"إذا لم تخلع ابنتك الحجاب عن رأسها، فابحث لها عن مدرسة أخرى تستقبلها" ببساطة متناهية نقل لي والدي تلك الرسالة الشفوية التي لم أستطع - بحكم صِغر سني حينها - أن أفهم معانيها وأدرك أسبابها "المقنعة" التي قدَّمتها مدرستي كالتذرع بأن قوانينها الإدارية تمنع تواجد المحجبات في صفوفها لأن ذلك يلحق الأذى بنفوس بعض الطلاب!! وبكل برودة أعصاب طلب مني خلع الحجاب معتبراً أنني لا أزال في التاسعة من عمري، وبالتالي هو يعرف مصلحتي أكثر من أي إنسان آخر. آلمني ذلك الطلب الذي سرعان ما تحول إلى أمرٍ وجب عليّ تنفيذه من دون جدل، وأذكر أنني أمضيت الليلة أبكي رافضة التخلي عن حجاب كنت مقتنعة بوجوب ارتدائه بشكل فطري، ولكنني في الصباح رضخت للواقع على قاعدة... "حكم القوي على الضعيف"! وبعد مرور خمسة أعوام استطعت إقناع والدي، عبر سلسلة مناقشات ومناوشات ، برغبتي الصادقة في ارتداء الحجاب حتى ولو كان ذلك على حساب مستوى العلم الرفيع الذي تمتاز به مدرستي الفرنسية - اللبنانية، فاستسلم والدي في النهاية ووافق على انتقالي إلى مدرسة أخرى ذات طابع إسلامي، واستطعت بالتالي أن أضع الحجاب، وأرتدي الثوب الشرعي وهو ثوب طويل فضفاض غالباً ما تكون ألوانه قاتمة. وعندما قررت بعد ثلاثة أعوام، أن أستبدل الثوب الشرعي بالملابس العادية تنورة وقميص، لم أعتبر أن خطوتي تلك سيكون لها صدى كبير في المجتمع المتديِّن الذي اخترت الانتماء إليه إرادياً بما أن الحجاب بقي واحداً ولم يختلف، إنما جلَّ ما تغير هو "ستايل" اللباس وألوانه... إلا أنني فوجئت بعواصف من النقد اللاذع والأقوال الظالمة التي واجهتني مثل: "أنتِ تتراجعين شيئاً فشيئاً، وقد اقترب اليوم الذي ستخلعين فيه حجابك" أو "هذه بداية نهاية التزامك الديني"... وغيرها من الأحكام المجحفة بحقي، حتى شعرت فجأة أنني أصبحت منبوذة في وسط الملتزمين. ربما كنت أبالغ اليوم في تصوير ردود الفعل، ولكن ما أذكره جيداً هو أنها آلمتني بمقدار ما آلمني طلب والدي خلع الحجاب... ففي حين اعتبر محيطي الملتزم أنني "انحرفت عن الطريق السليم" لأنني استبدلت الزي الشرعي بآخر، كان والدي يعتقد أن: "الإيمان في القلب، والحجاب من الكماليات الظاهرية"... واليوم أنا واثقة أن الطرفين لم يفهما المعنى الحقيقي للإسلام! ختمت حنان 22 عاماً بهذه العبارة قصتها مع الحجاب، وزفرت أنفاساً عميقة وأضافت: "أراد الدين الإسلامي من الحجاب ستر الجسد، ولكنه لم يحدد نوعية اللباس أو لونه، وترك مسألة رسم التفاصيل للمراجع الدينية المختصة، وأنا اليوم، أعتبر أنني ملتزمة إن شاء الله بالحجاب الإسلامي، بما أن ملابسي فضفاضة وألوانها هادئة غير صاخبة، حتى أنني لا أتبرج، ولا أتزين أبداً حين أخرج لأن ذلك يتنافى مع مفهوم الدين للحجاب...". ربما تصلح قصة حنان مدخلاً لموضوع غالباً ما يشغل المتديِّنات وهو تحديد معنى الحجاب في حال رغبن بمراعاة الحدود الدينية وعدم الشذوذ عن الضوابط الإسلامية... ولكن من يحدد لهن أي ثوب هو الأنسب، وأي لباس هو الأمثل، خصوصاً أن تقرير تلك المسائل غالباً ما يكون أمراً نسبياً يختلف باختلاف البيئة والتربية والرؤية الدينية الخاصة؟ العباءة السوداء هي الزي الأمثل تعتبر فاطمة 24 عاماً أن العباءة السوداء الشادور التي ترتديها، "ليست واجبة في الإسلام" ولكنها تُعدّ "الزي الأمثل للحجاب" وتقول: "رسم الإسلام الخطوط العريضة للحجاب، وأمر النساء بستر أجسادهن للحفاظ عليها، وإذا تحقق هذا الستر بالملابس العادية فليكن، ولكنني شخصياً أعتبر أن العباءة هي الوسيلة الفضلى للفوز برضى الله، بما أنني أتوق دائماً نحو الكمال في علاقتي به، وقد وجدت في شكل العباءة السوداء ستراً مثالياً لي كفتاة ملتزمة بالدين، وعلى رغم أنني أشجع الكثير من زميلاتي على ارتدائها إلا أنني لا أعتبرها مقياساً للالتزام ولا أتجرأ على تحديد عمق التزام أي محجبة بناءً على مظهرها الخارجي أو أسلوب لبسها". لا بأس ببعض التبرج! ووافقت أحلام رمال 19عاماً فاطمة الرأي، ولكنها أضافت: "أعترف بأنني أتبرج حين أخرج من المنزل، وغالباً ما أرتدي ملابس ضيقة وغير شرعية بحكم البعض، ولكنني على الأقل ملتزمة بالحجاب، ومقتنعة به، ولم يجبرني أحد على ارتدائه، وأعتبر أن ديننا يُسر والمهم أن أحقق ستر الشعر والجسد، ولكن... لا بأس ببعض التبرج!". وتدعّم أحلام وجهة نظرها بالقول ان الرسول ص حين أمر النساء بالحجاب لم تكن الثياب المتجددة قد ظهرت بعد، لذلك لا بد لمفهوم الحجاب أن يتطور بما أن الأذواق قد اختلفت كثيراً عبر القرون المتعاقبة، وتستطرد: "يعتقد البعض أنني لم أفهم المغزى الأساسي للحجاب... ربما لديهم الحق... ففي النهاية لا أحد يستطيع تحديده على وجه الدقة، ولكنني متوافقة تماماً مع مظهري، ومتمسكة بحجابي وأرتاح للشكل الذي أبدو فيه، وهذا هو المهم". أنتظر اليوم الذي أخلع فيه الحجاب وعلى عكس أحلام التي اختارت ارتداء الحجاب بناءً على قناعة شخصية، ترفض روان 18 عاماً الحجاب قائلة: "لست مقتنعة به أبداً، وأنا أرتديه إرضاءً لوالدي فقط، وأعتقد أنني لن أتوانى عن خلعه ما أن أقدر على ذلك". ويبدو واضحاً من مظهر روان، أنها تضع "منديلها" بالقوة، وأنها غير منسجمة بتاتاً مع واقع كونها محجبة، فالقماشة الصغيرة المزركشة التي "تزين" أوسط رأسها لا تكاد تخفي شيئاً من شعرها الطويل الذي يتدلى إلى الخلف، وتنسدل خصلات منه على جبهتها، وبينما رفعت أكمام قميصها القصير وارتدت سروالاً يرسم تفاصيل جسدها، تعترف بثقة: "لا أعتبر نفسي محجبة، ولكنني كذلك لست سافرة! أحاول من خلال هذا النمط في اللباس أن ألبي رغبة والدي ورغبتي أيضاً، فأنا أعتبر أن أهم ما في الأمر هو أن تحافظ الفتاة على نفسها، والحجاب الأساسي هو الداخلي والنفسي وليس المادي...". موضة الحجاب الخاصة وترفض رولا 21 عاماً صديقة روان، هذا المفهوم، وتقول: "لقد كان الإسلام واضحاً في فرض الحجاب على المسلمات، ولكن للأسف، كلُّ منا يفسر الدين على هواه، أنا أعتقد أن المسلم الحقيقي هو الذي يطيع أوامر الله ونواهيه، ولا يحاول أن يخضع الأحكام الدينية لدراسة شخصية، فيلتزم بما يعجبه منها، ويبتعد عما لا يناسب رغباته!". وترتدي رولا الثوب الشرعي منذ خمسة أعوام ، ويغلب اللون الأسود على معظم ملابسها ولكنها تؤكد أنها كانت تفضل الألوان القاتمة قبل أن ترتدي الحجاب، وتعلّق على الأزياء الحديثة للمحجبات بالقول: "كل فترة تظهر موجة ملابس جديدة، بألوان وأشكال مختلفة، لقد أصبح للمحجبات موضة خاصة يتبعنها، وبذلك تتفنن الشركات المنتجة للأثواب الشرعية، فتارة يظهر الشرعي الأبيض، والأصفر، وأخرى يُبدع مصمموه في تضييق الخصر وزركشة الأكمام، وقد ظهرت أخيراً الأكسسوارات الخاصة بالحجاب الذي لم يعد مجرد ساتر للجسد بل أصبح له عالمه الخاص، وصارت المحجبات يتكلفن في اختيار ملابسهن...". الشرعي الجينز وعن هذه النقطة، تقول سناء بيضون 28 عاماً، وتعمل منذ 7 أعوام في محل للملابس الشرعية، ان أذواق المحجبات أصبحت تتأثر شيئاً فشيئاً بالموضة و"الدارج"، وتضيف: "هناك بعض الزبونات اللواتي تراعين الحدود الشرعية كثيراً أثناء اختيارهن الملابس، ويحاولن التأكد من وسع الثوب ورصانة لونه، بينما تستهوي الموضة السائدة الأخريات، وخصوصاً الشابات اللواتي يفضلن الألوان الصاخبة والموديلات الدارجة". وتشير سناء إلى موضة الثوب الشرعي "الجينز" وما لقي من استحسان عند المحجبات لا سيما "الصبايا" منهن، قائلة: "ازداد الطلب على الأثواب الشرعية مع ازدياد عدد المحجبات في شكل عام، وتحاول الشركات المنتجة لملابس المحجبات أن تراعي خصوصية ذوق كل جيل، وبالطبع يكون للشابات الحصة الأوفر". الحجاب والمذهب الديني من جهتها، أشارت أسماء 30 عاماً إلى مسألة لا تقل أهمية، وهي ظهور هوية المحجبات الدينية والحزبية بوضوح من خلال شكل حجابهن ونوعه. وعبّرت بالقول: "يستطيع المرء للوهلة الأولى أن يتعرف إلى المذهب الديني للفتاة المحجبة، وإلى الحركة السياسية أو الدينية التي تنتمي إليها، أنا مثلاً أشبك طرف الحجاب في القسم الأعلى من رأسي، وهذا هو العرف بالنسبة ل"الأحباش" و"جمعية المشاريع الإسلامية" بينما تتحجب نساء "الجماعة الإسلامية" بطريقة مختلفة، وكذلك الأمر بالنسبة الى فتيات "حزب الله" اللواتي يملن إلى العباءات السود بينما تنزع محجبات حركة "أمل" نحو التحرر أكثر... وهكذا دواليك!". وعلى رغم أنها تفضل لو كان الحجاب موحّداً لكل المسلمات، إلا أنها تقول: "يستحيل أن تقتنع أي فتاة محجبة بإرادتها ومعتدّة بالتزامها أنها على خطأ، أو أنها لا تراعي خصوصية الحجاب، لذلك يستحيل أن يتوحد شكل الحجاب في لبنان، فما بالك ببقية الدول العربية والإسلامية؟". فرض الإسلام الحجاب على النساء منذ نحو ألف وأربعمئة سنة، وفي صيف القرن الحادي والعشرين، حين تعج الشواطئ بالأجساد شبه العارية، تصادف فتيات سترن أجسادهن ولم يبالين بأشعة الشمس الحارقة، فهن يرددن باستمرار: "ما همّ نار الدنيا، عند التفكير بنعيم الآخرة"! وأياً كان الهدف من حجاب "الصبايا"، تقيداً بالواجب أو خضوعاً لرغبات الأهل أو حتى تماشياً مع العرف، هنّ في النهاية محجبات استطعن ايجاد عالم للأزياء خاص بهن، من ألوان وأكسسوارات وكماليات، وأحياناً كثيرة يتهامسن حول مدى مراعاة إحداهن لضوابط الحجاب العامة. وتعتبر كل منهن أنها قريبة جداً من مقاصد الإسلام، وعلى رغم أن الآيات القرآنية كانت واضحة جداً، إلا أن الحجاب كغيره من المسائل الدينية يحتمل أوجهاً عدة. وحين حدد الدين إطاره العام كان يعرف مسبقاً أن البعض سيفهمه بارتداء العباءة السوداء والكفوف السود وساتر الوجه، بينما سيجتهد البعض الآخر ليضيِّق اللباس ويشق طرف التنورة وتتألق ألوانها... وما بين هذا وذاك... يندرج الإطار العام!