عام 1949 صدرت رواية جورج أورويل الشهيرة بعنوان "1984" وهي قصة تخييلية، مستقبلية، بناها اورويل على توقعاته وخيباته حيال الأنظمة التوتاليتارية والديكتاتورية التي توقع استشراءها بعد الحرب العالمية الثانية. وتصف الرواية المذكورة عالماً تحكمه طغمة مستبدة في حال متواصلة من الحروب، مما يؤدي الى سحق المواطنين سحقاً كاملاً من طريق وضع كل السلطات المطلقة في عهدة السياسيين، ولو من طريق تشويه الحقائق واعادة كتابة التاريخ، خدمة لبقائهم في السلطة. ولعلّ ما لم يتوقعه جورج اورويل، أن تتحقق "نبؤته" على صعيد ما نشهده اليوم في ظل رعاة "نظام العالم الجديد" الذي بشّر به جورج بوش الأب ويكمل تحقيقه جورج بوش الابن... بلا هوادة! على أثر أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001 جمعت الإدارة الأميركية "رؤوسها" وفي قمتهم القانونية المدعي العام الفيديرالي جون أشكروفت، الذي انكبّ معه جيش من المشرّعين، لاستنباط قانون جديد أطلق عليه اسم "قانون الوطنية" Patriot Act هدفه الأساسي اعادة النظر في حريات التعبير السياسي في أميركا بحجة الدفاع عن المواطنين ضد الارهاب. وتضمن القانون المذكور 1016 بنداً تدور كلها حول اطلاق يد السلطة في كل المجالات الحياتية والعملية والالكترونية والحقوقية حيثما ارتأت ومن دون مسوّغ معلن أو محقق وبناء على الشبهة أو الاستنساب، كي يقتحم رجالها أي منزل أو مكتب أو مركز عمل أو صلاة والقبض على الموجودين هناك سواء كانوا على علاقة بموضوع المداهمة أم لا... وقبل الدخول في تفاصيل "قانون الوطنية" الذي صدر عام 2001 لا بدّ من الإشارة الى ان اشكروفت وزملاءه في صدد ادخال تعديلات جديدة على القانون المذكور من شأنها ازالة كل عائق قانوني أو دستوري، مهما كان منوطاً بقدسية الحريات الشخصية وحرمة الممتلكات، لتمكين المنظمات الحكومية ك"سي آي إيه" و"أف بي آي" وغيرهما من التحرّك من دون غطاء حقوقي، نظراً الى "خطورة الوضع، وحفظاً للأمن القومي". وتتناول التعديلات المتوقعة، وهي تقع في 120 صفحة اضافية، تفاصيل دقيقة مما طرحه القانون الأول. فعلى سبيل المثال: إذا صدر الأمر بمصادرة هاتف خلوي بناء على الاشتباه برسائله الالكترونية، غير الصوتية، يقترح التعديل الجديد أن يشمل الاستقصاء كل وظائف الخلوي بحيث تنتفي الحاجة الى أمر جديد لكل وظيفة. وعلى صعيد السرية المصرفية ستستطيع الحكومة الحصول على التفاصيل المالية لأي مشتبه فيه من دون اللجوء الى مذكرات جلب محققة، أي واضحة الأسباب. وبالتالي فان الحكومة غير مجبرة على نشر تفاصيل التهم الموجهة الى أي شخص تعتقد أن له علاقة ب"الارهاب". ومن جهة أخرى تزيد التعديلات في صلاحيات المدعي العام الفيديرالي، فلا يعود في حاجة الى اذن من المحكمة ليأمر بالتنصت على أحد، لا في زمن الحرب فقط، بل كلما ارتأى الكونغرس ان الولاياتالمتحدة في خطر. وجددت التعديلات المقترحة تحديد هوية "العدو" فلم يعد "القوة الغريبة المعادية" فحسب، بل ما سمّته ب"الذئب المستوحد"، أي مجرّد فرد يُعتقد انه "ارهابي". وسيكون في متناول صلاحيات المدعي العام أن يأمر بالحصول على تفاصيل الحمض النووي DNA لأي شخص يشتبه في ضلوعه، من بعيد أو قريب، في النشاط الارهابي. كما سيصبح في الامكان ترحيل الأشخاص المشبوهين - من دون محاكمة ومن دون حاجة الى اثبات الشبهة - وفي صورة فورية. واضافة الى ذلك سيسمح بالتجسس على حسابات بطاقات الصرف في صورة متواصلة لأي شخصٍ أو مؤسسة. في عالم جورج اورويل ضمن رواية 1984 "الأخ الأكبر" هو القائد اللامنظور الذي يعرف كل شيء عن رعاياه بما فيه أفكارهم. يكتب أورويل: "لن نعرف أبداً كم مرة، أو أين أو متى، تجسس "بوليس الضمير" على أي من اتصالاتنا، وبالطبع لم يكن هناك أمل كي نعرف ما إذا كنا مراقبين على الدوام أم لا". ليس في الرواية تعقيدات أعاقت "الأخ الأكبر" عن تنفيذ "جمهوريته الفاضلة". أما الرئيس بوش فكان في حاجة الى اتخاذ تدابير، هي الأسرع اطلاقاً في تاريخ سنّ القوانين من أميركا، كي يوافق طبق "الأخ الأكبر" في السيطرة التامة على مقادير البلاد والعباد. وبعد أسبوع واحد على الحادي عشر من أيلول كانت بنود "قانون الوطنية" جاهزة كمشروع أمام الكونغرس. وفي 26 تشرين الأول أكتوبر وقع الرئيس الأميركي القانون، بعدما مرّ بأقصى سرعة ومن دون مناقشة وبإجماع قلّ نظيره، على الكونغرس. مما يعني، حقوقياً، انه مشروع بلا تاريخ ولا مرجعية قانونية متراكمة، ومما سيؤدي بالتالي الى اجتهادات بلا نهاية. ولكن كيف تكونت بنود المشروع بهذه السرعة؟ ليس في الأمر سحراً، بل كان في أدراج الإدارة مشروع قانون آخر، تعرّض للنقد والرفض من قبل المحافظين والليبراليين على السواء وعرف بمشروع "مقاومة الارهاب"، فلم يكن على اشكروفت وزملائه سوى الأخذ بأبرز الاعتراضات التي واجهت تلك المسودة واعادة تحرير محتوياتها على نار مستعرة أججتها احداث 11/9 كما باتت معروفة في أميركا. وخلاصة المسألة ان معظم بنود "قانون الوطنية" نوقشت وتعرّضت للنقد الشديد قبل ضرب البرجين والبنتاغون، فكيف تسقط كل المآخذ بعد الضربة؟ ولماذا؟ السؤال طرحه رئيس الموظفين في البيت الأبيض جون بودستا الذي غادر مكتبه الى غير رجعة بعد صدور القانون، وهو قال: "استطاعت أحداث الحادي عشر من أيلول ان تقنع الأكثرية في مجلس الشيوخ بأن السلطة في حاجة الى ادارة قانونية جديدة لمقاومة الارهاب. لكن ليس علينا أن ننسى ان ما أثار الاحتجاج على القانون الذي أُعدّ سابقاً للهدف نفسه، يتعلّق بعودة السلطة الى زمن التدخل غير المشروع دستورياً في حياة الناس وشؤونهم الشخصية، مما يخالف البند الأول من الدستور. والواقع ان ما حصل في 11 أيلول لا يسوّغ العودة الى ذلك الزمن". وتحسن الإشارة هنا الى ان الصوت الوحيد الذي صرخ في برية مجلس الشيوخ رافضاً التصويت للمشروع هو صوت السيناتور روس فينغولد الذي اعترض على مبدأ الانتقاص من الحريات المدنية للمهاجرين، وقال: "يكمن تحفظي خصوصاً في مسألة منح المدعي العام الفيديرالي صلاحيات موسعة تطاول مصائر المهاجرين. ولنكن صريحين عن أيّ مهاجرين نتحدث، فلن يكون هؤلاء من ايرلندا ولا من سلفادور أو نيكاراغوا، ولا حتى من هايتي أو أفريقيا. بل سيكونون من العالم العربي والإسلامي ومن جنوب آسيا. وهؤلاء أقلية تنوء سلفاً تحت وطأة الأحداث الأخيرة". عملياً، كيف أطلق القانون الجديد يد الحكومة الأميركية كيما تقونن تلصصها على مواطنيها ومهاجريها وديبلوماسييها داخل البلاد وخارجها على السواء؟ اذا كانت القوانين التي تحمي الحرّيات الفردية على كافة مستوياتها أشبه بصناديق مختومة بالشمع الأحمر، يحظر فتحها أو المساس بها إلا بسلسلة من الاجراءات جاءت نتيجة الركم القانوني - الحقوقي العائد الى مئات السنين والمستمد من تشريعات واجتهادات مرتبطة بتطوّر الوعي الحقيقي للبلاد، فان "قانون الوطنية" هو الهراوة التي حطمت تلك الصناديق. وأعاد القابضون على الهراوة ترتيب المحتويات بما يناسب أهدافهم السياسية، لا بما يتوافق مع النشوء التشريعي للأمة الأميركية. ويمكن احصاء 12 حقلاً من حقول الحقوق المدنية شهد معظمها "تصويباً" أعاد فحواها الى الوراء، وهي: التنصت الالكتروني، خصوصية التواصل الهاتفي والانترنت، حقوق التعليم المستقل والعائلي، الرصد الالكتروني والكهربائي لتحرّك الأشخاص، تبييض الأموال، الهجرة والتجنيس، قانون المراقبة المالية والضرائب، سرية المصارف، الحق في الاستقلالية المالية، كشوفات المصارف. ويفسح القانون الجديد في المجال أمام السلطة لاستنساب من تشاء، من دون مسوّغ قانوني محدد، فتتجسس على هاتفه ومبادلات الانترنت الشخصية لأسرته، بل حتى الحوارات الحميمة في سريره! أما الشعار الشهير: بريء حتى اثبات العكس، فيمكن القول من دون مبالغة ان "قانون الوطنية" والتعديلات المتوقعة لبنوده جعلته بوضوح: مذنب ولا مجال لاثبات العكس... ما دام "الأخ الأكبر" يرتأي ذلك، بالطبع. في البداية، تحت تأثير الصعقة التي خلّفها الانفجار الكبير، اصابت روح التآزر والتعاضد في زمن المصيبة الأميركيين بعمى الألوان، فلم يتنبهوا الى ابعاد القانون الجديد الذي ستطبق معظم بنوده عليهم بلا استثناء. لكن ما ان وصلت الموسى الى ذقونهم في مختلف أنحاء البلاد حتى قامت الضجة وبدأ سيل الاعتراضات يتدفق في اتجاه "صخرة واشنطن البيضاء". كليات الحقوق في جامعات أميركا هبّت لمناقشة القانون الجديد، وكذلك منظمات حقوق الإنسان وهيئات المهاجرين وعدد كبير من الأكاديميين. وشهدت كلية الحقوق في جامعة مينيسوتا نقاشاً حاداً شارك فيه بروفسوران هما ريك موران الذي عمل سابقاً في حاشية المدعي العام الفيديرالي، وبيتر ارلندر أستاذ العلوم الدستورية في الجامعة. ويقول مورغان ان القانون موضوع الجدال ضروري لمحاربة "الفاشية الإسلامية" ويضيف: "لدينا هنا وضع مميز، فأعداؤنا يستعملون مكتسباتنا في مجال الحرية والانفتاح لمحاربتنا". ويؤكد ان "قانون الوطنية" لا يغيّر في طبيعة الحرية الممنوحة للأميركيين. أما ارلندر فيقول: "كيف ذلك والقانون الجديد يمنح السلطة امكان احتجاز أي شخص لمدة غير محددة ومن دون سبب محقق قانونياً؟" ويضيف: "هذا القانون الواقع في 342 صفحة جرى جمعه خلال شهر فقط، مما يعني انه كان جاهزاً من قبل، وبموجبه حصل الرئيس بوش على الحق المطلق بأن يتهم من يشاء، ويحاكم ويحكم على مشبوهين، من دون اثباتات قانونية، مما يخالف المعطيات الحقوقية في أميركا والعالم على السواء". إلاّ ان ردود الفعل انتقلت من الاكاديميا الى الشارع بعد مرور الوقت على الصدمة وانقشاع الغمامة السوداء "الاتحاد الأميركي للحقوق المدنية" و"جمعية الدفاع عن قانون الحريات" ساهما في اسداء النصح وتسديد الخطاب المناوئ للقانون العتيد. وهكذا تحركت حتى كتابة هذه السطور نحو ثلاثين مدينة أميركية مطالبة السلطات الفيديرالية باحترام الحريات المدنية لمواطنيها خلال حربها على الارهاب. وهناك ما لا يقل عن 60 مدينة أخرى تدرس اجراءات مماثلة. صحيح ان هذه الاجراءات لا تستطيع أن تلوي ذراع الحكومة الا انها قادرة على مقاومة الكثير من الصلاحيات الفيديرالية في اداراتهم المحلية. وكما هو متوقع كانت المدن الليبرالية العريقة في طليعة المعترضين مثل بولدر وكولورادو وسانتافيه ونيو مكسيكو وكامبريدج وماساشوستس وبيركلي وكاليفورنيا، الا ان مدناً أخرى لم تكن معروفة بما يسمى بالموقف الايديولوجي، سرعان ما انضمت الى القافلة، بينها شيكاغو وتامبا وفلوريدا وصولاً الى فيربانكس في ألاسكا وغرانتس باس في أوريغون. ويعكس رد الفعل السلبي على "قانون الوطنية" الجديد وملحقاته المقبلة، تململاً شعبياً لا يستهان به عبر الولاياتالمتحدة، مصدره الأساسي نفور الأميركيين من تدخل السلطات الفيديرالية في شؤونهم الداخلية، خصوصاً تلك المتعلقة بالحريات. لكنها تكشف أيضاً عن ادراك مستجد لدى قطاعات واسعة، بأن سياسة البلاد الخارجية لم تعد حقاً مطلقاً مهما أخطأت، ويلاحظ هذا الإدراك في معظم البيانات الصادرة عن الحكم المحلّي للمدن المذكورة. ففي أمهيرست، على سبيل المثال، يذكر بيان الحكم المحلّي ما يلي: "لن يتعاون أيّ موظف في شكل رسمي أو تطوعي للمساهمة في أيّ تحقيق أو استجواب يمكن اعتباره اعتداء على الحرية الشخصية، وذلك في حدود قصوى لما يسمح به القانون". وفي فلاغستاف جرى تحرير بيان ملتبس من شأنه ابقاء النوافذ القانونية مفتوحة لرفض التعاون الفيديرالي. فيما اعترض الجسم الاكاديمي في جامعة ماساشوستس على استجواب مصدّق الحبيب، الأستاذ المعاون في مادة الاقتصاد لمجرّد كونه من مواليد العراق وله موقف واضح من الحرب الأميركية على وطنه الأم. ويلحظ المراقبون على الساحة الإعلامية ان ضغوط الإدارة الأميركية بلغت شأوها في الفترة الأخيرة بهدف تجاهل أخبار العراق، خوفاً من تفاقم الموجة المناوئة لتصرفات ادارة الرئيس بوش، وتحضيراً، كما يبدو، لاستصدار المزيد من القوانين الآيلة الى إحكام القبضة على البلاد، ولو من باب تحقيق نبؤة جورج اورويل في عهد جورج بوش الثاني!