تظهر منه عيناها فقط.