منذ وصوله إلى الحكم عام 2000، أظهر الرئيس فلاديمير بوتين برمه من السلطة التي آلت، في عهد سلفه بوريس يلتسن، إلى أثرياء روسيا الجدد. وكانت سلطة الأوليغارشيين بلغت أوجها عام 1996 بعدما تعهدوا تأمين إعادة انتخاب يلتسن لولاية ثانية في مقابل حصولهم على حصص من ممتلكات الدولة ومرافقها النفطية والغازية. وأبرم بوتين اتفاقاً مع أثرى أثرياء روسيا ينص على ترك حكومته تلاحقهم بتهمة الاستيلاء على مرافق الدولة بعمليات خصخصة مثيرة للجدل في مقابل عزوفهم عن العمل في السياسة، وعن تمويل أحزاب معارضة له. ورعى بوتين تطبيق الاتفاق فتخلص من عدد من الاوليغارشيين الخارجين عنه والمعارضين لسياسته ومنتقديها. واستعان الرئيس الروسي للتخلص من هؤلاء بالقضاء الروسي الذي سبق له أن وجه اتهامات بالفساد إلى فلاديمير غوزينسكي وبوريس بيرزوفسكي، مالكي عدد كبير من الوسائل الإعلامية المستقلة. ففي تموز يوليو 2000، اعتقل غوزينسكي وسجن بتهمة الاحتيال. وما لبث القضاء ان اسقط التهم عنه بعد إجباره على تجيير ملكية شركة "ميديا موست"، وهي مجموعة من الصحف ومحطات تلفزيونية قدرت قيمتها ببليوني دولار عام 1999، إلى "غازبروم" شركة النفط التي تسيطر عليها الحكومة الروسية، في مقابل ثمن بخس لا يزيد على 300 مليون دولار أميركي. وكان غوزينسكي 50 عاماً استمطر غضب الكرملين عليه بعدما غطت محطاته التلفزيونية تفاصيل عمليات الجيش الروسي في الشيشان، وبعد معارضته السياسة العسكرية التي ينتهجها "جاسوس كي جي بي السابق"، في اشارة منه إلى فلاديمير بوتين. وبعد شهرين على اعتقال غوزينسكي، نكئت جروح بوتين مجدداً بعد حملة الانتقادات الشديدة التي وجهت اليه اثر غرق الغواصة "كورسك ورفضه عرض مساعدة دولية لإجلاء طاقمها، وذلك على شاشة "أو آر تي" التي يملكها البليونير بيريزوفسكي. فهاجم بوتين الوسائل الاعلامية واتهم مالكيها بتدمير روسيا والجيش بتهربهم من الضرائب، وبسعيهم الى التأثير في المواطنين عبر إظهار حاجة الزعماء السياسيين والجيش إليهم، وبافتراضهم وجوب ان يحسب السياسيون حساباً لهم. وعلى غرار ما فعل مع غوزينسكي، أجبر بوتين مالك "أو آر تي" على بيع 49 في المئة من حصته، وعلى اللجوء الى المنفى. وبعد ما يقارب ثلاث سنوات على جعل بوتين من غوزينسكي وبيريزوفسكي عبرة لغيرهم، وبعد شهر على اجتماعه في كامب ديفيد بالرئيس جورج بوش، وعلى تعهده ضمان إجراء عملية إصلاح اقتصادي وتشجيع الاستثمار بضمان شفافية الأعمال واستقلال القضاء، صدرت مذكرة اعتقال بحق البليونير الروسي ميخائيل خودوركوفسكي، مالك "يوكوس" أكبر شركة نفط في روسيا. وتزامن اعتقال خودوركوفسكي مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية التي ستجرى في آذار مارس 2004، ومع اعلان هذا الأخير تمويله أحزاب المعارضة. وكان خودوركوفسكي الذي بدأ بتحصيل ثروته يوم كان في الثالثة والعشرين بتأسيسه شركة"ميناتب" عام 1986 التي لعبت دور الوسيط في نقل التحويلات المالية بين وزارات الحكومة ومرافقها الصناعية، والتي تحولت الى مصرف يحمل الاسم نفسه، توجه في شباط فبراير الماضي الى بوتين قائلاً: "سيدي الرئيس، ان موظفيك لصوص ونصابون". وقبل اسبوعين من اعتقاله، حل خودوركوفسكي ضيفاً في واشنطن لإلقاء محاضرة خلص فيها الى كون فساد القضاء يمنع ازدهار الاقتصاد الروسي، واقترح سياسة نفط بديلة تقوم على مد انابيب نفط تربط بين روسيا والصين ومومنسك، ولمح الى فساد شركة النفط الروسية "روسنفط" المحمية من جانب بوتين. وسعى خودوركوفسكي الى الحصول على دعم الادارة الاميركية بتبرعه بمليون دولار لمكتبة الكونغرس، وبتعيينه بروس ميذامور، وهو إداري سابق في شركة "بانز أويل" العملاقة، مديراً مالياً في "يوكوس" التي ابرمت اتفاق اندماج مع "سيبنفط"، المملوكة من جانب رومان ابراموفيتش. وترافقت تصريحات خودوركوفسكي المدوية مع رفضه منح 15 في المئة من أسهم "يوكوس" التي تزيد قيمتها حالياً على سبعة بلايين دولار، والتي خطط الاوليغارشي الشاب لوضع يده عليها يوم كان نائباً في وزارة الطاقة عام 1993، الى بوتين و"عشيرته". وعلى خلاف النجاح الذي حققه في السيطرة على شركتي بيريزوفسكي وغوزينسكي، باء ما سعى اليه بوتين باعتقال خودوركوفسكي بالفشل. فهذا الأخير تنازل عن ادارته "يوكوس"، التي قدمت معايير شفافية الأعمال الدولية على شبكة العلاقات الوطيدة مع الكرملين، وأصبحت أكبر شركة نفط في روسيا ورابع أكبر شركة نفط في العالم، وحدّ من هامش تدخل الكرملين في إدارة الشركة بتعيينه سيمون كيوكس الذي يحمل الجنسية الاميركية خليفة له. وأدى اعتقاله الى هبوط في قيمة مؤشرات مالية في بورصة موسكو، فتدنى مؤشر "آر تي أس" 20 في المئة. وبعدما اجتمع بوتين مع مجموعة من المصرفيين الروس والغربيين في محاولة لضبط آثار اعتقال خودوركوفسكي السلبية على سوق الاستثمارات، ارتفع هذا المؤشر 9.1 في المئة. وغداة اعلان خودروكوفسكي استقالته من ادارة "يوكوس" وتفرغه للعمل في منظمة غير حكومية تخصص اكثر من مئة مليون دولار لتعليم الشبان المحتاجين، ودعم مبادرات المواطنين الفردية، عادت مؤشرات "يوكوس" الى الارتفاع في السوق المالية. فالاقتصادي المحنك حمى شركته بتأسيسه شركة "ميناتب" في جبل طارق حيث ينص القانون على حماية مصلحة المساهمين بنقل حصص المالك خودوركوفسكي إلى جعبة الشركة. وخلف اعتقال خودوركوفسكي أثراً سلبياً على دولة القانون التي ينتظر الغرب من روسيا تحقيقها. فنبهت الحكومة الالمانية التي تعود الى شركات مواطنيها حصة كبيرة من عائدات السوق الروسية، الى كون هذه الخطوة، أي عملية الاعتقال، تضع اندماج روسيا في الاقتصاد العالمي على المحك وتزعزع مصير الاستثمارات الأجنبية في بلد ينوء تحت وطأة مديونية كبيرة ويجتاز أزمة اقتصادية خانقة.