تأخرت "دار الجديد" في بيروت في نشر كتاب الشيخ الراحل عبدالله العلايلي الذائع الصيت، "مقدمة لدرس لغة العرب، وكيف نضع المعجم الجديد"، ضمن سلسلة اعادة نشرها لأعمال اللغوي الراحل، أو أصدرت بالأحرى هذا الكتاب بعد "المعجم" في أجزائه التي وضعها في مضى، فيما كان يفترض نشر "المقدمة" قبله، وذلك بعد أن منت الدار النفس بتقديم جديد للمقدمة في أيام العلايلي الأخيرة. ولتمنع العلايلي أسبابه التي حملها معه الى صمته التام، والتي لا تتصل بأية حال بعمل دار النشر المحمود، إلا أنها قد تتصل بنوع من الشعور باللاجدوى، التي تحققنا منها بأنفسنا عند زيارتنا له، قبل وفاته بشهور. وقراءة "المقدمة"، النادرة أو غير المتوافرة لقراء العربية منذ العام 1938، سنة نشرها الأول، ترخي ظلالاً من الشك حول الجدوى هذه، طالما أننا نقرأ "المقدمة" بعد ستين عاماً على صدورها الأول، وإذ بنا نتحقق من أن ما خطط له العلايلي، أو خطته في وضع "المعجم"، بل في تجديد العربية عموماً، لا يزال حبراً على ورق، أو وعداً قيد الإرجاء الدائم. وما يستوقفنا، عند قراءة المقدمة، هو السهولة البادية في كيفية نظر العلايلي الى اللغة والمعجم في آن، من دون إرباك وارتباك. وهذا يصدر طبعاً عن درايته الواسعة والمتمكنة من اللغة، وإنما أيضاً عن موقفه المتحرر في فحصه لها. وهذا ما يتيح له التنقل في ميادين اللغة وقواعدها بيسر وسهولة، ويقوده الى تدبير طرق قصيرة للنظر والاقتراح فيها. وإذا كان غيره "يرتبك" في تردده على المادة اللغوية، فيتحرج من سلوك هذا السبيل أو ذاك، ومن اقتراح هذا السبيل أو ذاك، فإن العلايلي لا يعرف مثل هذه المصاعب، ولا يستسهل الحلول بالمقابل. وهو في ذلك - وهو ما لا ننتبه اليه كفاية - سليل المدرسة اللبنانية "النهضوية"، التي انصرفت منذ الشدياق واليازجي الى اعادة النظر في اللغة وفق مساعٍ أطلقنا عليها تسمية "استئناف الوضع"، وتعني اقتراح مواد لغوية جديدة على العربية، وتدبير قواعد "استقبال" للداخل عليها من لغات وثقافات أخرى. وهو ما يجمله قول العلايلي المأثور: "ليس محافظة التقليد مع الخطأ، وليس خروجاً التصحيح الذي يحقق المعرفة". ويمكننا القول إن العلايلي أبعد من سابقيه اللبنانيين وغيرهم في هذا الميدان، إذ أن هذه "المقدمة" لا تعدو كونها فاتحة "المعجم" الذي عمل أجزاء منه من دون أن يكمله المنهجية والوضعية في آن. فلم يطلب العلايلي وضع معجم جديد للعربية، بل اقتراح إصلاح لغوي عام يطال اللغة في عدد من قواعدها، على أن يكون المعجم الصيغة التدوينية والتطبيقية لذلك. وهو إصلاح لغوي قاده الى انتهاج سبيل في النظر الى اللغة أبعد عن سابقيه، ولا سيما التقليديين منهم، إذ أنه لم يتورع عن نقدهم، بل عن الانفصال عما كان يشكل عائقاً فكرياً وربما غير ذلك في سبلهم التقعيدية. فما ينتقده العلايلي في عمل اللغويين القدامى هو أنهم حافظوا على نهج اتبعوه، خصوصاً منذ القرن الثاني الهجري، وأدى الى "جمع اللغة"، مشافهة وكتابة وفرزاً. لكن هذا النهج استمر في دراسة العربية، على الرغم من فقدان الأسباب القديمة الموجبة له، أي جمع ثبت العربية، وترتيب أولي لجداول الألفاظ والمعاني فيها. وإذا كان بعض المتأخرين من اللغويين العرب قد تنبهوا الى انسداد هذا الأفق، فإنهم نهجوا، حسب العلايلي، نهجاً "شكلياً صرفاً" للإجابة عن هذه المعضلات. أما العلايلي فقد امتنع عن ذلك، ونهج منهجاً مختلفاً يقوم على فتح باب الاجتهاد في صورة مقنعة، لا تقوم، مثلما فعل غيره، على التعويل على مثل أو مثلين ضعيفين من شواهد اللغة، بل على دراسة العربية في أبنيتها التكوينية. ذلك أن ما عابه على عمل سابقيه، هو أن التقييم انقلب معهم الى خشية، والاحترام الى عبادة. وهذا يعني في حساب العلايلي أنهم "قبلوا" ما جاء السلف به من دون تمحيص أو تنقيح، حتى أن بعضه أتى نتيجة درس غير مستقيم ولا محقق. وتأتي للغة، من ذلك، "مغالط صيّرها التاريخ عقائد"، حسب عبارة العلايلي الجميلة والدقيقة. وهو يأخذ بهذه الآراء اللغوية القديمة بوصفها خطرات ونظرات، أو اقتراحات في أحسن الأحوال، لا أكثر، وتعني الدارس بالتالي إكثر مما تعني اللغة في ذاتها، إذا جاز القول. هكذا ينتقد العلايلي قاعدة "السماع"، إحدى قواعد التفكير اللغوي القديم، ويرى أنها قامت على أساس المنقول، بين كثرة وقلة، وهي لا تعدو كونها "متبقيات" لغوية ليس إلا، أي أنها ليست المجموع اللغوي الذي يمكن القياس عليه. وهو في نقده يقوم بعملية مراجعة لغوية ذات أساس تاريخي ترى الى القواعد العربية بوصفها اجتهادات تحكمت بها ظروف تاريخية واعتقادية وغيرها، ما يدعوه الى التعامل الحر معها، بل الى الزيادة عليها أو الى الاستغناء عن بعضها. هكذا يمتنع، في بعض الأحوال، عن الأخذ بقاعدة السماع، أو يبيح صوغ موازين الثلاثي برمتها من أي ثلاثي، وكذلك موازين الرباعي... هكذا يعيد العلايلي النظر في تاريخ العربية، ويضيف عهداً جديداً الى العهود التي أحصاها ودرسها وعيّنها في الكتاب، وتبين فيها سنة النشوء والارتقاء في مباني اللغة من الأحادي الى الثنائي وغيره. ويأخذ العلايلي في نشأة اللغة وتفسير تطوراتها بما أخذت به نظريات لغوية، فرنسية وغيرها في زمانه، متأثرة بما كان يتحقق تحت أنظارها، في مجال دراسة الأنواع مع داروين تحديداً وتخصيصاً، من تحققات تنسب التكوينات الى تاريخ الأنواع في تدرجه وتبلوراته. للعلايلي اقتراحات متعددة تتسم بالجرأة والتوفق أحياناً، تؤدي الى جعل اللغة ذات نسق منتظم: هذا ما أغرته به العربية نفسها أو شجعته عليه، إذا عرفنا عنها أنها ذات نظام اشتقاقي يتيح وجود مشتقات متدرجة من جذر واحد، وهو ما يقترحه العلايلي ل"استقبال" الألفاظ الداخلة على العربية من خارجها، أي من لغات وثقافات أجنبية. الى نظرات العلايلي النقدية اللافتة في تاريخ اللغة، نرى أن جهده المميز يتأكد في ما اقترحه من حلول وقواعد لتجديد العربية وتوسعتها وتقويتها بما يمكن أن يدخل اليها أو تستدرجه أو تحتاجه فيها من ألفاظ ومعان. وإذا كان غيره من واضعي اللغة الجدد انتهجوا سبلاً متفرقة، تجريبية غالباً، في تشريع دخول ألفاظ جديدة الى العربية، فإن العلايلي انتهج سبيلاً مختلفاً، يمكن اختصاره في قاعدتين: تقوم القاعدة الأولى على توحيد المعاني في المادة اللغوية الواحدة، ويقضي هذا بأن يتم اعتبار كل لفظين اتفقا ببعض الحروف مشتقين، كالجمع على سبيل المثال بين "العقل" و"العاقول". إلا أن تقريب الألفاظ سيؤدي حكماً الى جمع أو تقريب ألفاظ لا يجمع بينها رابط دلالي واضح، كالجمع، على سبيل المثال، بين "سفح" بمعنى صب الدمع، وبين "سفح" بمعنى وجه الجبل، فكيف يمكن الجمع بين هذين المعنيين ومعنى "سُفاح" أو "سفّاح"؟ ينتبه العلايلي الى صعوبة تطبيق هذه القاعدة في صورة مطردة، فيعمد، والحالة هذه، الى اقتراح مبدأ "التخصيص الموقوف على التحكم"، أي تخصيص هذا اللفظ بهذا المعنى من دون اشتراك مع غيره مما يقترب منه لفظاً. وتقوم القاعدة الثانية على تخصيص الموازين في العربية بمعانٍ وتأديات تقوم بها مقام اللواحق في الأجنبية، وهو سبيل تحتاجه العربية طالما أنها لغة اشتقاقية، لا تركيبية. ففي الفرنسية أو الإنكليزية تكتفي أحياناً بزيادة لاحقة من اللواحق قبل اللفظ أو في آخره لتعيين لفظ جديد، أما في العربية فتعود الى استعمال ميزان من موازين العربية لتأدية هذا المعنى أو ذاك: هكذا يجعل، على سبيل المثال، من صيغة "فعالية" لما يناسب في الأجنبية المذاهب التي تنتهي بISM بالأجنبية، مثل "اشتراكية" و"ليبرالية" وغيرها. ويعرض العلايلي في الكتاب الموازين هذه مبيناً معانيها اللازمة، معولاً عليها، بالتالي، لاقتراح ألفاظ جديدة على العربية، كالحديث عن "الإبادة" بوصفها العلم الذي يبحث الأشكال التي كان عليها العالم في أقدم ما كان، أو "الأبادية"، وهي الفلسفة التي تقول بقدم المادة وأن الدهر أسباب ونتائج متواصلة. هذا ما شرحه العلايلي في "المقدمة"، وهذا ما طبقه في ما صدر من "المعجم"، إلا أنه لم يكمل قط مشروعه هذا، من دون أن نعرف أسباب ذلك. يمكننا طبعاً نقد طريقته هذه، إذ أنها شديدة العقلانية، كما تطلب نسقية عالية في تنظيم مواد اللغة وتوسعتها لا تعرفها اللغات عادة. ذلك أن اللغات تقوم على مواد ذات أبنية منظمة ومنسقة وعلى غيرها، أو غير منظمة ولا منسقة، مما خلفه تاريخ اللغة القديم والاستعمالات السارية من جوازات واستثناءات وشواذات وغيرها. إعادة نشر "المقدمة" وفي آخر السلسلة، يبدو من حيث أراد الناشر أو لم يرد، أشبه بوصية العلايلي. وأدهى ما فيها هي أنها مفتوحة ومعروفة من الورثة منذ نيف وستين عاماً، من دون أن يقبل، لا العلايلي نفسه، بداية، ولا غيره بعده، من استثمار الطرق التي عبدها، وهي الخطوات الأصعب في مثل هذا المشروع الطموح