"تحطّ بلاستيكة في حديدة تدّي لك فلوس" تعبير مبسط عن فكرة "بطاقة الاعتماد" خرج به أحد الأصدقاء. وبالنسبة إليه، تشكِّل هذه "البلاستيكة" أبلغ شاهد على تداخل التكنولوجيا مع منطق العولمة، اضافة الى كونها احدى الظواهر التي واكبت إجتماعياً تقدّم "الاقتصاد الجديد". بطاقة الإئتمان، بطاقة الدفع، بطاقة الصرف، بطاقة الصراف الآلي، بطاقة الانترنت، وبطاقة الدفع المسبق... أشكال عدة لوسيلة الدفع الالكترونية الحديثة، والتي باتت تحتل أكثر فأكثر مكان الأوراق النقدية في محفظات صار تصميمها متماشياً، اكثر فاكثر مع "الموضة النقدية" الرائجة. من الذهب الى الافتراض لأزمان طويلة، اعتمد الانسان على الذهب نقداً. كان المعدن الاصفر هو اول العملات صكاً. نعرف من التاريخ ان اشكالاً عدة للعملة سبقت الذهب ظهوراً. من الحجارة الى الاحجار الكريمة ومروراً بالوحل المشوي شيَّاً. كل تلك الاشياء كانت "نقوداً". لكن امر النقود دان الى اللامع الاصفر، فيما العالم يستعد للدخول الى الاقتصاد الحديث. وعندما ظهرت مؤسسة الدولة الحديثة، صكت عملات ورقية تساوي وزنها ذهباً. تلك كانت بداية النقد الورقي. وكان حجم الاوراق النقدية وسماكتها ووزنها دليلاً الى قوة الدولة التي تُصدِرها. وتغيرت تلك الصورة تدريجاً بالتوازي مع تعقد المبادلات التجارية في العالم، وخصوصاً ظهور الاسواق المالية والسندات والاسهم وما الى ذلك. ولم تعد اوراق المال توزن بالذهب. وظهر ما عُرِفَ باسم "التغطية الذهبية" للعملات. وبمعنى ما ظلت العلاقة قائمة بين المعدن الاصفر والعملة الورقية، لكن صيغتها لم تعد مباشرة. كل تلك الامور اثارت على صورة الثروة في اذهان الناس. ومثلاً، ظل الكنز الممتلئ بانواع الحجارة الكريمة نموذجاً لحلم الثروة. وتسيد البريق الاصفر الاذهان طويلاً. ثم جاء زمن الاوراق. ووصفت الثروة ب"الجيوب المنتفخة" تعبيراً عن امتلائها بالاموال. ولعل اول تحول عن الاوراق المالية، جاء من المصدر الاقوى لاوراق المال: المصارف. لنتذكر ان المصارف انشئت اصلاً لايداع المال. ولكنها هي التي اتاحت تحويله الى "حساب مصرفي" و"شيكات". لم يعد لازماً حمل المال، طالما ان لديك الرصيد الكافي. وصارت اقوى كمية من المال هي ما يمكن كتابته بالاصفار على ورقة شيك واحدة! ومع العولمة، تبخرت النقود! يمكن التلاعب على هذه العبارة بأكثر من صورة. ولكن العولمة افترضت اسواقاً مفتوحة وترافقت مع مفاهيم "افترضت" مسلمات مطلقة مثل حرية تنقل البضائع والاموال والخدمات والبشر. لماذا الحديث عن "افتراض"؟ لأن هذه الحريات الأربع لم تتحقق بعد. وما زال طرياً في الأذهان فشل جولة مفاوضات "منظمة التجارة العالمية" في كانكون. وفي المقابل، فإن العولمة حققت شيئاً مهماً، وعبر استخدام النظام المصرفي نفسه، هو تبخر الاموال وتحويلها الى...الكترونيات. فتح الاستخدام المتوسع للكومبيوتر والشبكات الرقمية، الباب واسعاً امام تحول الاموال الى ارقام ووقائع افتراضية. ولأنها ارقام، امكن تبادلها مع كل اشكال الاموال، مثل الاسهم والسندات والصكوك واصول الاموال والمشتقات المالية و"الاوبشنز"، اضافة الى امكان نقل الاموال، بطرفة عين، من عملة وطنية الى اخرى وما الى ذلك. وتدريجاً، تقدمت البطاقة الالكترونية اشكال تداول الاموال كلها. فبعد أن كانت هذه البطاقات محصورة بالفئات الميسورة جداً، أي أصحاب الحسابات الفضفاضة، انتشرت بصورة ملحوظة في صفوف الشباب أيضاً نتيجة لاستراتيجية تسويقية إعتمدتها المصارف في الفترة الأخيرة لتعميم إستهلاك "منتوجها" الالكتروني الذي أصبح بديلاً للقرض الشخصي إلى حد بعيد. واثبتت الاموال الافتراضية انها تحوز من القوة ما لم يحزه اي شكل آخر للثروة. مال لا يعرفه صاحبه! وصارت البطاقة الالكترونية هي صورة النقد. ولأن في العولمة كثيراً من القسر، وكثيراً من الرضا ايضاً، بدا ان الجميع محكوم باستعمال البطاقات الرقمية واموالها الافتراضية. والغريب في الموضوع هو الصورة التي يعطيها بعض المستخدمين، أو"المستهلكين للمال"، عند سؤالهم عن سبب إقتنائهم لبطاقة معيّنة. يجيب بعضهم أن المصرف "فرضها علينا". إلاّ أن الحقيقة تعكس منتوجاً مغرياً جداً في صيغه المتعددة. يُجمع كثيرون على انه بات ضرورة ولو أن البعض يصرّ على استعمال المال النقدي. فإضافة إلى الإعتمادات التي تسمح هذه البطاقة للمستخدم بصرفها، يشكل اقتناء البطاقات الالكترونية نوعاً من الترقية الإجتماعية أو بمعنى أصح، مظهراً من مظاهر الحداثة واللحاق باللحظة. وفي بعض الاحيان، تتحوّل الى "أكسسوار" للتباهي والمفاخرة. أمّا عند المراهقين والشباب، فلا شك في أنها تعبّر عن الإستقلالية والمسؤولية في آن معاً. ويرفض كثر فلسفة البطاقات، ولا يعطونها حجماً أكبر من كونها طريقة عملية وعصرية للصرف. يتوقف آخرون عند إشكالية "قيمة المال". فتعتبر الفئة الأخيرة أن البطاقات الالكترونية تدفع صاحبها الى الانفاق في شكل عشوائي. كأن لسان حال البعض يقول:"لأنك لا ترى المال ينقص فعلاً، فانت بالتالي لا تشعر بقيمة المبالغ التي تُصرف". وهذا ما يحمل عدد كبير على التخلي عن بطاقة الإعتماد بعد أن عجزوا عن السيطرة على مصاريفهم. في الوقت الذي "يكدّس" آخرون بطاقة تلو الأخرى. فتجد لديهم مجموعة كبيرة من البطاقات، كل واحدة من مصرف وبخدمات مختلفة. وترى اللذة والحماسة في عيونهم وهم يعرضون مجموعتهم. "لدي نحو أربع بطاقات في محفظتي"، ولننتبه الى كلمة "نحو"! وفي هذا السياق اكتسبت بطاقات الإئتمان "قيمة رمزية"، بحسب مصطلحات علماء الاجتماع. وهذا ما يفسّر أن بعض الأشخاص يملكون بطاقات الكترونية ولا يستعملونها. ويعود السبب في أكثر الأحيان إلى أن استخدام هذه البطاقات يرتبط بالفوائد المصرفية والعمولات الكبيرة التي تجعل البعض يتجنّبها قدر الإمكان. في الماضي القريب كانت المحفظات المنتفخة حلم كل إنسان. أما اليوم فقد تحوّل الحلم الى "بلاستيكة" برقم سري ورصيد مفتوح. أبعد من التطوّر المادي، تطوّر الزمن ثقافياً. وما عادت البطاقة سوى وسيلة ضرورية لمواكبة ثقافة مجتمعاتنا الحديثة القائمة على الإستهلاك بامتياز!.