أتى إحياء الحوار بين بلدان الحوض الغربي للمتوسط المعروف ب 5"5 للإلتفاف على تعثر مسار برشلونة، الذي عطلته تداعيات الصراع العربي - الإسرائيلي، ومحاولة إيجاد إطار إقليمي يساعد أوروبا على حماية أمن خاصرتها الجنوبية. انطلق حوار العشرة في مطلع التسعينات لكن الأوروبيين تجاهلوه بعد سنتين فقط من انطلاقه في أعقاب اندلاع "أزمة لوكربي"، ولم يعودوا إليه إلا بعد تسوية القضية بالصيغة التي أرضتهم. إلا أن حوار اليوم مختلف عن حوار الأمس، فالأجندة الأوروبية باتت تمنح الأولوية المطلقة لتوسعة الإتحاد شرقاً والتي ستجعله تكتلاً إقليمياً يشمل 450 مليون ساكن ويصل انتاجه الداخلي الخام إلى 10000 بليون يورو، وهكذا سيزيد عدد سكان الاتحاد وكذلك مساحته بنحو الثلث عن مستواهما الحالي، ما سيجعل منه قوة اقتصادية لها وزنها في العالم. واستطراداً سينتقل مركز الثقل الإستراتيجي، مع ضم الأعضاء العشرة الجدد للإتحاد في الربيع المقبل، إلى شرق أوروبا ووسطها. وهذه حقيقة جغرافية واقتصادية وسياسية لا بد من أخذها في الإعتبار ليس بسبب تعديل رؤية "أوروبا القديمة"لجوارها فقط وإنما أيضا للدور الذي سيلعبه الأعضاء الجدد في صنع القرار الأوروبي مستقبلاً. فسيتعين على أوروبا الموسعة أن تدير توازنات جديدة للمحافظة على المربع المشترك وسط مصالح متنافرة ستلقي بظلالها على القرار الأوروبي على نحو مختلف عما اعتدنا عليه في ظل صيغة الخمسة عشرعضوا الحالية. وما كان لبلدان أوروبا الشرقية والوسطى أن تنضم للإتحاد لو لم تطوِ صفحة الأنظمة الشمولية وتعتمد الديموقراطية ودولة القانون والفصل بين السلطات وشفافية الإنتخابات واقتصاد السوق، وهي عناصر تجعل البلدان المغاربية، التي لا تزال تعيش في عصور أخرى، بعيدة عن البحث في إقامة شراكة من هذا النوع مع الإتحاد الأوروبي. ومن هنا فإن هذا المسار الجديد سيؤدي الى مزيد من تهميش العرب "شركاء" الإتحاد الأوروبي في مسار برشلونة، وبالأخص منطقة شمال أفريقيا التي لن تكون شاغلاً من شواغل الأوروبيين إلا بالقدر الذي يؤثر في تدفق المحروقات أو يهدد أمنهم الإجتماعي. ولذا نلحظ أن إحدى النقاط الرئيسية المطروحة على جدول أعمال قمة 5"5 المقبلة هي الأمن، وأن أهم الإجتماعات الوزارية في إطار هذا المسار هي اجتماعات وزراء الداخلية. تقول بلدان أوروبا المتوسطية، خصوصاً إيطاليا وفرنسا وإسبانيا، إنها ستترافع عن مصالح بلدان الضفة الجنوبية في ظل الأسرة الأوروبية الجديدة، لكن الأمر لا يعدو أن يكون توزيع أدوار في إطار المصالح العليا المشتركة. فأولويات "المحامين" اختلفت بعد توسع الإتحاد شرقاً فهم مشغولون أساساً بالأمن ومكافحة الإرهاب ومحاصرة الهجرة غير المشروعة أسوة بسائر الأوروبيين، فيما العرب المتوسطيون مهتمون بالقضايا السياسية وفي مقدمها العراق وفلسطين واختلال التوازن الإقتصادي بين الشمال والجنوب. ويقدم المشهد المتوسطي اليوم لوحة مشطورة ينعم نصفها الشمالي بالرفاهية ويغرق النصف الآخر في الفقر والبطالة والهامشية، وليس أدلّ الى ذلك من تباعد مستوى الدخل بين الضفتين إذ يزيد حجمه في الضفة الشمالية إثني عشر مرة عنه في الضفة الجنوبية... والفجوة مرشحة للإتساع. وهذا يعني أن سقوط جدار برلين المغاربي هو شرط بناء علاقة مغايرة مع أوروبا، لأن توحيد المجتمعات حول مشروع جامع يرمي الى تكريس المشاركة السياسية واجتراح النهوض الحضاري هو الكفيل بتحقيق الإندماج الإقليمي بعيدا عن تقلبات الأمزجة والقرارات الفردية. ويفترض أن إصلاح الأوضاع المغاربية الداخلية والإقليمية هي المرحلة الأولى التي تسبق الحوار مع الأوروبيين لإيجاد أرضية للتعاون. وعلى أوروبا، إذا ما أرادت أن تكون أكثر أمنا، أن تساعد بلدان الجنوب على استتباب الأمن الإقليمي بالتشجيع على الإصلاح السياسي والشفافية الإقتصادية ومكافحة الفقر الذي يشكل بؤراً للإرهاب وخزاناً للمهاجرين غير الشرعيين.