عندما تشاهد الفيلم التسجيلي التجريبي "عزيزي" للسينمائية اللبنانية رين متري، تجد نفسك تلقائياً تفكر في فيلم "هو " هي، فان ليو" لأكرم زعتري. وللوهلة الأولى لا تستطيع أن تعرف على وجه الدقة ما هو وجه الإحالة الذي يجعل الأول يحرض على التفكير في الثاني. لكن بعد المشاهدة الثانية تبدأ الخيوط في الاتضاح. لقد شُغلتْ رين بفكرة الزمن منذ البداية، وتعاملت مع الصور الفوتوغرافية في فيلمها "عزيزي"، وتعاملت مع الفيديو من داخل تقنياته كوسيط مستقل، وليس تقليداً للسينما. ربما كانت هذه هي العناصر البنائية الثلاثة التي ارتكز اليها زعتري في "فان ليو .ولكن إلى هذا الحد فقط تنتهي العلاقة بين الفيلمين. فلقد تعاملت رين مع هذه العناصر في شكل جد مختلف. الزمن في "عزيزي" يبرز من المقدمة التي حملت كلمات تاركوفسكي الاستهلالية عن الزمن كشرط لوجود الأنا الخاصة بنا، وأن لحظة الموت هي بمثابة موت للزمن الفردي / الشخصي.. ليس إلا. هاجس الموت نرى فيديو شخصياً لرين وأصدقائها، ثم صفحة بريد إلكتروني، ورسالة تُكتب على الشاشة: "عزيزي.. أفكر في أنني سأموت في أحد الأيام، ولا أحد يستطيع فتح بريدي الإلكتروني، ولا أحد يرى إذا وصلتني رسائل جديدة". يتشكل هاجس الموت تدريجاً في مقابلة مع عبء الوجود. هذا الهاجس مرتبط عند صانعة الفيديو هنا بحتمية فناء الذاكرة الإلكترونية. نرى على الشاشة صورة فوتوغرافية لبعض اصدقاء في حديقة، الصورة يعبرها خط أحمر كمؤثر بصري يعادل فكرة الماسح الضوئي السكانر. فكما تلاشت الرسائل الورقية التقليدية وحلت محلها رسائل إلكترونية، أيضاً تتحوّل الصور الورقية المطبوعة إلى وسيط بصري مغاير مكون من نقاط، يتناقل عبر البريد الإلكتروني بسرعة البرق، يُرى ولكن لا يُلمس. نعود مرة أخرى الى الرسالة التي تُكتب على الشاشة "وسيمتلئ صندوقي البريدي يوماً ما. دلالة هذه العبارة ظاهرياً هي كف صندوق البريد عن استقبال مزيد من الرسائل بعد امتلائه. لكنها في مدار آخر عجز للذاكرة الإلكترونية عن الاستيعاب المطلق، وفي الوقت نفسه تحمل إحالة لفكرة تاركوفسكي عن لحظة الموت الفردي، وكذلك لحظة تعذر الإحساس بالحياة المتبقية أو الموت حوله، وتتأكد هذه الفكرة من مقطع الرسالة وأصدقائي، كيف سيعلمون أنني مت وأنني لا أستطيع قراءة رسائلهم؟ أصدقائي في كوبا، التشيلي، إيران، إيطاليا، المكسيك، وأنت. اختيار رين للخريطة والأقدام تقطع خطوات فوقها هو اختيار ذكي كمعادل للتعبير عن الرحلة الافتراضية وسفرات التواصل عبر البريد الإلكتروني. تتزامن الصور الفوتوغرافية الشخصية مع مقاطع صوتية لرسائل بالإنكليزية والفرنسية تعبر عن أحاسيس يومية وتعكس رغبة في التواصل مع الآخر، ولكنني أتوقف عند أحدها التي تقول: "لقد وصلتني رسالتك عبر الهاتف الجوال، وآثرت ألا أمحوها. التكنولوجيا شيء رائع، إنها تبلور الماضي وتنقل الأحاسيس بقوة. إنني لم أرد على رسالتك لأنني لا أعرف إلى أين ستؤول بي الحال. سأذهب في عطلة نهاية الأسبوع إلى مدينة بيمونت الإيطالية، ويوم الاثنين إلى سلوفاكيا ولمدة ثلاثة أشهر. إشكالية مركبة إن محتوى هذه الرسالة يضعنا أمام إشكالية مركبة: وعينا بأهمية التكنولوجيا إزاء حتمية زوال الذاكرة من رسائل وصور إلكترونية. وفي الوقت نفسه تطرح هذه الرسالة فكرة الترحال. وعلاقة الإنسان بالمكان، إذ حينما ينتفي الاستقرار يصبح عنوان البريد الإلكتروني هو الطريق الوحيد للاتصال بشخص ما. ولأن تأثير هذه الرسالة المسموعة المتزامنة مع الصور الفوتوغرافية ربما يكون أقل تأثيراً من الحروف المكتوبة التي نراها على الشاشة في شكل رسالة بريد إلكتروني، لذا فهي تنم عن طرح يومي أقل تأملاً من الرسالة الرئيسة التي تعود إليها رين مرة أخرى في عبارة مكررة وأصدقائي، كيف سيعرفون أنني مت، وأنني لا أستطيع قراءة رسائلهم؟. على شريط الصوت، نستمع الى تواريخ الاثنين 16 كانون الأول ديسمبر، الاثنين 24 شباط فبراير، الاثنين 28 تشرين الأول أكتوبر، الأربعاء 29 آب أغسطس، 31 تشرين الأول أكتوبر. من الصعب أن تكون هناك وحيداً، شعرت بأن الزمن لا يمر، وودت أن ألتقي أحدكم في شارع من شوارع باريس. في انتظار ردك، نادية. إن تكرار اليوم نفسه الاثنين في هذا المقطع الصوتي مع تواريخ مختلفة يؤكد الإحساس بتسرب الملل والرتابة إلى صاحبة الرسالة، ويدعم الإحساس بالوحدة الذي تتحدث عنه. وتعكس تشوق صاحبتها إلى لقاء الآخر. أليست الوحدةُ والترحال وحدتين مترابطتين تسهمان في خلق ذاكرة ثرية حتى لو كانت إلكترونية ومهددة بالفناء؟ تتابع الرسائل المسموعة بعفويتها وواقعها الحياتي وتزامنها الصوري يعكس الشحنات المفعمة بالحياة التي تحملها تلك الرسائل، ثم تليها رسالة أخرى جديدة على الشاشة تتخذ شكل الرسالة الإلكترونية أيضاً أنت تعلم أن في الأزمنة القديمة، حينما كان الناسُ معتادين على كتابة الرسائل لبعضهم بعضاً، حينما يموتون، تظل رسائلهم باقية. غداً ماذا سيتبقى من تراسلنا؟ رسائل إلكترونية؟ نرى فتاة تسير في الشوارع، ثم تتحول الصورة الى وضع الثبات. توقف الزمن هنا من وجهة نظر رين هو توقف لحظي، تفعله التكنولوجيا مونتاجاً، لكن معناه يظل مقترناً بما يسبقه وما يليه. نرى على الشاشة لوحة إعادة بناء لحظة، ثم نرى لقطات مكبرة مجتزئة من صورة فوتوغرافية لوجوه - بينها وجه رين مخرجة الفيديو نفسها وأيدٍ ترقص في عنفوان. تتابع الوجوه والأيدي في سياق مقصود ينتهي بالصورة الكاملة التي تتسق وعنوان اللوحة، فاللحظة بالفعل نشكلها في إذهاننا وفق إرادة مخرجتنا، حتى وإن أعطتنا في النهاية الصورة المكتملة بعد انتهاء هذا الجزء من اللعبة الذهنية. الحب ممكن... مستحيل نعود إلى الأصل وهي صفحة البريد الإلكتروني، جملة تكتبها بالإسبانية، ثم تعود وتكتبها بالإنكليزية يوماً ما أخبرتني أن الحب ممكن، لكنه تقريباً هو دائماً مستحيل!. إن حديث رين عن الحب هنا وبهذا التناقض اللفظي هو بالطبع حديث منطقي خصوصاً بعدما تحدثت عن الترحال والموت والأفلام والذاكرة والتواصل، وليس غريباً أن تعقب هذا الحديث صور من الطفولة. فتاتان تحملان الزهور، وصور زفاف قديمة ربما لوالدي رين، ثم صوراً عائلية تظهر فيها رين طفلة، ثم نرى المؤثر الشبيه بالماسح الضوئي يحول الشاشة إلى اللون الأبيض ويظهر وجهان كرتونيان، انهما من الرسوم المستخدمة للتعبير في برامج الدردشة شات على الإنترنت، نرى الوجهين يتبادلان القبلات، يتقاتلان، يعزفان، أحدهما يقدم الزهور، آخر يُسجن خلف القضبان، إنها صور للتعبيرات الإلكترونية التي تعوض الغياب الحي والانقطاع الحقيقي بين طرفي التواصل. إنهما أشبه بمسوخ، لكنهما يبدوان من المسوخ التي لا يمكن الاستغناء عنها... على صفحة البريد الإلكتروني الأخيرة نقرأ أنت تعلم أن ناساً مثلنا ينبغي أن يكون لديهم أكثر من قلب واحد، أكثر من عقل واحد، وأكثر من حياة واحدة. لا تحاول المخرجة بهذه المقولة أن تتشح بثوب الحكمة، لكنها تقف وبدقة على موطن التناقض فينا، وتعري محدوديتنا وعجزنا عن الحياة بأكثر من قلب وعقل وحياة. وتعبر عن حاجتنا الى الخروج من هذا الحاجز الضيق الذي يكاد يخنقنا. ثم يلي الرسالة عنوان "الزمن الموسوم". على شريط الصوت نستمع الى مقطع صوتي من فيلم "سينما بارديزو" يتزامن مع صور فوتوغرافية لأشخاص يمسكون بكاميرات فيديو، ولقطات خلف الكاميرا أثناء صنع أفلام، حركة الكاميرا البطيئة تمسح الصور وتتأملها، مؤثر الماسح الضوئي يتحرك فيكشف عن الصورة تدريجاً. عشرات الصور الفوتوغرافية تتابع في أنساق مختلفة، صورة لرجل يصوب الكاميرا كما السلاح، تتراجع الكاميرا لنرى هذه الصورة وسط عشرات الصور بينها صورة لفتاة أخرى تمسك كاميرا وتبتسم، ثم عناوين النهاية في إطار صفحة البريد الإلكتروني مع استمرار المقطع الصوتي لفيلم. إن هذا الزخم الصوري الكثيف في نهاية الفيلم يؤكد رؤية مخرجته نحو تمجيد الصورة. الفيلم يمد الأفق بامكان رؤية الحياة بأكثر من قلب وعقل، حياة سمتها التواصل بين البشر حتى وإن تباعدت المسافات بينهم، لا نستطيع إنكار دور هذه التكنولوجيا في تواصلنا حتى وإن تحللت الذاكرة الإلكترونية وفرغت في ما بعد. عبرت رين متري فوق أشواك الرؤى الموشوشة، واجتازت بوابة الفيديو بصعوبته القاسية على رغم سهولته الظاهرية، قدمت الذات بأفكارها وصورها داخل الفيلم لكنها لم تسقط في فخ التنميط. لذا استطاعت صانعة الفيلم اللبنانية الشابة هي المخرجة وكاتبة السيناريو والمصورة والمؤلفة أن تصنع فيلماً مدته 17 دقيقة جديراً بالتأمل عن الحياة التي نحياها بفعل سريان الزمن، وعن الأماكن التي تفرقنا تارة وتجمعنا تارة من دون أن نفقد قدرتنا على التواصل. وحصول الفيلم على جائزة أحسن فيلم تسجيلي عربي قصير من جمعية السينمائيين التسجيليين في مهرجان الإسماعيلية الأخير يؤكد أن الفيلم المختلف ما زال له نقادُه ومتذوقوه.