بعد لقاء سريع استمع خلاله رئيس الجمهورية السابق الهراوي الى ممثلي "ميريل لينش"، طلب رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري من وزير الدولة للشؤون المالية فؤاد السنيورة مرافقة الوفد الى منزل الدكتور سليم الحص بهدف اطلاعه على تفاصيل أول إصدار سندات خزينة بقيمة أربعمئة مليون دولار استدانتها الدولة من الاسواق الخارجية. وبما ان السنيورة كان يعلم مسبقاً بأن استاذه الدكتور الحص سينتقده بقسوة على هذه الخطوة، فقد اكتفى بنقل اعضاء "ميريل لينش" بسيارته الى "عائشة بكار"، وانصرف الى منزله. وبعد ان استمع الى رأي منفذي الإصدار سطر ساقط من الصف الذي أجازه المجلس النيابي، محذراً من تعاظم خدمة الدين العام، ومن العجز المتفاقم في الميزانية، ومن مخاطر ارتجال سياسة الانفاق والهدر. حتى ذلك الحين خريف 1994 كان الحريري يلجأ الى استشارة صديقه السابق سليم الحص، علماً بأنه لم يأخذ بنصيحته. وربما كان يفعل ذلك نزولاًَ عند الحاح السنيورة الذي يعتبر نفسه مديناً للحص بأمرين مهمين: أولاً - تعيينه رئيساً للجنة الرقابة على المصارف في مصرف لبنان المركزي، ثانياً - تقديمه في الثمانينات الى الحريري كموظف نظيف حريص نال ثقة الائتمان على ادارة ثروة ضخمة أهلته رعايتها لأن يكون "شخت" استثمارات الحريري قبل الوزارة الأولى في تشرين الثاني نوفمبر 1992. وقد تشكل حادثة العزوف عن زيارة "عائشة بكار" نقطة الطلاق بين سليم الحص وبين السنيورة الذي استبدل ثقة داعيه الأول بثقة الحريري مع كل ما يرافق ذلك من تألق على رأس جهاز مالي واجتماعي كبير قاده في النهاية الى الوزارة. أما بالنسبة للصداقة التي توطدت طوال الثمانينات بين الحريري والحص، فقد بُنيت دعائمها على الإعجاب المشترك. ذلك ان الحص كان يرى في عصامية الصيداوي، ونجاحه في جمع ثروة طائلة، وتخصيصه مبالغ ضخمة لبناء مستشفى كفرفالوس وتأمين منح التعليم الجامعي... مصادر اعجاب ظلت قائمة الى حين تغلغل الحريري في المراكز العصبية للحياة السياسية وبدأ يشكل تهديداً للحص وأمثاله من أعضاء نادي رؤساء الحكومات. واكتشف الحريري مثله الأعلى في السياسة من خلال نقاشات موسعة كان الحص يجهر بها أمامه ويحدثه عن الطريقة التي تعاطى بها مع رؤساء الجمهوريات، بدءاً بالياس سركيس... مروراً بأمين الجميل... وانتهاء بالياس الهراوي. ومن خلال تجاربه في الحكم كان الدكتور الحص يرى في اتفاق الطائف الموقف الموحد والعادل للشرعية. وفي تصوره ان الانقسام بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة كان مصدر التفسخ الذي أصاب الشعب. خصوصاً وان القيادات السياسية المتصارعة امتطت الموجات الطائفية والمذهبية لتعطل الحياة السياسية. وعلى امتداد فترة الحرب اللبنانية كان اعجاب الحريري بصديقة الحص يزداد يوماً بعد يوم، خصوصاً خلال المراحل التي اعقبت اغتيال الرئيس رشيد كرامي والرئيس رينيه معوض. ولم تكن الطائرة الخاصة التي أهداها له سوى تعبير عن تقديره للدور الذي يقوم به كأطفائي سياسي لحرائق الأزمات. ثم أهداها الدكتور الحص للحكومة لأنه يرفض تأسيس العلاقات على مستوى المكاسب والمنافع. وظلت صداقة الاعجاب المشترك قائمة الى حين وصول رفيق الحريري الى رئاسة الوزارة، واتساع رقعة نفوذه المالي بشكل اعتبره الحص خطراً على اخلاقية العمل السياسي... وتهديداً لمشاريع الاصلاح الاجتماعي والتطور الاقتصادي. وركز الحص في هجومه على النهج المتبع في استسهال الاقتراض، محذراً من عواقب خسارة السيادة الوطنية اذا ما استمرت سياسة الانفاق لتسديد المزيد من الديون المتراكمة. واستمر التركيز على هذه النواحي بواسطة اعضاء "كتلة الانقاذ والتغيير" التي ترأسها الدكتور الحص وجعلها أداة لتنوير الرأي العام، وقاعدة برلمانية لتوسيع المشاركة الوطنية. وشددت الكتلة في توجيهاتها على إظهار آثار المخاطر التي ستجنيها البلاد من سياسة تمويل العجز وتثبيت سعر الصرف، ومع ازدياد العجز تزداد الحاجة الى الاقتراض والى تقليص القدرة على ضبط سعر الصرف. وكان الانتقاد متواصلاً داخل البرلمان وفي الصحف للنظام الضرائبي الذي أرهق الفقراء وذوي الدخل المحدود، دون ان يجذب المستثمرين كما وعدت الحكومة. ولم يكن اختيار شعار "الانقاذ والتغيير" مرتجلاً، بقدر ما كان خطاً سياسياً لإنقاذ البلاد من الخلل ومواطن الضعف... اضافة الى تغيير نهج المشاريع الاقتصادية بطريقة تعيد الثقة والاستقرار وتمنع مواصلة الهدر والانفاق والاستدانة. بعد مرور خمس سنوات تقريباً على اعلان الإصدار الأول لسندات الخزينة، كلفت حكومة الحص "الميرل لينش" بالإشراف على إصدار سندات باليورو والدولار بقيمة 540 مليون دولار. وأعرب رئيس الوزراء عن ارتياحه لنتائج الاكتتاب في سندات الخزينة بالعملات الاجنبية، بينما وعد وزير المال جورج قرم بتنفيذ كامل برنامج الاستدانة المقدر ببليوني دولار. وكان من الطبيعي ان ينتقد الحريري ونواب كتلته سياسة الدكتور الحص لأنها في نظرهم لا تمثل التغيير الذي كان يطرحه في البرلمان، بقدر ما تمثل استنساخاً لنموذج سابق، ومتابعة لسياسة رسمها الحريري خلال السنوات الماضية. وأطلق أحد نواب المعارضة على الحص لقب "بلير لبنان" على اعتبار ان طوني بلير قلد السياسة الاقتصادية لحزب المحافظين، ولكنه قدمها للناخبين بغلاف حزبه الاشتراكي. والهدف من هذه المقارنة توسيع دائرة المعارضة لحكومة الحص، واتهامها بأنها لجأت الى اعتماد أسلوب الاستدانة الخارجية بعد مرور أقل من ثلاثة أشهر على وجودها في الحكم. ومعنى هذا أنها لم تكن صادقة في اتهاماتها، وان حملتها استهدفت تغيير صورة الحكومة لا تغيير تصور الحكم. ولقد زادت من فرص الاعتراض على نهج الوزارة عملية تسويق التخصيص كحل لخفض الدين العام وعجز الموازنة. وأعلن وزير الاقتصاد والتجارة الدكتور ناصر السعيدي ان التخصيص يؤمن زيادة في الكفاية الاقتصادية وفاعلية في الخدمات، بحيث ينخفض الدين بنسبة بليون دولار. وقال ان لجنة وزارية كلفت بوضع مشروع متكامل يتضمن نظريات مختلفة للتخصيص أو الخصخصة كما تستخدم في مصر. وأورد التقرير الاسبوعي "لبنك عودة" ان "ميريل لينش" أعدت تقريراً عن التخصيص قدرت فيه عائدات المشروع بين 3 و4 بلايين دولار، أي نحو 20 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي. ولكنها اعتبرت ان التخصيص لن يحل وحده مشكلة الدين العام بسبب توقعات ارتفاع معدلات الفوائد الحقيقية. وكما اتهم نواب معارضون الحكومة باستخدام سياسة الانتقام والكيد أثناء التعيينات... كذلك اتهموها باللجوء الى التخصيص في وقت منعوا الوزارة السابقة من تنفيذه. وفي الرد على هذه الحملة يقول الوزراء ان الحريري عمد الى تخصيص بعض قطاعات الخدمات في مؤسسات معروفة بطريقة غير قانونية بحيث لجأ الى المراسيم وليس الى القوانين الصادرة عن مجلس النواب. ويستفاد من هذا التفسير ان حكومة الحص ستطالب بصلاحيات استثنائية كمدخل لمطالبتها مجلس النواب بإقرار المبادئ العامة لبيع قطاعات رسمية مثل الطاقة الكهربائية مثلاً، ويرى المراقبون في بيروت ان الحكومة ظلت محتفظة برصيدها الشعبي بالرغم من الاخطاء التي حصلت أثناء معالجة موضوع الاصلاح الإداري، ولكنها حتماً ستواجه الاختبار الصارم منتصف الشهر المقبل أثناء عرض مشروع موازنة سنة 1999. ويرى الحريري في تأخير صدور الموازنة بوادر خلافات بين وزير المال وبين أعضاء اللجنة الوزارية المكلفة متابعة الأوضاع الاقتصادية. وهو لا يخفي انتقاده أمام زواره لأداء الوزير قرم الذي يصفه "بالمنظر الشيوعي" الذي لا يصلح للتعاطي مع قواعد سياسة الانفتاح والسوق. وهو يعترف بأن أحد الأسباب الرئيسية التي شجعته على رفض التكليف وجود اسم جورج قرم كوزير للمالية في القائمة التي عرضت عليه، وهو يذكر أيضاً اسم وزير آخر يصفه "بالتنظيري" لأنه خيب أمله في موقع سابق، وظهر أثناء الأداء فاشلاً جداً. واستناداً الى هذه الخلفية يقترح نواب الحريري ضرورة إقصاء جورج قرم عن وزارة المال، تماماً كما فعل المستشار الألماني شرودر عندما أبعد وزير ماليته اوسكار لافونتين بسبب عدم انسجام طروحاته وأفكاره اليسارية مع متطلبات السوق الأوروبية المشتركة. ويعترض أصدقاء قرم على الحملة الموجهة ضده من قبل الحريري ودلول، منبهين الى دوافع الاعتراض بأنها شخصية وليست موضوعية. ذلك ان جورج قرم لن يقبل وصاية الحريري على سياسته الاقتصادية كما كان يفعل فؤاد السنيورة الذي اتهمته الصحف بأنه مستودع أسراره وقميصه المصفح الواقي ضد رصاص الخصوم. وقال قرم في جوابه على الحملات ان السياسة المالية التي اتبعها بمراقبة الانفاق بدأت تعطي ثمارها بحيث انخفض عجز الخزينة لشهر كانون الثاني يناير الماضي، بالمقارنة مع العجز المحقق للمدة نفسها من العام الماضي بنحو 57 في المئة. ولفت الى ان هذا التحسن تمثل في انخفاض العجز من 245 بليون ليرة - كما كان مطلع 1998 - الى 104 بلايين مطلع 1999، أي بانخفاض قيمته 141 بليوناً. ويرى الوزير الدكتور عصام نعمان ان الأرث المالي الثقيل ليس أكثر من نتيجة للديون المتراكمة التي خلفتها الحكومة السابقة. وهو يتوقع توفير قاعدة متينة لإنجاز سياسة مالية قادرة على وضع حد للعجر الموروث، ومحاصرة آثاره الخطرة على الاقتصاد والاستقرار الداخلي. ويعتبر رئيس الحكومة الدكتور الحص ان الهدف الأول من إصدار سندات الخزينة، استكشاف مكانة لبنان الائتمانية دولياً بعد التغيير الحكومي. وفي رأيه ان النتيجة كانت ايجابية للغاية، الأمر الذي يدحض رأي الحريري الذي أشاع بأنه هو الذي جذب المستثمرين، وبأن اسمه شجع على الاكتتاب. ويستدل من العبارة الهادفة التي وصف بها الحص غاية الاصدار الجديد بأنه اختبار لمكانة لبنان الدولية... ان الحريري حاول توظيف علاقاته الخارجية لإرغام المسؤولين على تحسين وضعه الداخلي. ويبدو ان الموقف الذي أعلنه الرئيس الفرنسي جاك شيراك بعد تكليف الرئيس الحص، واعلانه بأن الحريري هو ضرورة وطنية لبنانية، قد انعكس بشكل سلبي على العلاقات بين البلدين، وأحدث ردود فعل سيئة لدى رئيس الحكومة الفرنسي. واضطر شيراك بعد الانتقادات التي وجهت اليه لأن يستقبل البطريرك صفير ويعامله معاملة متميزة - كما كان يفعل مع الحريري - بهدف ترميم العلاقات المتصدعة. وربما تبدد الدعوة التي وجهت الى الرئيس اميل لحود لزيارة فرنسا خلال الربيع، الغيوم السياسية التي يشاع ان شيراك أطلقها لدعم موقف صديقه في لبنان. والملاحظ ان هذه الحادثة العابرة تركت بصماتها على تحركات الحريري الذي حرص اثناء زيارة مصر والمانيا على مدح العهد واصفاً مضايقات المطار بأنها أمور عابرة لا يجوز التوقف عندها. ولكنه لم ينس ان يلمح الى العناصر الخفية المستفيدة من خلافه مع القصر، ويؤكد بأن هناك من يزرع طريق بعبدا أمامه بالألغام. في مطلق الأحوال يبقى مشروع موازنة 1999 المقياس الحقيقي لضبط الايقاع السياسي للعهد. والظاهر ان وزير المال يبحث عن صيغة مقبولة ومقنعة تمنع الاتحاد العمالي العام من تنفيذ تهديداته بالإضراب اذا رُفعت اسعار المحروقات، وزيدت الضرائب غير المباشرة التي تستهدف العمال ومحدودي الاجور. كما هددت قطاعات أخرى اذا ما صرف من الخدمة أكثر من خمسين ألف موظف ترى الحكومة ان الميزانية العامة تنوء بأثقالهم في ادارة يصل تعداد أفرادها 160 ألف شخص، علماً بأن عدد العاطلين عن العمل في لبنان وصل الى 40 في المئة. وهذه أعلى نسبة عرفها تاريخ هذا البلد. وضمن هذه المعادلة الدقيقة يعمل الوزير قرم لتحاشي الاخطاء المميتة. وهو يقول ان نصف الموازنة تقريباً يخصص لتسديد الدين، بينما تلتهم أجور الموظفين 37 في المئة. ومعنى هذا ان ازدياد الايرادات يعتمد على اصلاح قانون الضرائب وزيادة قاعدته لمواجهة أزمة الديون. ويرى قرم ان الدول العربية المجاورة تحصّل على ما نسبته 30 في المئة من اجمالي الناتج المحلي مقارنة مع 17 في المئة في لبنان. وحذر ان عدم إحداث نظام ضرائبي جديد سيؤدي الى تجميد الاقتصاد وسط ديون مرتفعة. ومثل هذا الطرح يستدعي بالضرورة اجتراح سياسة اصلاحية جذرية يقتنع بها الناس اقتناعهم بجدوى المحاسبة والشفافية واسترجاع ثمانية بلايين دولار قيل ان الوزراء وكبار الموظفين "لطشوهم". وكل ما يخشاه أصدقاء العهد هو ان تنزل قضية الرواسب النفطية الى مستوى البحث عن استعادة الآثار المفقودة، الأمر الذي ينبئ بأن محاكمة شاهي برصوميان ستصبح مثل محاكمة "التكميل" بعد ثورة 1958. أي ان دولة فؤاد شهاب اعتبرته المسؤول الوحيد عن كل الاحداث، وقررت اغلاق كل الملفات من بعده. والناس بانتظار البقية.... * كاتب وصحافي لبناني.