العام 1807، وبعد أن أفاق من صدمته ب"البطل" الذي كان بدأ يكرس له واحداً من أهم أعماله الموسيقية، استعاد بيتهوفن صلابته، ورونقه الموسيقي، وحوّل ذلك العمل من عمل تمجيدي خاص ببطل اللحظة، نابوليون، الى عمل يمجد البطولة في شكل عام. وهكذا إذ استقر قراره على ذلك النحو، عاد الى العمل على سيمفونيته الخامسة، سيمفونية البطولة التي سوف تصبح على الفور، ما إن قدمت الى الناس للمرة الأولى، واحدة من أشهر أعمال ذلك الفنان العبقري، بل انها وحتى اليوم بطَرْقَاتها الافتتاحية الأربع، اشهر مقطوعة في الموسيقى الكلاسيكية على الاطلاق. ونعرف ان هذه السيمفونية الخامسة تحمل من لحظات الصلابة والعنف والقوة ما يترجم حقاً موقف بيتهوفن من مفهوم البطولة نفسه... ما يشي بحاله الذهنية في ذلك الحين. ومع هذا، علينا لكي نضع امور بيتهوفن الذهنية في نصابها، أن نتذكر ان الموسيقي نفسه، كتب في الوقت عينه الذي كان فيه يستكمل السيمفونية الخامسة، سيمفونيته السادسة المعروفة شعبياً باسم "الرعوية"، والتي تتميز بكونها واحدة من أكثر السيمفونيات هدوءاً ودعة والتحاماً بالطبيعة، في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية. لقد اشتغل بيتهوفن على العملين معاً، وربما في وقت واحد. وهما قدما معاً، واحداً بعد الآخر، في 22 كانون الثاني ديسمبر 1808 في فيينا. ومنذ ذلك الحين والناس في دهشة: كيف تمكن فنان واحد من أن يرسم الحالين في وقت واحد، وفي عملين يتناقضان في ما بينهما كل هذا التناقض؟ ربما، في محاولة الاجابة عن هذا السؤال، يتعين أن نكتفي بالإشارة الى أن بيتهوفن، بعدما صاغ في ذهنه موسيقى البطولة وعنفها، أراد أن يهدئ من نفسه وأن يعيد الى موسيقاه عذوبتها التي كان عبر عنها في السيمفونية الثالثة. أو ربما، أمام هول ما كتبه في "الخامسة" أراد أن يخلق في ذاته توازناً واضحاً يريحه. ومهما كان من أمر الجواب، من المؤكد أن السيمفونية السادسة أتت أشبه بعودة الفنان الى الطبيعة. وربما أتت بصفتها العمل الأكثر ارتباطاً بالطبيعة وعناصرها في تاريخ الفن الموسيقي. وقد يجدر بنا هنا أن ننقل من دفاتر بيتهوفن هذا النص الدال الذي كتبه في الوقت نفسه الذي كان فيه ينجز كتابة "السيمفونية السادسة": "ان كل استعراض سيخسر الكثير، في الحقيقة، إن هو أراد أن يترجم كتأليف موسيقي ترجمة شديدة الأمانة له. لذا علينا أن نترك الى المستمع نفسه أمر توجيه مشاعره وأحاسيسه. ومن هنا أرى ان العناوين التفسيرية، لا يمكنها إلا أن تكون سطحية. إذ، حتى ذاك الذي لا يمتلك إلا فكرة شديدة الغموض عن الريف سيكون قادراً على أن يفهم ما أريد التعبير عنه هنا، بكل سهولة. ومن هنا أرى أن أي تفسير وصفي سيكون من دون فائدة... وان من الأفضل لنا التعلق بالتعبير عن العاطفة، بدلاً من التوجه نحو التصوير بالموسيقى. السيمفونية ليست لوحة مرسومة". من المؤكد أن كلام بيتهوفن هنا يتسم بوضوح لا بأس به، غير ان وضوحه سيكون أكبر ان ربطناه بالاصغاء الدقيق للسيمفونية السادسة، هذا العمل الذي لم يكف الباحثون والمؤرخون، والمستمعون العاديون عن اعتباره على مدى قرنين من الزمن حتى الآن "معلماً من معالم الانتظام والجمال" و"نموذجاً في التوازن والقوة" و"قصيدة مستوحاة مباشرة من حس عميق بروعة الطبيعة". وتتألف السيمفونية السادسة من خمس حركات، الثلاث الأخيرة منها تعزف متواصلة من دون أي توقف بين واحدتها والأخرى. والحركة الأولى عبارة عن "انطباعات جزلة يثيرها الوصول الى الريف". أما الثانية فهي عبارة عند "مشهد عن ضفة النهر"، والثالثة "لقاء السرور بين القرويين"، فيما تضعنا الحركة الرابعة وسط "العاصفة"، لنعود في الحركة الخامسة الى أعلى درجات الهدود مع "غناء الراعي وفرحه وامتنانه للطبيعة بعد هدوء العاصفة". إذاً، منذ هذه العناوين ندرك كم ان هذا العمل يتبع حركة الطبيعة، وربما في شكل يذكرنا ببعض لوحات بروغل، ولكن من دون أي اطلالة على الموت الذي يطالعنا في لوحات بروغل مطلاً، حتى من خلال وجوه القرويين وهم في عز احتفالاتهم. تعطينا موسيقى بيتهوفن هنا، ومنذ الحركة الأولى، شعوراً بفرح مفاجئ، مدقع وداخلي يستولي علينا من دواخلنا تماماً، إذ نشعر بأننا غارقون وسط عالم مثالي كل ما فيه جلي، نظيف ونقي. ومن بعد هذه الحركة نجد أنفسنا فجأة وقد وصلنا الى حافة النهر فتصبح الموسيقى أكثر اندفاعاً وتصدح آلة الفيولونسيل وسط هدوء الطبيعة وعذوبتها، ما ينقلنا على الفور الى لقاء القرويين، حيث تصف لنا الموسيقى مشاعرهم وهم يضحكون ويرقصون على إيقاع العديد من الأغنيات والأناشيد القديمة والفولكلورية ما يضعنا وسط عيد قروي رائع. ولكن هنا وبشكل مفاجئ، تبدو عاصفة عنيفة آتية من البعيد زارعة الرعب وسط الحفل القروي... ولعل أي موسيقى أخرى ما كان في إمكانها أن تعبر عن اقتراب هذه العاصفة، كما عبرت عنها موسيقى بيتهوفن. فالعاصفة هنا ليست مجرد أداة رعب تفزع القرويين وتنسف عيدهم نسفاً أكيداً ما يجعلها تبدو كناية ورمزاً لدى أي موسيقي آخر، بل هي عاصفة حقيقية وجزء من الطبيعة، تفزع الفلاحين وتوقف عيدهم، أجل، لكنهم يعرفون انها جزء من حياتهم وكان عليهم أن يتوقعوها بصفتها عنصراً آخر من عناصر الطبيعة... وهكذا، لدى بيتهوفن، بعد ان سيطرت العاصفة، موسيقياً، على الحركة الرابعة كلها، كان لا بد لها من أن تنقضي كما تنقضي كل عاصفة اخرى، وكان لا بد للطبيعة من أن تستعيد هدوءها ورونقها هدوء ما بعد العاصفة في شكل يبدو معه الهدوء هنا، حتى أكثر عذوبة مما كان عليه أمره في السابق. وهنا يبدو كما لو أن بيتهوفن تعمد زرع هذه العاصفة، لكي يمعن في اضفاء العذوبة أكثر وأكثر على الحركة الخامسة. إذ هنا سرعان ما تتحول الموسيقى، مع هدوء العاصفة، الى نشيد رائع يمجد روعة الحياة وبهاء الروح في علاقتها بالطبيعة، وانطلاقاً من هذا: في علاقة الروح بالخالق. ويبدو هنا وكأن بيتهوفن انما قاد خطى مستمعيه تدريجاً، حتى هذه اللحظة التي هي بالنسبة اليه لحظة السمو الكبرى، لحظة التوحد بين المخلوق والخالق، عبر المرور بالطبيعة... انها حركة الروح المندفعة لتؤكد في نهاية الأمر ان الانسان هنا، ليس سوى جزء من الطبيعة، بل ربما يكون الجزء الأكثر التصاقاً بالطبيعة وتعبيراً عنها. ومن هنا تنبعث من كل لحظة من لحظات هذه السيمفونية رائحة الطبيعة وألقها، وبالتحديد ذلك الشعور بألوهية حاضرة فائضة توحد، بفيضها شتات الكون: الحياة والروح والانسان والبيئة في بوتقة واحدة... ولعل هذا ما جعل بيتهوفن يقول عن سيمفونيته هذه انها "تعبير عن مشاعرنا ازاء الطبيعة وفي أحضانها، أكثر مما هي وصف لهذه الطبيعة". حينما كتب لودفيغ فان بيتهوفن 1770 - 1827 سيمفونيته السادسة هذه كان في الثامنة والثلاثين من عمره، وكان قد صنع لنفسه، قبلها، مكانة أساسية في مسار فن الموسيقى، والموسيقى السيمفونية في شكل خاص. وهو كان قبل الشروع في كتابة "السادسة" الرعوية هذه، في الوقت نفسه الذي استكمل فيه "الخامسة"، كان لحن أوبراه الوحيدة "فيديليو"، ومن هنا نجد في بعض لحظات "الرعوية" رغبات عارمة في استخدام الموسيقى كإنشاد أصوات بشرية، وهو أسلوب تابعه بيتهوفن حتى وصل الى "التاسعة" التي استخدم فيها أصواتاً بشرية حقيقية في حركتها الأخيرة، إذ دمج فيها "نشيد الفرح" المبجل للطبيعة أىضاً، والذي لحنه انطلاقاً من قصيدة شيلر.