أجد أن "لغة السر" للروائية اللبنانية نجوى بركات، هي من الروايات العربية النادرة التي تمكنت من توظيف الأليغوريا بطريقة حديثة تُفرغها من حمولاتها القديمة التي كانت تحصرها في الشرح والتدليل على فكرةٍ ما، لتجعل من هذا الشكل مجازاً للصراع الدرامي وتراسلاً بين عالم الطبيعة المادي والعالم الروحي التجريدي المهووس بأسئلةٍ ميتافيزيقية. وتوضيحاً للفكرة الأساس لهذه القراءة، أُشير الى انني أعتمد على التحديدات والمقترحات التي أعطاها الفيلسوف والتر بنيامين للأليغوريا بصفتها شكلاً يحقق "صورة جدلية" بين الطبيعة والفكرة، بين اللغة والحقيقة. بعبارة أخرى، فإن بنيامين وجد في الأليغوريا شكلاً يعيد الاعتبار للغة الشعرية الكاشفة ويحقق التوازن بين المفاهيم الفلسفية من جهة وبين اللغة - الكتابة من جهة ثانية، داخل تلاحم جدلي يلتصق بالوجود البشري نفسه. وهذا الأفق الذي رسم معالمه بنيامين وآخرون، هو ردّ فعل على التقنينات التي فرضت على اللغة منذ القرن السابع عشر في أوروبا، وجعلتها تفقد جودها الخاص كلغةٍ تتماهى مع الأشياء وتنفذ الى امتداداتها الروحية. وبطبيعة الحال فإن شكل الأليغوريا - عبر تاريخه - يحتفظ بعناصر تدل عليه وتسعف على التنبيه الى امكانية القراءة المزدوجة للنص. ومن تلك المؤشرات، إطار الحلم الذي تعتمد عليه الأليغوريا لتوليد التخييل وجعله ملتحماً بالرؤية التي تتوخّى التعبير عنها... وتنطلق رواية "لغة السر" من حلم عجيب ينقلنا الى الفضاء الروحاني الذي تجري فيه مشاهد التجربة التي تعيشها مجموعة من المنضوين الى "أخوية الوفاء" في قرية "اليُسر": "اعلموا أيَّد: الله واياكم، أني فيما كنت سائراً وقعت في طريقي على حرف النون ن ملقىً على الأرض مقلوباً ونقطته تبعط في داخله حتى الاختناق..." ص11. استمر سرّاج يروي حلمه عن مصرع الحروف وعن الفوضى التي عمت الناس الذين راحوا يتلاعبون "بأحرف الكلم التي هي أحرف المُلك أيضاً". كان يحكي حلمه العجيب وهو محاط بالشيخ الأكبر وبإخوانه: سهل، شمس الدين، ابن مسرّة، ابن عطا، حيان وجابر. وعندما انتهى من السرد، خيَّم عليهم الوجوم، وأدرك الشيخ الأكبر ان الأمر يتعلق بإشارة إلهية مُرسلة من عالم الغيب الى عبدٍ مؤمن، ولكنه لم يفتح باباً للنقاش والتأويل. عندما يُستأنف السرد - بضمير الغائب وبضمير الجمع وضمير المتكلم - نغوص في عالم "أخوية الوفاء" وفي أقانيمها وطقوسها ومشروع تأليف معجم سرائر الحروف الذي يكشف المعاني الكامنة في بواطن الحروف التي هي واسطة التأمل بين الخالق والمخلوق... ولكن الى جانب ذلك، ينهمك الإخوان في استقبال الزوار الوافدين من قرية "اليُسر" ومن البلدات المجاورة للتبرك والحصول على أحجيةٍ تشفي أدواءهم. وتكتسب "أخوية الوفاء" أهميتها، أساساً، من أنها تحرس المزار الذي يوجد به لوح القضاء والقدر، ومن أن الرب قد خصها بإقامة الشيخ الأكبر مع الإخوان ليوجه خطواتهم نحو المعرفة الربانية، وهو "بئر العلم الذي لا يفوقه أحد في سبر سرائر الكلمات وفي التماس باطن الحرف". إلا أن هذا الفضاء الروحاني، الغارق في أسئلة المعرفة المطلقة وأسرار الحروف والإعراض عن الترف الدنيوي، تتسلل الى جنباته صراعات البشر ومعضلات التدبير ونوازع الشر الكامنة في النفوس... وهذا هو ما نجحت الكاتبة في صوغه صوغاً روائياً يزاوج بين عناصر الأليغوريا المحملة بالإشارات والإيحاءات، وبين البنية التشويقية التي تستعير من الرواية البوليسية عنصر "التحقيق"، لتجعل المأمور يتدخل ليكشف عن خفايا "أخوية الوفاء" ولتربط أسئلتها العلوية بأسئلة الحياة اليومية. ذلك ان محاولةً لسرقة المزار أثارت حوادث واضطرابات في قرية "اليُسر" وهو ما دفع ادارة الأمن الى تكليف المأمور بالتحقيق في الموضوع. وقبل ذلك نكون قد علمنا، من فصول سابقة، أن الذي أقدم على التسلل الى المزار هو خلدون الشاب الذي كان يأمل في أن يفوز في مسابقة نظمتها الأخوية لاختيار حارس جديد للمزار، إلا أن الشيخ الأكبر استبعده عندما علم بوجود علاقة بينه وبين زيدون الوراق الذي كان عضواً في أخوية الوفاء وكان يحمل اسم العلايلي. ومن ثم ينفذ السرد الى الفضاء الداخلي لأخوية الوفاء ومزارها والصراعات المتولدة عن الشكوك التي تنتاب أعضاءها وهم يقفون على بعض تصرفات الشيخ الأكبر المنافية لقسمهم بأن يجعلوا معارفهم في "خدمة الخير وتسخير علم الحرف والأعداد لمساعدة المظلوم وشفاء المريض ... وتسهيل المحبة وإرجاع الألفة وحل المربوط". كان سرّاج هو أول من اكتشف انحراف الشيخ الأكبر، عندما رأى طلسماً "يتضمن حروفاً نارية نحسة يُعمل بها من الأعمال ما يختص بأمور الدنيا والفساد وسفك الدماء...". كان الطلسم موجهاً للعلايلي الذي سبق أن اختلف معه عندما كان عضواً في أخوية الوفاء، حول أصل اللغة: "هل اللغة توقيف أي وحي، أم أنها اصطلاح بالتواضع أي من صنيع الإنسان؟". وهذا ما جعل الشيخ الأكبر يرغمه على مغادرة المزار، فاختفى ثم عاد الى قرية "اليُسر" تحت اسم زيدون الوراق، وعندما عرف الشيخ الأكبر بعودته، ذهب اليه في حانوته وحاول حرقه فأنقذته، "عدلى" وأشاعت أنه مات، وظلَّ هو مختبئاً يتابع أخبار المزار عن بُعد، الى ان علم بمحاولة خلدون سرقة اللوح وبإقدام حيان على الانتحار، فرجع ليكشف للمأمور أن المجرم الحقيقي هو الشيخ الأكبر الذي يضطر الى الاعتراف بأنه من قتل الرجل السكير، ومن أرغم العلايلي على الرحيل، وأن الصندوق لا يحتوي على لوح القضاء والقدر.... لكنه يُبرّر ما فعل بخوفه على الناس أن يفقدوا إيمانهم بوجود اللوح وهم لا يملكون ما يلجأون اليه كبديلٍ... ثم أحرق نفسه بمشعل كان معلقاً على الجدار. في بناء "لغة السر" تتجاور، كما رأينا، عناصر تراثية وعرفانية علم الحروف وقيمها العددية ومكنوناتها الباطنية، الأخوية وطقوس الجذب والحلول والكشف، والمزار واللوح المحفوظ... مع صراعات بشرية وجرائم وتحقيقات تضفي على النص طابع التشويق والمفاجأة. وهذا التركيب في البناء، يحافظ على الشكل الأليغوري الذي يتيح القراءة المزدوجة، بل المتعددة، للنص، وينطوي على مؤشرات تجعلنا ننتقل من مستوى الى آخر ضِمْنَ جدلية تضفر الصور والكلام والتأملات والنصوص الصوفية المستحضرة في ثنايا الحوار والمجادلات. ولكن الأمر لا يتعلق، كما أوضحنا، بأليغوريا ساكنة تقتصر وظيفتها على التجسيد والتدليل، بل هي أقرب الى مفهوم "بنيامين" الذي يجعل من الأليغوريا مجالاً لهدم ما تسعى اللغة المفهومية، العقلانية، الى تحنيطه وتثبيته، حاجبةً بذلك الامتدادات الشعرية والحدسية التي تنفذ - من خلال الهدم - الى طرقٍ وممرات تعيد للوجود البشري قُدرته على التساؤل والابتكار. وقد استطاعت نجوى بركات أن تحول فضاء النص الى فضاء أليغوري ينضح بعناصر الهدم التي تريد التخلص من عبء الماضي الذي يشل الحركة والانطلاق ويفرض على الأحياء الخضوع لمشيئة الأموات. وعلى رغم أن "لغة السر" تأتي متخطية للزمن بمعناه الكرونولوجي والتوقيتي، ساعيةً الى تعيين الحقيقة/ الحقائق، فإننا نستشف حضور البُعد التاريخي عبر اهتمام الرواية بالإجابة على سؤال تصوغه على هذا النحو: ما الذي يستطيع أن يستمر من الماضي في حاضرنا؟ على ضوء هذا السؤال، تقودنا قراءة النص الى جواب مزدوج يصلح في نظرنا لأن يحدد معالم التأويل: 1 - اللغة: بطبيعة الحال، تتوفر اللغة على صفة الاستمرار والانتقال واختراق العصور، وهي بذلك مؤثرة في المعرفة ومكيفة لرؤية الإنسان ولعلائقه مع الآخرين... وفي فضاء "لغة السر"، تحتل اللغة، بكل رموزها وعلومها، مكانة أساسية تتجلى من خلال منظورين: منظور ماضوي يعتبرها موروثاً مقدساً يحتوي الماضي والحاضر والمستقبل، وتكفي الاستعانة بالكشف والحلول لاكتناه أسرارها وذخائرها، ومنظور يعتبر اللغة اصطلاحاً، أي من صنع الإنسان، ومن ثم فهي بحاجةٍ الى الابتكار والتطوير والإضافات لتكون أداة نفاذ الى عمق الأشياء والى تجليات الوجود وتبدلات الأحوال، أي أننا نجد، في الرواية، حواراتٍ ومجادلاتٍ تتراوح بين الدفاع عن لغة السر التي تضطلع بحجب الأسرار وتدجين العباد، والدفاع، عن سر اللغة، أي المغامرة المفتوحة التي تهدينا الى بلورة لغة ملائمة، حيَّة ومتجددة. وهذا الموقف الأخير هو الذي يعبر عنه العلايلي مخاطباً اخوانه: "... وها أنا أقول لكم: اللغة من صنيع الإنسان مالكها! ذلك أنها مشيئة الرب وضع فيه العقل كي يعقل الأشياء وضمن "القدَر" معنى القدرة كي يفهم ابن آدم أنه وهبه الإرادة ينبثق منها العزم فالاقتدار!" ص 213. ولا شك أن مضلة اللغة كما طرحتها "لغة السر" تذكرنا بأصداء مناقشات معاصرة تتوزع بين الموقفين: بين التشبث بماضوية مغرقة في تقديس اللغة، وحداثة تُلح على أن تجديد اللغة وتحريرها هما بوابة الولوج الى الإبداع والتغيير. ب - اختبار الحقيقة: تتميز شخصية الشيخ الأكبر بسماتٍ تضعها على حدود الالتباس والمفارقة أنه يقود اخوانه على طريق الكشف والمعرفة الربانية، وهو مسؤول عن حماية لوح القضاء والقدر الذي أصبح يؤثر في عامة الناس ويضبط سلوكهم... وهذا الإحساس بثقل المسؤولية هو ما يجعله يخرج عن مبادئ الأخوية ليتصدى لمن يظن انهم يهدمون الإيمان ورموزه. انه حريص على صونِ لغة السر التي تخصص المعرفة وتخدم الأمن والسلطة وتستديم ما هو قائم... يعرف الحقيقة في مطلقيتها ولكنه لا يتردد في أن يخونها مستنداً الى منطق النسبية والى ضرورة حماية الناس من جهلهم. وفي المقابل، نجد العلايلي وخلدون اللذين عارضاه: الأول خاض مغامرة اللغة والحروف وآمن بأنهما من صنيع الإنسان، إلا أنه يعود - بعد انتحار الشيخ الأكبر - ليجمع بين الأضداد وليقبل بالتوفيق بين توقيف اللغة واصطلاحيتها... والثاني خلدون هو الذي تحرر فعلاً لأنه لم يدخل الى شرنقة "أخوية الوفاء"، فغادر قرية "اليُسر" وتحول الى سارد يحكي لنا ما حدث له مع الشيخ الأكبر قبل أن يتحول الى إنسان يتنفس بحريةٍ هواء البراري النقي، ويتابع ببصره صقره "حرار" وهو يمارس الصيد لأول مرة وحده خلدون يحس انه ظل وفياً لمبادئ الحقيقة التي لقنه إياها زيدون الوراق العلايلي، أيام كان يبحث عن عمل يسد به رمقه. لكن العلايلي قاده الى دروب المعرفة فلم يستطع ان يتخلى عن تبعاتها: "المعرفة شقاء أجل، لكن الجهل بؤس. والفرق شاسع ما بين الشقاء والبؤس وإن تبدى ألا قطيعة بينهما. ها أنت واقع بين الاثنين يا خلدون، تتأرجح فوق جسر معلق في الهواء تنقطع حباله كلما خطوت، متقدماً أو متراجعاً" ص83. ولا شك في ان بناء ملامح الشخصيات قد أكسب "لغة السرّ" طابع الإحراج الذي يضيف الى عمق الرواية، ويجعلها متدثرةً بذلك الالتباس القابل لأكثر من قراءة وتأويل. وفي الآن نفسه، يُوفر شروط تعدد الأصوات واللغات وينقل المجابهة والتعارض من التجريد الى مستوى الجدلية التي تخترق رحلة البحث عن سرائر الحروف وعن مسالك المعرفة. وهل نبتعد عن النص إذا قلنا بأن "لغة السر" تفضي قراءتها الى تلك "اليقظة" التي أشار اليها بنيامين، لأنها رواية تميز بين ما "انتهى" داخل الماضي، وبين الأسئلة القادرة على الاستمرار في الحاضر، أي أسئلة العقل الناقد، والإحساس الطامح الى توازن بين الإيمان والعقل، بين الطبيعة والفكرة؟