يطلّ المخرج اللبناني الشاب وليد فخر الدين وفرقة "المسرح الحر" ب"المكفوف" مسرح مونو، عرضاً مركّباً من خمسة نصوص وهو العمل المسرحي الوحيد والمشكوك في أمره لجبران خليل جبران. مسرحية ذات رؤية شبابية ثورية بعيدة عن النمطية المعهودة في الأعمال المحلية، وإن كانت لم تسلم من ثغرات تعود في مجملها إلى المغالاة إلقاءً وتمثيلاً وإيماءات. بدت روحيّة جبران مناقضة ل"الكليشه" المعهود الذي يتوقّعه أي متلقي كلاسيكي يريد رؤية جبران كما يريد جبران نفسه أن يراه. "مكفوف" "المسرح الحر"، وإن كان شذ عن القاعدة في كثير من المواقع، تميّز بحبكة متماسكة تمحورت حول نصي "الشاعر الأعمى" و"الشيطان". في المقابل، أتت السينوغرافيا والإضاءة لترجمة رؤية المؤلف نفسه لا المخرج، من حيث التعقيدات في الشباك العنكبوتية واللعب بالألوان على خلفية بالأبيض والأسود، لعكس تعقيدات النص الجبراني والحياة التي يصوّرها. بعد مسرحية "الأيادي المتسخة" 2002 وتجاربه في المسرح الإنكليزي في كاردف وبرمينغهام، يأتي عمل فخر الدين الجديد ليظهر فيه بوضوح تأثره بالمسرح البريطاني الحديث، مع شيء من التجريب اللبناني. طلال الجردي، ميرنا مكرزل، بديع أبو شقرا، وفاء حلاوي، أربعة ممثلين وراويان: طارق تميم ومكادي نحاس عرفهم الجمهور عبر التلفزيون والدبلجة، عمدوا إلى تجسيد عبارات تصعب مقاربتها، وزادت من صعوبتها اللغة الفصحى التي افتقروا إلى ملكتها. وإن نجح الممثلون شكلاً أو آخر في إيصال الرسالة - باستثناء وفاء حلاوي التي بدأ المشهد الأول معها وكادت تغرق بديع أبو شقرا لولا أداء طلال الجردي وميرنا مكرزل - فجاء الراقصون تولت ندرة عساف تدريبهم ليعرقلوا أداء الممثلين بدلاً من مساعدتهم، لوقعهم الثقيل على الأرض وافتقارهم إلى الخفّة والبساطة. بدا تأثر وليد فخر الدين واضحاً بالمدرسة الإنكليزية الحديثة التي تتلمذ فيها، من حيث تركيزه على الراوي والمؤثرات التسجيلية المساعدة، لكنه اعتمد في الجزء الثاني التجريب اللبناني الصرف. فهو يتعاطى مع النص وفقاً لشكله والحالة التي هو عليها، محاولاً العمل على أساس يُعتبر في لبنان كلاسيكياً ويحمل الكثير من الميلودراما. ومع الابتعاد عن الشاعرية المقصودة، سيطر التضخيم على الجزء الأول من العمل الشاعر الأعمى، إذ يرى المخرج أن الجمهور اعتاد على تصور جبران مع خلفية عزف كمان، لذا قُدِّمت إليه في "المكفوف" بإيقاع قوي رافق أداء مكادي نحاس وطارق تميم. كذلك جاء دور طارق تميم جامداً خدمة للفكرة ذاتها. وعمد المخرج إلى تغيير آخر للابتعاد عن الكليشهات، فجعل الشيطان - الذي يرسم عادةً كامرأة - رجلاً أبيض اللون، يقابله رجل دين غرق في الأسود وتؤدي دوره امرأة. وبما أن جبران كتب انفعالاً لا حدثاً، سعى المخرج الشاب إلى اللعب على الإشكالية والازدواجية الموجودة بين ما هو حسي وما هو جنسي. وبدا إبليس فخر الدين محبباً إلى الجمهور ظهر فيه طلال الجردي منسجماً مع الدور تماماً وإن كان لم يخلُ من التكرار في أكثر من مشهد. انسجم إخراج وليد فخر الدين مع موسيقى إيلي حبيب وسينوغرافيا علي سلمان وإضاءة هاغوب درغوغاسيان، أكثر من تآلف الممثلين أنفسهم مع المحيط. وهو ما ردّه طلال الجردي إلى قصر مدة التدريب، وإن كان المخرج نسب ذلك إلى القانون القاضي بتسلم المسارح قبل 3 أيام فقط من العروض. وعلى مدى ساعة وثلث الساعة، دار العرض في جو مظلم كئيب، عكست الإضاءة الخافتة خلاله وجدانية مناقضة للتعبير الانفعالي الذي قصده المخرج، وغالى فيه الممثلون إلى حد أفقد كلمة جبران رمزيتها. خلف شباك العنكبوت يجلس الجمهور متفرجاً إلى ما يقصده المخرج لا جبران خليل جبران، من الأم الخائنة، إلى الابنة التي تعاني عقدة "أوديب"، الراهب والشيطان، أول كاهن للبشرية، المجنون والشاعر الأعمى والخوري سمعان. وبما أن المخرج سعى إلى المغالاة، ذهب الجردي بشخصية الشيطان إلى أقصى حدود معتمداً حركات بدنية وملامح وانفعالات متكررة ربما وصلت إلى حد المزايدة على زملائه، مهمشاً ميرنا مكرزل في بعض اللحظات قبل أن تعود وتنتفض أمام بديع أبو شقرا. وربما يكون للراقصات الخمس والراقصين الاثنين دور في عرقلة أداء الممثلين لبدائية ما قدموا وافتقاره إلى التجانس والابتكار، إذ شكل أداؤهم عامل تشتيت للانتباه في أكثر من موقع، ولو كانت المقتطفات الموسيقية النابضة مناسبة تماماً للعمل من منظور المسرح التجريبي الجديد. أما طارق تميم العائد من كوميديا التلفزيون إلى الأداء الجدي لا التمثيل، فسقط في فخ عدم خبرته في الإلقاء، وأوقعته محاولات الاختباء خلف الصراخ في خطأ مخالفة المعنى الجبراني. وأتى حضور المغنية مكادي نحاس الدارية بفن الإلقاء، ليزيد من صعوبة مهمته. وفاء حلاوي التي لعبت دوراً واحداً في بداية العرض، وجسدت شخصية "آنّا" في "الشاعر الأعمى"، بدت متدربة في التمثيل وكادت في لحظة ما أن تجرف معها زوج والدتها الأعمى بديع أبو شقرا بعد لحظات له ضمن الإيقاع السليم. ونهضت المسرحية في الجزء الثاني مع تألق طلال الجردي في دوره الشيطاني بغض النظر عن التكرار الذي أوقع نفسه فيه.