كنت أرى، منذ زمن طويل، أن حلّ مشكلات الصراع العربي الإسرائيلي يجب أن يتم في إطار عربي. فتحقيق سلام عربي إسرائيلي شامل سيقود لاستقرار حقيقي في المنطقة، حتى لو مرّ ذلك في مراحل عدة من المّد والجزر، وسيحدث ذلك حتماً. فبقاء طرف عربي واحد، كسورية مثلا، خارج السلام المنشود سيوفر أرضاً خصبةً لتحريك مشاعر الجمهور العربي والإسلامي ضد السلام المتحقق. كان الإسرائيليون هم الذين يطالبون بمثل هذا السلام الشامل. لكنْ لأنّ حكوماتهم، وخاصة اليمينية، أرادت الاستفراد بالفلسطينيين في ظل ميزان قوى مختل لصالحهم، فقد أصروا على مناقشة قضايا الحل الدائم القدس، اللاجئون، الحدود، المستوطنات مع الفلسطينيين وحدهم، لفرض شروط قاسية عليهم. ويعبر ذلك عن قصر نظر سياسي من النخبة الحاكمة في إسرائيل، لأن السلام الذي يدوم لأجيال وأجيال هو الذي يعكس توازن المصالح، لا توازن القوى، وهو الذي يحقق العدل الممكن ولا يكون مفروضاً بتفوق القوى العسكرية. ومن المؤكد أن مصلحة المواطن الإسرائيلي العادي في أن يكون هناك سلام عربي إسرائيلي شامل يخوله الذهاب بحرية إلى أي بلد عربي، ويشعر معه أن مرحلة الصراع مع العرب انتهت، مرة واحدة وللأبد. ومن مصلحة الفلسطيني العادي أن يقف معه العرب ويفاوضوا معه على الطاولة، بكل ما لديهم من أوراق قوة سياسية وعسكرية وإستراتيجية، حتى يحصل على سلام بشروط معقولة. كما أن السلام العربي الإسرائيلي الشامل يغلق المجال أمام اتهام الفلسطينيين بأنهم انفردوا في حلّ قضية ذات طابع عربي، ولن يكون هناك مجال لاتهامهم بالإنفراد والاستفراد، كما قيل في أوساط رسمية وشعبية عربية بعد أوسلو. لقد تقدم العرب بمبادرة سلام كانت الأولى من نوعها، في قمة فاس الثانية عام 1982، بعد خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان صيف ذاك العام، وقد ردّ إسحق شامير الذي كان رئيساً للوزراء في إسرائيل آنذاك، ليس فقط برفض مبادرة السلام العربية ذات النقاط الثماني والتي تعترف بإسرائيل من حيث الجوهر ولأول مرة، بل دعا لبناء ثماني مستوطنات جديدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة. فكل بند في المبادرة رُد عليه ببناء مستوطنة جديدة، وقد نفّذ ذلك بالفعل. مبادرة السلام الأولى عام 1982 كانت قد ظهرت للنور بعد أن فشل العرب في دعم الفلسطينيين عشية الاجتياح الإسرائيلي للبنان، بقيادة شارون وزير الدفاع آنذاك، حيث لم يستطيعوا أن يقدموا لهم سوى الخطابات وعبارات التضامن اللفظي. وتجيء المبادرة العربية التي أقرتها القمة العربية في بيروت، بعد وضع مماثل، حيث عجز العرب عن دعم الفلسطينيين في انتفاضتهم الحالية، دعماً يُحدث تغييراً في موازين القوى، ويتخطى علاج الجرحى ودفع التبرعات. لقد أخطأ الفلسطينيون حين رضخوا لسياسة حماس والجهاد الإسلامي بإطلاق العمل المسلح في مواجهة خصم متفوق عسكرياً وبشكل غير مسبوق، وأخطأوا حين افترضوا أن العرب ربما قاموا بإجراءات معينة تصل الى حدود قطع العلاقات مع إسرائيل، والاستعداد لمواجهة عسكرية ولو محدودة. لهذا اتجه العرب نحو ما كان يجب عليهم أن يتجهوا نحوه منذ البداية، وهو إطلاق مبادرة عربية لحل شامل للصراع تقوم أساساً على انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية والفلسطينية المحتلة، وقيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس، وحل عادل لمشكلة اللاجئين على قاعدة الشرعية الدولية، مقابل تطبيع عربي شامل مع الدولة العبرية. والتقط الجمهور الإسرائيلي هذا الموقف العربي الجديد الذي وصل الى حد القبول بالتطبيع العربي الجماعي، والتقط وجود إجماع على المبادرة من كافة الدول العربية، بما في ذلك سورية ولبنان وليبيا والسودان وعراق صدام حسين آنذاك، ولهذا أيّد 59 في المئة من الجمهور الإسرائيلي في أول استطلاع للرأي العام بعد قمة بيروت، المبادرة العربية الجديدة. وتحّرك المتطرفون لدينا ولديهم على حّد سواء، لقتل المبادرة في مهدها. قامت حركة حماس بعد ساعات من إعلان المبادرة العربية بعملية فندق بارك في ناتانيا ليلة الاحتفال برأس السنة العبرية وسقط قتلى وجرحى. واستثمر شارون الحادث الفظيع للقيام بحملة عسكرية غير مسبوقة، لقطع الطريق على أي حديث في سلام يقوم على قاعدة المبادرة العربية. وتوالت أعمال العنف، والقتل والقتل المضاد، وازدهرت نوازع الثأر والانتقام وتوقف الحديث في المبادرة العربية. وجاءت خريطة الطريق في نهاية المطاف، والتي تمثل موقفاً دولياً إجماعياً لتشير إلى المبادرة العربية كأحد مرجعياتها، إذ جاء حرفياً في نص خريطة الطريق: "ستأخذ التسوية بالاعتبار الخاص الأهمّية المتواصلة للمبادرة العربية التي تم تبنّيها من قّبل القمة العربية في بيروت، وهي جزء أساسي من الجهود الدولية الهادفة لتحقيق سلام شامل على جميع المسارات، بما في ذلك المساران السوري واللبناني". فالمبادرة العربية تمثل بعض التفاصيل الضرورية للمرحلة الثالثة من مراحل خريطة الطريق، والتي جاءت على شكل عناوين عامة، إذ تكمّلها ولا تتعارض معها. وتؤكد المبادرة على قيام علاقات تطبيع مع إسرائيل، وهذا بحد ذاته يوفر حافزاً قوياً لإسرائيل للتمسك بالمبادرة. لكن حكومة التطرف في تل أبيب ليست معنية، كما يبدو، بحل شامل متوازن، رغم أن استطلاعات الرأي تشير إلى وجود أغلبية في الجمهورين الإسرائيلي والفلسطيني تؤيد المبادرة. ففي استطلاع مركز البحوث والدراسات الفلسطينية بعد المبادرة بأسابيع أيد 75 في المئة من الذين جرى استطلاع رأيهم المبادرة العربية. وذلك يستدعي في مرحلة معينة من مراحل تطبيق خريطة الطريق والمبادرة العربية، العودة لإجراء انتخابات شاملة في إسرائيل، وكذلك في الأراضي الفلسطينية. إن "وثيقة سويسرا" الذي يتحدثون عنها، والتي جرى توقيعها مؤخراً بالأحرف الأولى في فندق "موفنبيك" على شواطئ البحر الميت، بين يساريين إسرائيليين وفلسطينيين، لحل شامل لكافة قضايا الصراع، يشير بوضوح إلى أن المبادرة العربية إحدى مرجعيات مذكرة التفاهم. ولهذا فالقمة العربية القادمة، مطالبة بتفعيل مبادرتها عبر خطوات عملية مثل البدء بتشكيل وفد عربي للتفاوض، لإحراج الطرف الآخر الذي سيرفض الأمر بالتأكيد، مما يُسَرّع في التفاعلات الواسعة داخل المجتمع الإسرائيلي. وإذا سقط شارون وصعدت قوى سلام، بعد فشل خرافة "ما لم يتحقق بالقوة، يتحقق بمزيد من القوة"، فإن ذلك سيؤثر حتماً على الجمهور الفلسطيني، الذي سيدفع بقوى التطرف نحو الخلف. ومن الآن وإلى أن يحدث ذلك، مطلوب من المؤسسات والقوى الدولية، الرسمية وغير الحكومية على حدّ سواء، دعم الاعتدال الفلسطيني والعربي بقوة أكبر وعزيمة أشد. - مدير مركز جنين للدراسات الاستراتيجية وعضو المجلس الوطني الفلسطيني. وهذا المقال جزء من سلسلة مقالات عن "مبادرة السلام العربية" تنشر بالتعاون مع خدمة Common Ground الإخبارية.