اقتلع جنود يقودون جرافات بولدوزرات ارتفعت من مكبرات عليها موسيقى الجاز أشجار النخيل القديمة وأشجار البرتقال والليمون تنفيذاً لسياسة جديدة تقضي بمعاقبة جماعية للفلاحين الذين لا يقدمون معلومات الى الجنود عن المسلحين الذين يعتزمون مهاجمتهم. طبعاً القارئ يعتقد انني اكتب عن الأراضي الفلسطينية، فاجتثاث قوات الاحتلال الأشجار فيها ممارسة يومية، إلا أن القارئ مخطئ، فأنا أنقل بأمانة عن باتريك كوكبورن وهو صحافي بريطاني معروف، نشرت "الاندبندنت" تحقيقاً له من الدلهمية في العراق، بدا وأنا أقرأه وكأنه من الأراضي المحتلة. الإدارة الأميركية المتحالفة مع مجرم حرب من نوع آرييل شارون لن تتردد في استخدام اساليبه، حتى بعد أن انتقد هذه الأساليب الجنود الاسرائيليون أنفسهم وبعض الوزراء في حكومته الائتلافية. كيف وصلنا الى هذا الوضع؟ تعبت من الحديث عن الكذب على الطريق الى الحرب على العراق، ومنذ "نهاية" الحرب التي لم تنته في أول أيار مايو الماضي كما أعلن الرئيس بوش في حينه. الرئيس أعلن "النصر" من على متن حاملة الطائرات ابراهام لنكولن، وتحدث وهو يقف أمام لافتة هائلة تقول "المهمة انجزت"، غير ان المهمة لم تنجز، وقد قتل من الأميركيين منذ أول أيار ما يزيد على عدد قتلاهم في الحرب، ولا يزالون يقتلون كل يوم، والى درجة ان أنكر البيت الأبيض أخيراً مسؤوليته عن اللافتة، فقال ان بحارة الحاملة رفعوها لأن مهمتهم انتهت وعادوا الى بلادهم. غير ان البيت الأبيض نفسه عاد ليعترف في اليوم التالي بأن الفكرة من عنده، فهو نظم الاحتفال على حاملة الطائرات. كله كذب في كذب، وأتابع كصحافي ما تطلع به الصحف الأميركية والبريطانية المؤيدة للإدارة، أي المؤيدة للحرب، ولا أعرف كيف أن صحافة تتعامل مع قراء مثقفين من العالم الصناعي، أو الأول، تجرؤ على "مرمطة" الحقيقة في هذا الشكل. إذا كان لي ان اختار من "الديلي تلغراف" اللندنية و"واشنطن تايمز" الأميركية نماذج محدودة فعندي الآتي: - حبل المشنقة يضيق حول عنق ايران. الجريدة تكتب تمنياتها. - مذكرة تظهر ان العراق وإيران اتصلا بأسامة بن لادن كذب واضح يبقى كذباً على رغم تكراره. - طهران تبث جواسيسها في العراق. من قال هذا؟ الموساد؟. - جواسيس ايرانيون يتجولون في بريطانيا لتحديد أماكن كنس يهودية لتهاجمها القاعدة. هذا العنوان الانكليزي من نوع العنوان السابق الأميركي، وهما يعكسان وحدة مصادر وخواطر. - مقاتلون متدينون أجانب يصعدون حملة إرهاب ذكي وشرس. كيف عرفت أي جريدة في اليوم التالي لانفجارات بغداد ان وراءها مقاتلين أجانب من المتطرفين الدينيين؟ هذا كلام استخبارات، أو ما يسمى دعاية سوداء. - سورية ومحور الشر الجديد. إذا كان هناك محور شر فهو بين الصحف الصهيونية، والمحافظين الجدد في الإدارة الأميركية، ومراكز البحث اليمينية المتطرفة التي تبث سمها كل يوم. الجريدتان مجرد مثل، وهما وحدهما ما كانتا حققتا اي غرض، إلا أنهما جزء من جبهة متطرفة تؤيد الحرب على الفلسطينيين يوماً، وعلى العراق يوماً آخر. وعندما تحدثت "الديلي ميل" عن يوم الانفجارات الكبير في بغداد قالت: 42 قتيلاً بعد شن القاعدة هجوماً على خمسة محاور في بغداد. ولكن كيف قررت الجريدة أن القاعدة وراء الهجمات؟ هذه ليست صحافة بل أراها فجوراً أستغربه من صحف يفترض ان تكون متقدمة مهنياً. وزايدت "الميل اون صنداي" على الجميع فمراسلتها الحقيرة سارة اوليفر بعثت بموضوع من العراق كان عنوانه حرفياً: "العراقيون أعظم مراوغين ولصوص في العالم. هم يتحدرون من نسل طويل من العلي بابات...". ماذا كان حدث لو ان جريدة عربية كتبت شيئاً مماثلاً عن اليهود؟ كانت السفارة الأميركية ستتدخل وتهدد، فهي سفارة اسرائيل، كما انها سفارة الولاياتالمتحدة، غير انني لم أسمع ان سفارة أميركية احتجت على ما كتبت الصحافية العنصرية مع ان الولاياتالمتحدة قوة الاحتلال ومسؤولة قانوناً عن العراق، في حين انها ليست مسؤولة عن اسرائيل. إذا كان من عزاء في مثل هذه الهجمة الصحافية الشرسة، فهي انها لا تتوقف عند العرب. وكان السناتور ادوارد كنيدي هاجم سياسة بوش ازاء العراق، ونشرت "واشنطن تايمز" هجومه، ثم أتبعته بعد يومين بتحقيق عنوانه "سقوط بيت كنيدي". ثمة ألف فضيحة لم تسقط بيت كنيدي، وإدوارد كنيدي نفسه لم يغرق في بحيرة تشاباكوبوك، ومع ذلك فالجريدة الليكودية قررت انه سقط بسبب موقف سياسي "لا ياخد ولا يودّي...". التوراة تقول ان الانسان مجبول بالخطيئة، وأجد دعاة الحرب على العراق مجبولين بالكذب أيضاً، ما أوصلنا الى هذا الدرك. وأختتم بصفحة على الانترنت اسمها "ثمن الحرب"، فقد فتحتها يوماً الاسبوع الماضي ووجدت ان الثمن 213،82 بليون دولار، وفتحتها في اليوم التالي ووجدت ان الرقم بلغ 400،82 بليون دولار، ولا بد من انه اليوم اقترب من 83 بليون دولار أو تجاوزه، فالرقم يزيد مثل عدّاد تاكسي مجنون، وذكرني بعدّاد مماثل لسكان الهند في إحدى ساحات نيودلهي، فقد زاد ألوفاً وأنا أتفرج عليه، وشعرت مع العدادين بضيق كأنني المعني بالأرقام.