كنت في صيف سنة 1969، على الأغلب منتصف تموز يوليو، أصل من مدينتي الساحلية الجنوبية الدار البيضاء الى طنجة، التي نسميها، نحن المغاربة، عروس الشمال. كانت المدينة المشرفة على بوغاز جبل طارق، على أوروبا، آنذاك أبهى حاضرة صيفية في المغرب، تقصدها للاصطياف بعض العائلات الموسرة من مدينة فاس بخاصة، وكثير من أبناء الطبقة الوسطى يقضون قرابة شهر في ضفافها وأسواقها الى جانب سكانها المقيمين، سواء من المدينيين الأصليين أو من النازحين اليها من الجبال والأرياف المحيطة وهم كثرة. طنجة هي المدينة الكوسموبوليتية، الدولية التي تقاسمتها الحمايات الدولية، أي لم تخضع للاستعمار الفرنسي ولا الاسباني، فعاشت منطقة حرة يتوافد عليها السياسيون والمهربون والفنانون والكتّاب من كل مناطق العالم، عابرين ومقيمين، لينغمروا في الحرية والحياة واللون والضوء، والجنس والمخدرات أيضاً. في هذه المدينة التي كانت كثرة، بشراً وثقافة وسلوكاً، حللت ذلك الصيف وأنا في عنفوان شبابي. ولأمر ما قصدت المنطقة المسماة "السوق الداخل"، في الحي العتيق عبر الأزقة والمنحدرات الضيقة، وعلى لساني اسم مكان لا أعرفه، أعني مقهى "سنترال" حيث قيل لي انه يواظب على الجلوس، أعني محمد شكري، لا أحد غيره، في وقت لم يكن لهذا الاسم أية إشارة. في الظهيرة، لا شك، وقيظ تموز يهبط قطعاً صماء على باحة السوق الداخل قبالة "سنترال" التي دخلت معروفاً فلا أحتاج الى أن أجيل الطرف طويلاً، إذ وجدت ضالتي في مرمى البصر، خلف منضدة تتوسط القاعة في جانبها الأيسر تراكمت الكتب على ارتفاع يكاد يعادل متراً، وخلفها جلس شخص نحيل، صغير الوجه، ببغاوي الأنف، متوسط القامة، عيناه غارقتان في كتاب أمامه والى جانبه الأيمن كأس شبري من الشاي بالنعناع. قدمت له نفسي باسم بعض نصوص أولى نشرتها في جريدة "العلم" الرباطية، قال ان محمد زفزاف حدثني، أيضاً، عنك وأنكما تلتقيان في حي المعاريف بالدار البيضاء، وأضاف، وهو يعني الكاتب الكبير، من سيصبح بعد سنوات أهم كاتب قصة قصيرة في المغرب وخارجه، انه هنا في طنجة. كنت أعرف أنه يخبط هنا خبط عشواء قبل أن نعبر سوياً أو فرادى الى الضفة الأخرى باحثين عن البهجة والمتعة في طوري مولينوس الاسبانية. التقينا في مساء اليوم نفسه، زفزاف وشكري وكاتب هذه السطور. بعد أن تعشينا وعبثنا قدر المستطاع أوينا الى بيت "لمسيخط" أي الشقي، هكذا يسمي نفسه بعض الوقت، ويوقع لي كتبه لاحقاً. غرفة بمطبخ تطل على شارع صخب، والوقت منتصف الليل من طنجة التي لا تنام في الصيف، وهو أخرج لفافة أوراق واستلقى أرضاً متكئاً على كوعيه وطفق يقرأ: أوراق أولى من مسرحية سماها "السعادة" ستنشر متأخرة في 1994، من دون ادعاءات الكاتب. هو نفسه لم يكن مقتنعاً بشيء. كان همّه الأول أن يقرأ كثيراً، كثيراً من الروايات العربية والمترجمة، وأن يستدرك الزمن الضائع من انسان لم يلتحق بالمدرسة إلا وقد دخل طور المراهقة، ثم وجد نفسه معلماً للصفوف الابتدائية من دون أي اقتناع. يحصل الى راتب زهيد. لا يكاد يعيش. لا يكاد ينام. يمارس حياة الشطار في الرواية الإسبانية الكلاسيكية. الليل لجسده والنهار للقراءة وبعض كتابة لم يكن زفزاف يحفل بها كثيراً، وهو المشتهر مبكراً بمقالاته في "العلم" وقصصه في المغرب والمشرق. سأصعد كل صيف الى طنجة، وشكري سيتحول تدريجاً الى قطب الرحى في بشريتها وأجوائها الصاخبة والمختلطة والليلية بخاصة. سنغزو طنجة من جميع النواحي، وحين يودعني أمام فندقي يذهب في غبش الفجر الى لقاء علاقات أخرى تخيفني، في الشاطئ والحواري الغامضة. وفي أول الصباح تسترجعه كتبه في مقهى سنترال، وبريده ظهراً في مقهى "الرقاصة" أو غداء متقطع عند حافة السوق، قريباً من البحر، تقدمه سمكاً مقلياً تلك الإسبانية التي وعدها بأن يبني لها قصراً حين يصبح كاتباً مشهوراً وغنياً. منذ الأصياف الأولى للسبعينات بدا شكري، وقد عوّل على شيء. ها هو ينشر نصوصه في جريدة "العلم" بفضل صحافيها الأول وأديبها عبدالجبار السحيمي، وها هو يتحول الى محج في طنجة. فالزعيم الوطني الكبير للمغرب المرحوم علال الفاسي، يحضره اليه كلما حل بعروس الشمال، والكتاب الأجانب المغتربون تنيسي وليامز، جان جنيه من بين العشرات سيغدون أصدقاء له وهو من مرافقيهم، ومجلة "الآداب" البيروتية ستنشر له قصة رائدة "العنف على الشاطئ"، وللناقد الأدبي محمد برادة أكثر من يد بيضاء على من سيعرف، بعد هزات وضنك وحياة شطارية حقيقية، كيف ينتقل من الصعلكة واللاجدوى الى الإقامة الراسخة والباذخة في عالم الأدب، عالم الكتابة مطلقاً، وهذا هو شكري الآخر والأبقى. من مفارقات شخصية أديبنا الراحل طريّاً أن يعرفه الأجانب قبل مواطنيه وربما ذلك حظه أيضاً. ومن مفارقاته كذلك ان عناده سيحوله من وضع الحكواتي الشفوي الى الكاتب الذي يستخدم اللغة والقلم ليقص ذاته في الحياة. علم أجنبي بارز سيدشن خط التحول في حياة هذا الشاب المعلم المتعطش للقراءة والعيش بكرامة: انه الكاتب والموسيقي الأميركي بول بوولز، الذي أقام في طنجة منذ نهاية الحرب الثانية، وانشغل بعد أدبه، بتسجيل محكيات رواة شفويين تزخر بهم هذه المدينة، وهم أميّون وفتوات، أشهرهم الشرادي الذي صدرت له قصة شهيرة بالانكليزية والفرنسية "حياة مملوءة بالثقوب". سيتردد شكري كثيراً على بوولز في اقامته الطنجاوية، وسيستمع الى شذرات من حياته يرويها له مقطعة: طفولة في تطوان، علاقته بأبيه، بأمه وأخوته، هجرته الى الجزائر، عودته الى تطوان، ظروف العيش والفقر الطاحنة في تطوان، حياة الصعلكة والتشرد، قسوة الأب الفظيعة، صفحات ومشاهد من مغامرات الأطفال المشردين، المرميين في عالم تجار المخدرات والرذيلة. يقول شكري رحمه الله ان بول بوولز سأله لماذا لا يدون هذه الحياة، وطلب منه رأيه في نقلها الى الانكليزية، فأجابه على الفور بأنها جاهزة، وبالموافقة، واتفقا على اللقاء يومياً تقريباً. ويضيف صديقنا الراحل انه لم يكن في الحقيقة كتب شيئاً مما سيصبح سيرته الذاتية، وانه يحرر كل ليلة ما سيأخذ في الصباح الى المترجم الأميركي، والذي يستمع ويدوّن ويستخدم آلة التسجيل، وينتهي العمل بصدور كتاب "من أجل الخبز وحده"، فهذا هو العنوان الأصلي للسيرة الذاتية كما ستصدر للمرة الأولى بالانكليزية في نهاية السبعينات، وقد رجحت دائماً انها سيرة شفوية، فبوولز لا يعرف الفصحى من ناحية، وشكري لم يكن يعير كبير اهتمام لما يسميه ب"جمال التعبير المحض" من ناحية أخرى. حين ستصدر السيرة بعد ذلك الى الفرنسية عند ماسبيرو بباريس بترجمة للطاهر بن جلون، الذي ليس فحلاً قط في العربية، فإنها عندئذ ستحمل عنوان Le pain nu أي "الخبز الحافي"، العنوان الذي سيستقر عليه الكتاب في جميع الطبعات واللغات الأجنبية الكثيرة التي سينقل اليها عن الانكليزية أو الفرنسية دائماً، وليس عن العربية التي ستظهر في السوق للمرة الأولى بالدار البيضاء سنة 1983، ثم تسقط سنوات تحت طائلة المنع قرار تعسفي غير مكتوب لوزارة الداخلية بتحريض من جماعة من فقهاء ورجال الدين في طنجة رأوا في الرواية ما وصفوه بالدعوة الى الفساد، وانتهاك الأخلاق، واعتماد الجنس الفاحش الخ...، ما سيمنحها شهرة واسعة، فتطبع مرات في المغرب والمشرق وتصبح عنواناً على صاحبها، من جميع النواحي. والحق ان ما أريد له أن يكون بيضة الديك في مسيرة الراحل شكري الأدبية يكاد يخفي أعماله القصصية والسيرية الأخرى، نرى في مقدمها قصصه الجيدة المنشورة في دار الآداب في مجموعة "مجنون الورد" 1979، ثم مجموعته القصصية الثانية "الخيمة"، الدار البيضاء 1985 لتلتحق تباعاً بأعماله: "السوق الداخلي" رواية - الدار البيضاء 1985، "زمن الأخطاء" سيرة ذاتية روائية، 1992 - الرباط ثم الجزء الثاني من "زمن الأخطاء"، اضافة الى المذكرات التي كتبها عن معايشاته لعدد من الأدباء المشاهير في العالم من رواد طنجة. فهل كان ظلماً أن تغطي "الخبز الحافي" القامة الأدبية لصاحبها بأكمله؟ لم أعرف عن هذا الكاتب الفريد أنه انزعج يوماً من مثل هذا الطغيان، لا لأنه خدمه إعلامياً، كما يزعم البعض، وهو واقع على كل حال، ولكن لأن النص المعين يمثل بالفعل بؤرة وخزان تجربة شكري، ومنطلق بقية نصوصه الأخرى" فبواسطته استطاع أن يعيد تأسيس ذاته، وصنع مصيره أو صوغه بالكلمات، حتى وان أشاح عن التعبير جمالياً. هو لم يقصد الأدب، أو يدخله من مسالكه المعتادة، تعليماً وتثقيفاً وموهبة مشحوذة، واندراجاً في تيار أو سياق بعينهما، أو طموحاً لإدراك مجد ما، كلا، بتاتاً، لم يحسب حساب الأدباء، لا الواقعيين الملتزمين، ولا الجماليين والحالمين. سرد تاريخه الشخصي والعائلي والاجتماعي بذاكرة تشتغل وتشتعل بالحواس. قال ووصف وعرى المعلن والمكبوت والمسكوت عنه مفجراً مشهدية جديدة. قديمة في المحكي الأدبي العربي، يهم صاحبها الانتماء الحميمي الى الحياة بالدرجة الأولى أكثر من الانتماء الى ما يسمى عالم الأدب، أما التجنيسات على أغلفة كتبه رواية - قصة - سيرة ذاتية روائية فهي توصيفات على الأغلب قبلية واعتباطية. لم يعش محمد شكري مثل جميع الناس واستطاع بعصامية فذة أن ينتزع نصيبه من الحياة ويقدم بتميز نصيبه من الكتابة. ولم يمت مثل جميع الناس، فالمرض العضال هزمه في الوقت الذي بدا انه يرسو الى بر الأمان.