أجمع كل المسؤولين العرب الذين تحدثت اليهم هذا الاسبوع في بيروت بمناسبة انعقاد مؤتمر القمة العربية، على أمر واحد: رئيس وزراء اسرائيل أرييل شارون ليس شريكاً في صنع السلام. ان سجله الطويل الحافل بقتل العرب لا يؤهله لأن يكون محاوراً مقبولاً. وهناك قناعة تامة لدى الجميع بأن شارون قد استنفد كل خياراته. ولا يوجد زعيم عربي واحد على استعداد للتحدث اليه، أو التعامل معه. لقد آن الأوان لإسقاطه وازاحته عن دفة الحكم. ولكن السؤال المطروح هو: كيف؟ العرب مُجمعون على هذا الأمر، لكنهم مختلفون حول كيفية تحقيقه: فهم يقرون باستحالة التوصل الى تسوية للصراع العربي - الاسرائيلي اذا لم ينجح الاسرائيليون انفسهم في التخلص من شارون، ومن المتطرفين المنادين ب"إسرائيل الكبرى"، الذين يُمسكون بزمام الحكم حالياً في اسرائيل، واذا لم ينتخبوا حكومة جديدة على استعداد "لصنع السلام" مع العرب. ولكن كيف يمكن إحداث مثل هذا التغيير في التفكير الاسرائيلي وفي آليات الانتخاب الاسرائيلية؟ خطة سلام أم انتفاضة اكثر عنفاً يعتقد بعض العرب انه يمكن تحقيق هذا التغيير بالوسائل السلمية، فيما يعتقد بعضهم الآخر ان انتفاضة اكثر عنفاً هي وحدها القادرة على اقناع الاسرائيليين ان محاولة شارون الاجرامية في تحطيم المقاومة الفلسطينية ستبوء بالفشل الذريع، وانها لن تجلب الى اسرائيل ذاتها إلا المزيد من الآلام والمصائب. هذا هو الموضوع الذي يُقسم الزعامات العربية ويشطر الرأي العام العربي. لقد تبنت القمة العربية خطة السلام الشجاعة التي طرحها ولي عهد المملكة العربية السعودية الأمير عبدالله بن عد العزيز، التي تعد اسرائيل بالسلام والعلاقات الطبيعية مع كل العرب في مقابل الانسحاب الكامل من الأراضي العربية المحتلة منذ عام 1967. ويؤكد مناصرو الوسائل السلمية ان هذه الخطة هي أحسن وسيلة لإحداث التغيير المنشود في الرأي العام الاسرائيلي، ويصفون الخطة ب"تمرين ناجع في العلاقات العامة السياسية"، ويؤكدون ان العرب، بتدخلهم المباشر في النقاش الداخلي الذي يدور في اسرائيل حالياً، قد ينجحون في جر انصار الوسط ويمين الوسط من الرأي العام الاسرائيلي الى معسكر السلام. انهم يتوجهون، في دعوتهم، الى الاسرائيليين الذين بدأوا يشككون في رغبة جيرانهم العرب بالتعايش السلمي معهم. وهناك شعور عام لدى هؤلاء بأن الخطة المطروحة هي الطريق الوحيد الذي سيشجع الاسرائيليين، الذين أصابهم الهلع والذعر من تكاثر العمليات الانتحارية، على تشكيل ائتلاف اسرائيلي واسع من أجل السلام. لقد أظهرت استطلاعات الرأي العام ان هذه الشريحة، التي تريد ان يتوقف العنف، تكتشف اليوم ان شارون يقودها الى الخراب والدمار. وبطبيعة الحال، لا تطمح خطة الأمير عبدالله للسلام الى ان تكون وثيقة اساسية في المفاوضات، ولا ان تضع حلولاً تفصيلية لكل الاشكالات المعقدة للصراع. فهذه أمور سيبت فيها لاحقاً. ان قوة هذه الخطة متأتية من بساطتها ومن شخصية الأمير الذي يطرحها، وسمعته الرفيعة - وهو المعروف باستقامته وميوله القومية العربية - ومتأتية ايضاً من كونها مدعومة من الجسم الديني والسياسي والمالي في المملكة العربية السعودية، وتعبر فوق هذا كله، عن الارادة الجماعية للحكومات العربية. ويؤمل بأن يتبنى مجلس الأمن هذه الخطة وتنال تأييد المجتمع الدولي، ومن المتوقع أيضاً ان يمنحها الرئيس جورج بوش شخصياً دعمه القوي حينما يقوم الأمير عبدالله بزيارة مزرعة عائلة بوش في تكساس في شهر نيسان ابريل المقبل. وستحدث الخطة قوة دفع وزخم لا يمكن ايقافها، أو الحيلولة دون انتشارها. وهذا الأمر سيرغم - كما يقال - حزب العمل الاسرائيلي على الانسحاب من حكومة "الوحدة الوطنية" التي يرأسها شارون وسيؤدي الى سقوطها. واذا ما جرت انتخابات جديدة فسيتعين على الاسرائيليين التصويت على أحد خيارين: اما لصالح ائتلاف جديد مناصر للسلام ومدعوم من المجتمع الدولي بأسره، واما لصالح زعيم متطرف من طراز بنيامين نتانياهو، وهو يتزعم حالياً جناحاً يمينياً اكثر تطرفاً من شارون، لا يمكن ان يعد الاسرائيليين إلا بالمزيد من الدمار والدموع. وهناك الكثير من العرب - في الشارع العربي، وبين صفوف جماعات ناشطة في حماس أو حزب الله - يشككون في استراتيجية السلام هذه. ويذهب هؤلاء الى ان اسرائيل ليست جاهزة للسلام بعد. وهم يجاهرون بأن الوقت مناسب لمضاعفة الضغط المادي والعسكري بدلاً من السعي الى التطبيع، ويخشون ان يفسر بعض الاسرائيليين خطة السلام العربية على انها دليل ضعف وعجز. ومن هذا المنطلق، فإن الخطة، عوضاً عن اسقاط شارون، ستساعد على انقاذه ودعمه. ومثل هؤلاء المتشددين يؤمنون ان الضربات الموجعة وحدها، لا مبادرات السلام، هي التي سترغم اسرائيل على الاذعان وقبول الجلوس الى طاولة المفاوضات. انهم يكررون ان ليس لدى الفلسطينيين ما يخسرونه، في حين ان الخسارة كلها ستكون من نصيب الاسرائيليين. وعلى هذا، فإن الاسرائيليين اكثر استعداداً للاستسلام والرضوخ من الفلسطينيين. المعنى الحقيقي للانتفاضة يقول الذين يدافعون عن وجهة النظر هذه ان الاسرائيليين لم يفهموا حق الفهم المغزى الحقيقي للانتفاضة، أي هزيمة خيار اسرائيل في تغليب الأمن على الحل السياسي. في حين ان ارادة الفلسطينيين في المقاومة بقيت قوية، ولم يطرأ عليها اي وهن. وبكلمات أخرى: ان سياسة ياسر عرفات القائمة على قبول التعرض للمخاطر الكبيرة في مواجهة قوة اسرائيل العسكرية الطاغية هي سياسة ناجحة. لقد خُيل لليمين الاسرائيلي المتطرف ان شارون حينما صعّد ضعوطه وبدأ يقتل الناشطين الفلسطينيين ويحاصر السكان الفلسطينيين ويستخدم طائرات "اف 16" و"الأباتشي" ضد المؤسسات الفلسطينية ويتوغل في مخيمات اللاجئين، سيقوض باجراءاته هذه السلطة الوطنية الفلسطينية، وستفقد سيطرتها على الأرض والناس. وقد أيدت بعض الحكومات العربية هذا التحليل، بالإضافة الى الرأي العام الغربي. ولكن، وخلافاً لكل التوقعات، وعلى رغم الكوارث والخسائر الرهيبة في الأرواح والممتلكات، صمد الفلسطينيون وردوا الصاع صاعين. واليوم، ترتفع أصوات الفلسطينيين والعرب المتشددين لتعكس ترحيبها بآخر تهديد اسرائيلي مُعلن، أي بإعادة احتلال كل مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية واخضاع كل السكان الفلسطينيين باستخدام القوة العسكرية الوحشية. وحجة هؤلاء ان المقاومة المسلحة الفلسطينية الصامدة والصلبة ستكون فعالة، وستفهم الاسرائيليين، مرة والى الأبد، ان القوة العسكرية السافرة لن تؤمن الأمن والسلام لاسرائيل، وان المزاج الفلسطيني الراهن في الأرض المحتلة هو في صالح القتال والمقاومة والتصعيد. وهناك بعد آخر في هذا النقاش، فكما ان الانتفاضة قد أضعفت معسكر السلام في اسرائيل، كذلك عمليات القمع التي مارسها شارون في الأشهر الأخيرة اقنعت الكثير من الشباب العربي ان السلام مع اسرائيل "المعتدية والمغتصبة" ليس ممكناً. لقد دمر شارون الايمان بالسلام عند جيل كامل من الشباب العرب الذين ولدوا بعد عام 1973، ممن لم يعرفوا الحرب، ولم يترعرعوا في مناخات السلام، فأصبحوا اليوم متطرفين وناشطين وانتحاريين، وهم بحاجة الى الكثير من الجهد لاقناعهم بأن التعايش مع اسرائيل هو خيار معقول أو مقبول. وحتى في معسكر السلام العربي، هناك الكثير ممن يخشون ان يخدم السلام واقامة علاقات طبيعة مع اسرائيل طموحات الطغمة الحاكمة في السيطرة والهيمنة على المنطقة بكاملها، كما ان اقامة علاقات ديبلوماسية وافتتاح السفارات وتشجيع التجارة والسياحة والمشاريع المشتركة والسماح بتنقل السكان والبضائع عبر الحدود قد تكشف ضعف العرب وقوة اسرائيل المتعاظمة. لا يمكن تحقيق سلام دائم مع اسرائيل - بحسب وجهة النظر هذه - الا بعد ان يصبح العرب أقوى عسكرياً واقتصادياً من اسرائيل، وان يكون العرب قادرين على تغليب ميزان القوى لصالحهم وحماية السلام والحد من تغلغل اسرائيل في المجتمع العربي واقتصاده. لقد هيمنت الحوارات والمناقشات حول أفضل الاستراتيجيات في التعامل مع اسرائيل على اجواء مؤتمر القمة والاجتماعات الثنائية المغلقة التي جرت في الاجنحة الخاصة للزعماء العرب. ما السبيل لإرغام شارون على التخلي عن السلطة؟ ما العمل لإيصال ائتلاف يعمل من أجل السلام في اسرائيل؟ ايهما أفضل العصا أم الجزرة؟ ما هو الخيار الصحيح، مشروع سلام عربي أم انتفاضة صامدة؟ هل يتوجب القبول بوقف النار أم الاستمرار في المقاومة؟ أليس القبول بهدنة موقتة هو ضرب من الاستسلام؟ ألا يقامر الزعماء العرب بحماسة شعوبهم الغاضبة والمتوترة بفعل الوحشية الاسرائيلية اذا ما أظهروا الكثير من التسامح والليونة؟ المناقشات العربية المألوفة طغت على السطح، أثناء هذا كله، التوترات والمشاحنات بين الزعماء العرب في بيروت، ولم يستنكفوا عن ممارسة مناوراتهم المألوفة تحت أضواء مؤتمر القمة. لقد تبنوا مبادرة الأمير عبدالله السلمية. ولكن بعضهم فعل هذا بحماسة أقل من البعض الآخر. قرر الرئيس حسني مبارك ان يغيب عن القمة، متذرعاً ب"ارتباطات داخلية" وأرسل رئيس وزرائه بدلاً منه، وزعم بعض المراقبين انه كان حريصاً على اظهار "انزعاجه" لأنه لم يستشر قبل الاعلان عن مبادرة الأمير عبدالله، لأنه لا يقبل ان تنزع عن مصر زعامتها الاقليمية. وكان يفضل، بلا شك، لو ان الأمير عبدالله اطلق مبادرته من القاهرة. وفي المقابل، كان الأردن نشيطاً جداً، ولم يأل جهداً للمضي قدماً في دفع المبادرة الى الامام. كانت عمان متلهفة جداً لوضع حد للعنف بين الفلسطينيين والاسرائيليين، قناعة منها بأن هذا العنف قد يشيع عدم الاستقرار في المجتمع الأردني ذاته. لقد قرر الملك عبدالله الثاني، ولأسباب مجهولة لم تعلن، ان يتغيب عن القمة. اما سورية فقد دافعت، كالعادة، عن موقفها المتشدد، وطالبت بإنهاء الاحتلال وانسحاب اسرائيل من الأراضي العربية المحتلة حتى حدود الرابع من حزيران 1967، وبحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة الى وطنهم. ويحظى موضوع عودة اللاجئين باهتمام خاص في لبنان الذي يستضيف على أرضه ما لا يقل عن 300 ألف لاجئ فلسطيني. وهناك شعور عام في العالم العربي، بدا جلياً في مؤتمر القمة، ان أيام شارون كرئيس للوزراء باتت معدودة. فقد أخفق اخفاقاً ذريعاً ولن يستطيع ان يجنح اكثر الى اليمين، ولا ان يحصل على تأييد اليسار. وقد اظهرت استطلاعات الرأي العام في اسرائيل ان شعبيته تتداعى، وهو يترنح وكأنه ثور جريح. على أية حال، يدرك الزعماء العرب ان شارون مغامر، وانه حينما يُحشر في الزاوية يعرف كيف يكون خطراً للغاية، وقد يخطر له بدلاً من مغادرة المسرح بهدوء ان يندفع وراء اعدائه العرب - كما فعل هذا طوال حياته - في محاولة إجرامية لتحقيق أوهام جغرافية - استراتيجية طموحة. وبيروت تعرف، من تجربتها المريرة معه، الى أي مدى يمكن ان يذهب في تنفيذ مشاريعه التدميرية المجنونة. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الأوسط.