أن يتحدث الروائي عن فضاءات نصوصه، معناه الدخول الى متاهة التذكُّر المركّب ليبْتَعث ما يظن أنه كان قائماً قبل ان يبتدع تلك الفضاءات ونسيج خيوطها المستعارة - بدورها - من سراديب الذاكرة. لا أظن أن ما يقوله الروائي عن نصوصه يشتمل على تقويم نقدي، وإنما هو بالأحرى، نوع من الكتابة على طِرْس امَّحى حبر كلماته. هي نوع من الكتابة على الكتابة التي يسعى الروائي من خلالها، الى لملمة ملامح انْفلتَت عند الكتابة الاولى، هي رغبة مقترنة باستعادة تجربة تخلق النص والاستظلال بمغامرتها التي أكْسبته، وهو يشارف نهايتها، نشوةً رائقة يظل يحن اليها باستمرار. وأعتقد أن الذين جربوا كتابة الرواية يستحضرون عناء اختيار الفضاءات وعبء النفخ في اركانها الورقية لترتج بنسائم منعشة تهب الحياة للشخوص والمشاعر والحوارات. جوهرية الفضاء في النص الروائي مرتبطة بفضاء الاستعارة الضروري لتحرير اللغة والشخصيات والافعال من نطاق الملموس، المحدود، الذي يجعل الواقعي يبدو وكأنه في حال إنهاء وخمود. إن الفضاء الروائي لا يحاكي فضاءً بعينه بل هو متميز في وجوده ومكوناته وينْسَخ ما عداه بما في ذلك مرجعية الفضاء المستوحاة. فضاء رواية ما، اقتطاع واجتزاء لخصوصية تتبدى داخل الفضاء الواقعي المشاع، والعامل الحاسم في ذلك الانتقاء هو الذاكرة. يصعب أن توجد كتابة روائية - على وجه الخصوص - من دون مرجعية الذاكرة، إلا ان علاقة الروائي بذاكرته ليست علاقة واضحة المعالم، معبدة المسالك. الذاكرة متاهة، مستودع بألف باب. بندٌ لا تنفذ اليه بالمفاتيح العادية بل بالانبثاقات النزوية، وهذه العلاقة المميزة، الاساس، بين الذاكرة والكتابة التي أبرزتها نصوص أحدثت انقلاباً مثل "البحث عن الزمن الضائع" لبروست و"عوليس" لجويس، طرحت في الآن نفسه أفقَ شعرية الذاكرة في مقابل شعرية المحاكاة. والفارق شاسع بين الشعريتين لأن الأولى تثير اسئلة تؤكد ضرورة تذويت الكتابة الروائية من خلال الذاكرة ومن خلال العلائق الصراعية بين الفرد والمجتمع وما يترسب من ذلك داخل الذاكرة الحاضرة والغائبة في آن، الموضوعية والشخصية باستمرار. إن الكتابة، مهما حركتها تناقضات الواقع وتحولات المجتمع والقيم، فإنها تظل مشدودة الى ذلك اللاّتطابق بين التاريخ الشخصي والعائلي بالمعنى الفرويْدي، وبين التاريخ العام الذي يعطي الزمن البشري دلالاته ومقاييسه. وهذا التعارض العميق بين ذاكرتين، بين تاريخين، هو ما يشكل تعارض السريرة مع العالم الخارجي تعارضاً يطاول اللغة والاحساس والرغائب والاحلام. وقد لا تكون الكتابة، من هذا المنظور، سوى السعي الى ابتداع لغة وأفكار ورؤى ترمم ذلك الشرخ الكبير المتولد في نفوسنا جرّاء اللاّتطابق بين غائبة التاريخ العام والتاريخ الذاتي، جرّاء ذلك الاستلاب الذي تراكمه الطفرات التقانية والعمرانية لآليات الرقابة الشاملة في المجتمعات المعاصرة، فكأن الكتابة المتحيّزة للذات المقموعة المستلبة توسع فسحة الحياة من خلال تشييد عوالم ممكنة تمتح من الذاكرة ومن فضاءاتها. لكن يحدث ان نصاب بفقدان الذاكرة او بفجوات تحجب عنا بعض ما عشناه، نتيجة انشغالات او أزمات او التصاق هوسي بالحاضر والآني، إلا أن الذاكرة، لحسن الحظ، تتوافر على صمام امان هو النسيان الذي يعود ليمسح الغبَشَ عن مراياها ويفسح المجال أمام انبثاق فجائي يرمم الذاكرة والهوية والعلاقة بالأمكنة والزمان... وفعل الكتابة، في جزء كبير منه، محاورة للنسيان، نحن نمضي فترة طويلة من حياتنا ناسين اعز الاشياء لدينا، مثلما ننسى الكينونة ونتشبث بما هو كائن، وعندما نكتب، داخل العزلة والتوحد، فإننا نبحث ضمنياً عن ذلك المفتَقَد المنسي الذي قد يجعل الكلمات والعلائق تأخذ مذاقاً آخر يتحدى العبث والملالة كأنما الكتابة فعل استدراك وتكملة لوجود نجده دوماً ناقصاً. ويخيل اليّ أنني بدأت أستكشف أو أستعيد ذاكرة طفولتي "الفاسية" وأنا طالب في القاهرة، لا استطيع التدليل على ذلك بطريقة دقيقة، غير أنني أغامر بالقول إن وصولي الى مصر وأنا دون سن السابعة عشرة ألقَى بي في خضم فضاءاتٍ عشتها وأنا في فاس، عبر الأغاني والأفلام المصرية وبعض نصوص المطالعة الابتدائية، دفعة واحدة، وجدتني أستحم في فضاء القاهرة خلال بداية الخمسينات، انطلاقاً من الدّفْق اللغوي وسحر التعليقات والنكت وفورة الثورة الناصرية التي كانت توحي لنا بأننا سنمسك النجوم بأصابعنا الفتية، ووصولاً الى الرجال والنساء المنحوتين من طبقات زمنية وحضارية تُعطي الواقعي في المدرسة والجامعة والشوارع، قوة تفوق ما اختزنته ذاكرة طفولتي عبر الصور، كانت المفاجأة انني عندما كتبت قصتي القصيرة الاولى وأنا في السنة الجامعية الاولى وجدتني استحضر فاس القديمة التي آوت طفولتي وأكتب الحوار بلغة الكلام المترسب في الذاكرة. بعد عودتي الى المغرب سنة 1960، انغمرتُ في النضال الثقافي والسياسي وفي اعباء انشاء اتحاد كتاب المغرب والتدريس في الجامعة ولم أنتبه الى ظلال النسيان التي حجبت عني تقريباً مسالك الكتابة والذاكرة. طوال عقدين، عشت مشدوداً الى الحاضر والى وهم التغيير هنا، والآن، كنت أظن أن كل شيء يمكن ان ينتظر، وأن الأولوية هي للفعل المباشر والتبشير بغدٍ أفضل، لكن الانتكاسات المتوالية وزمن الرماد والحداد في المغرب، جعلاني ألجأ الى حرية الكتابة والى واحات الذاكرة وصمت النسيان. من ثمّ كانت تجربتي الروائية الاولى "لعبة النسيان" محاولة لاستعادة الطفولة والمراهقة، ومواجهة اسئلة تخص ما عشته متسارعاً، متلاحقاً، متشابكاً في حومة النضال وفي تجارب الحب والجنس والبحث عن معنى لوجودي... ومنذ "لعبة النسيان" التي قادتني الى فاس والرباط وباريسوالقاهرة، وأنا موزع بين فضاءات مدينية استعيرها لأعيد كتابة ما عشته وشاهدته وسمعته وفكرت فيه متأرجحاً بين الذاكرة والنسيان، بين المتعة اللّعبية والايحاءات المتصلة بأسئلة الوجود والموت والابداع والحب المستحيل. إن علاقتنا بفضاءات المدن التي توطّنها تخييلاتنا ومشاهد من حياتنا، لا تكون غالباً، علاقة موضوعية. أي انها مشوبة دوماً، بالرغبة والحلم والتذويت، لكن هذه العلاقة ليست ايضاً علاقة تجريدية، لأن الذاكرة والذكرى بحاجة الى فضاء يؤطر الصور المختزنة التي تجعل تشغيل الذاكرة أمراً ممكناً. من ثم، نجد أن المدينة نفسها، بل الأحياء الماثلة نفسها في نصوص تخييلية او سير ذاتية، تتخذ تجليات متباينة قدر تباين ذاكرات الروائيين ومساراتهم الشخصية. بل إن بعض الروائيين تتوطد علاقتهم بمدينة ما، فيقصرون نصوصهم على فضاءاتها وكأنهم يريدون الامساك فعلاً بكل تفاصيل تلك المدينة وهندسة فضاءاتها، على نحو ما نجد عند الروائي الفرنسي باتريك موديانو الذي جعل رواياته الثماني عشرة تجري في باريس عبر ذاكرة متناسلة تسترجع الطفولة والمراهقة والشباب والكهولة ووقائع المقاومة من خلال معالم ومواقف ذاتية وتاريخية. وبالنسبة إلي، أعتقد أن المدينة هي استعارة بارزة في ذخيرة الرموزية LA SYMBOLIQUE الكاشفة نسق القيم والمشاعر والطقوس المكونة لثقافتنا والمؤثرة بقوة في تشكيل المتخيل الاجتماعي. المدينة فضاء يشعرنا باختلافنا وبيْنونتنا عن الآخرين، المدينة لا تُحدد الهوية، بل تسعف على تلاشيها ليبرز "الآخر" الساكن في أعماقنا. ولفتتني الصديقة سيزا قاسم الى تأثير المدينة في روايتي "الضوء الهارب" من خلال تحليلها المميز بعنوان: "الضوء الهارب: مفهوم آخر للغربة والاعتراب" 1، إذ أوضحت مسألة "تعدد الشخصية" وتحوّل الذات الى مسرح تظهر عليه تباعاً شخصيات مختلفة تقود الى التساؤل: هل تسكن الجسد الواحد ذات واحدة أم ذوات متعددة؟ وشخصية فاطمة قريطس في "الضوء الهارب" تواجه باريس وفضاءاتها، هي النازحة من فاس، لتكتشف أن المدينة الكبيرة تفرض تحلل الهوية ومُكابدة الاغتراب. إن فضاء المدينة لا يثبت بقدر ما يُزحزح، لا يُفسر شرطاً للوجود بقدر ما يبرز عناصر التهجين والتمازج والتحول عبر ذوات متعددة كامنة في الذات وقائمة، افتراضاً عند الآخرين. وتجربتي مع فضاءات القاهرة نموذج لتلك الخلخلة التي تُحدثها المدينة العملاقة في شاب يأتي من مدينة صغيرة غارقة في الخضرة والهدوء. إلا أنني وأنا اكتب "مثل صيف لن يتكرر" بعد مرور أكثر من اربعين سنة على وصولي للمرة الأولى الى مصر، أدركت أن القاهرة - بوجودها الواقعي والرمزي - كانت بمثابة عتبة جديدة نقلتني الى فضاءات أرحب وإلى مستويات أخرى من التفكير والتحليل. عتبة القاهرة افضت بي، على الاقل، الى اربع نوافذ للرؤية: أ - تجليات اللغة العربية في اتساعها وتعدُّديتها وتلفظاتها الموحية. ب - الجرأة على الامل من خلال المراهنة على الصعود العربي الناشد للتغيير الذي كانت تجسده مصر في الخمسينات. ج - الرومانسية في وجوده الخام الساعي على قدمين عبر حارات القاهرة وشوارعها وعبر النصوص السردية والمحكيات المكتوبة. د - مصر بصفتها مرآةً للفعل المخطَأ: وأنا أتردد على مصر بانتظام من سنة 1955 الى اليوم، اجد أن المقارنة تفرض نفسها عليّ لأن كثيراً من القضايا والمعضلات التي يعيشها وطني في حاضره، قد طرحت في ماضٍ قريب على مصر، وكلما تراكمت التعثرات هنا وهناك، شاملة مجموعة الوطن العربي، تساءلت في حيرة: أليس الفعل المخطَأ، في معناه السيكولوجي والاجتماعي، هو أحد العناصر الذي يُفسر مواعيدنا المخلفة مع النهضة المخطَأة التي تحتل الصدارة في اهتماماتنا، ويفسر الى حد بعيد ظاهرة الانتكاس والدوران في الحلقة المفرغة؟ في محكيات "مثل صيف لن يتكرر" يكتسح فضاء مصر ذاكرتي في أول الشباب ويتمدد ليشمل مراحل أخرى من حياتي لأنه فضاء احتل مكاناً جوهرياً في ذاكرتي، فغدا عنصراً محركاً للمقارنة والاستحضار والتأمل. إنه فضاء يقول مشاعرَ وأفكاراً ذات خصوصية، لكن ذاكرتي في مجملها، تنحو الى ان تجعل فضاءات مُدن اخرى مجاورة لفضاء القاهرة، تذوِّب الحدود والاسيجة وتستعيد الكتابة السردية حرية التخييل ضمن فضاءات متواشجة على رغم تعددها الجغرافي. ننطلق من خصوصية ما عِشناه، لكننا لا نقوى على الانحباس داخلها، من ثم ذلك التوق الى فسحة أرحب نحس في ارجائها ان مصيرنا غير محدود بسقف موروث او رقعة جغرافية ضيقة. * روائي وناقد مغربي. 1 دكتورة سيزا قاسم روايات عربية: قراءة مقارنة دار الرابطة، البيضاء، 1997.