David Cole. Enemy Aliens: Double Standards and Constitutional Freedoms. أجانب أعداء: إزدواجية المعايير والحريات الدستورية. The New Press, London. 2003. 336 pages. الأميركيون ليسوا، على ما يبدو لنا، من كبار المؤمنين بحكمة "ليس هذا وقته!" هذه الحكمة التي غالباً ما تُستخدم في أوساطنا السياسية والثقافية لحظر أي نقد ذاتي او تحفظ تجاه ما يبدر عنا، ضد بعضنا البعض وضد الآخرين، بذريعة أننا نواجه "عدواناً شرساً" او نخوض "معركة المصير" او سوى ذلك من ذرائع سئمتها النفوس. فالأميركيون، وخاصة ممن يحرصون على الحقوق الدستورية والحريات المدنية، لا يؤمنون بأن مطلب الأمن، حتى في ظل خطر عمليات إرهابية ماثل، يُبطل الحرص على الدستور والمؤسسات القانونية والمدنية. وعلى ما يتضح من سيل الكتب والمقالات التي نُشرت منذ سارعت الإدارة الأميركية الى حمل مجلس الشيوخ على الإقرار ب"المرسوم الوطني" الصادر عشية إعتداء 11/9، فإن حالة الذعر التي أصابت الأميركيين والفورة الوطنية التي شملتهم نتيجة الإعتداء المذكور، لم تشغلهم، او على الأقل البعض منهم، عن حقيقة خطر المعايير القانونية والإجراءات الأمنية التي سعت الإدارة الأميركية الى فرض شرعيتّها. فما كان في وسع العديد من الأكاديميين والمثقفين والصحافيين ورجال القانون والمنظمات المعنية باحترام الدستور والحقوق المدنية، السكوت عما يسوّغ "المرسوم الوطني"، من صلاحيات واسعة، وغير مسبوقة، للسلطة التنفيذية، اي الإدارة الأميركية ومنفذي سياستها الأمنية والقضائية. فمن بند يُعرّف الإرهاب تعريفاً فضفاضاً وغائماً، بحيث قد يشمل بعض أشكال الإحتجاج المدني، الى فقرة تقضي بحق الإطلاع على سجلات شخصية وعامة لأي شخص، يخوّل المرسوم رجال الأمن الفيدرالي حق مراقبة وملاحقة المواطنين، على نطاق واسع، وغالباً من دون إذن قضائي مُسبق. وبموجب هذا المرسوم صار في وسع عملاء الإدارة الفيدرالية الدخول الى مكتبة عامة والإطلاع على سجلاتها بغية معرفة ما يقرأه هذا المواطن او ذاك. لكن حقيقة ما ينطوي عليه المرسوم تتجلى على نحو أبرز من خلال البنود والفقرات المعنية بكيفيّة التعامل مع غير الأميركيين. فحيث صار من حق رجل الأمن اعتقال المهاجرين والأجانب واحتجازهم لمدة غير محدودة، من دون اتهامهم او السماح لهم بتمثيل قانوني، فإن الخطر الفوّري والملموس سرعان ما تجلى من خلال حملات اعتقال شملت، حتى الآن، خمسة الآف شخص جلّهم من العرب والمسلمين، بعضهم احتُجز لمدة طويلة وفي ظروف سرية، وعومل بفظاظة من قبل القائمين على إدارة السجن، بل حيل بينهم وبين الإتصال بذويهم وإبلاغهم بمصائرهم. هذا الانتهاك السافر لحقوق المقيمين في الولاياتالمتحدة، معطوفاً على تنامي القلق تجاه طبيعة الوضع القانوني او بالأحرى "غير القانوني" لسجناء معسكر "خليج غوانتنامو"، جعل الحريصين على حماية الدستور الأميركي والمعنيين بحقوق الإنسان يدركون أن الإرهاب ليس الخطر الوحيد الذي يحيق بالمجتمع الأميركي، وإنما ايضاً المعايير القانونية والإجراءات الأمنية التي جعلت الإدارة الأميركية تتوسلها، حتى وإن لم يطاول خطرها سوى الأقلية الأميركية المسلمة والأجانب. وعلى ما يجادل ديفيد كول، مؤلف الكتاب، فإن هذه الإجراءات والمعايير قد تمتعت، خاصة بُعيد الإعتداء الإرهابي، بتأييد أكثرية الأميركيين لإنها استوت أصلاً على الإزدواجية. غير أن هذه الإزدواجية لا يمكن أن تكفل، على المدى الطويل، حرية الأكثرية، على ما يتضح من الإيحاءات البعيدة والدلائل القريبة. المؤلف أكاديمي قانوني وخبير في شؤون الحقوق الدستورية، فضلاً على أنه محام متخصص في قضايا المهاجرين. وهو إذ ينطلق من مناقشة الوضع القانوني المزري لكل من المقيمين في الولاياتالمتحدة، خاصة من تعرضوا للاعتقال والاحتجاز، وسجناء غوانتنامو، فلكي بيّن أن ما هو مخالف للشرائع الدولية والأعراف الأخلاقية لا بد وأن يضرّ بالمصلحة الوطنية، سواء على شكل إساءة لصورة المجتمع الأميركي في العالم، او من خلال اتساع هوية المستهدفين بحيث تشمل أولئك الذين يظنون أنهم في منأى من الإجراءات الأمنية والقانونية الراهنة. فعشرات الذين تعرّضوا للاحتجاز المديد، في غضون العامين الماضيين، لم تثبت صلتهم بأي نشاط إرهابي، وهم احتُجزوا أصلاً بذريعة مخالفات قانونية عابرة. وفي الحقيقة فإن من بين الآلاف الخمسة الذين تعرضوا للاعتقال والاحتجاز، لم توجّه تهمة الإرهاب إلاّ الى اربعة أشخاص، واحد ثبتت التهمة بحقه، فيما إعترف آخر وأُطلق سراح الآخرين لعدم توافر الأدلة الكافية. ويُعتبر وصم الإدارة لسجناء غوانتنامو "مقاتلين غير شرعيين"، وحرمانهم حق محاكمة مدنية عادلة أو تطبيق الشروط التي تنصّ عليها اتفاقية جنيف بشأن معاملة أسرى الحرب، نموذجاً سافراً لما قد يتعرض له المواطن الأميركي في حال ثبوت تورطه بنشاط إرهابي. وهذا ما تدلّ عليه المعاملة التي تعرض لها المواطنان الأميركيان، جوزيه باديلا وياسر حمدي. فقد إعتُبرا "مقاتلين عدوين" واحتجزا في سجن عسكري فيما حُرما التمثيل القانوني فحوكما من قبل هيئة عسكرية يحق لها الإقرار بإثباتات سريّة أي يمكن أن تكون ملفقّة وباعترافات غير طوعية. والأدهى ان ثمة مسودة مذكرة لإدارة العدل التشريعية توصي بإسقاط جنسية أي مواطن أميركي يدعم منظمات إرهابية، بحسب تصنيف الحكومة، ما يخوّل النائب العام ترحيل مواطنين أميركيين بعد إسقاط الجنسية عنهم. يدرك كول، من خلال معرفته بتاريخ قوانين الهجرة في الولاياتالمتحدة، بأن استخدام هذه القوانين في سبيل احتجاز وقائي أو إعتقال عشوائي ليس بالأمر الجديد في مدار القضاء الأميركي. وهو من خلال دفاعه عن مهاجرين وأجانب أمام المحاكم الأميركية يعلم بأن انحياز القضاء الى جانب السلطة التنفيذية وتحامله تجاه المتهمين لا يعود الى ما بعد 11/9، وإنما الى عقود عديدة ماضية. غير أن هذا لا يعني أن إساءة استخدام قوانين الهجرة لن يتجاوز "التحامل التقليدي" ضد المقيمين في الولاياتالمتحدة من غير الأميركيين. وما يعرض له من تفاصيل تتعلق باحتجاز باديلا وحمدي، حتى وإن كانا متهمين بالارهاب، معطوفاً على احتمال تبني مسودة مذكرة إدارة العدل المذكورة، يدل على أن أي مواطن يُشتبه في دعمه الإرهاب قد يتعرض للترحيل عن بلاده او لمحاكة عسكرية سريّة. لا يحاول الكاتب التقليل من شأن خطر الإرهاب والتهويل من عواقب الإجراءات القانونية الحديثة، غير أنه يخشى أن الإلتزام بسياسة الإزدواجية في المعايير والإجراءات قد يؤدي الى نصر الإرهابيين في الحرب من دون أن يخوضوها. فالازدواجية المعنية إذ تحط من إنسانية المهاجر والأجنبي، بل حتى أسرى الحرب في أفغانستان، فإنها تجعل فكرة الحط من إنسانية أي فرد، أجنبياً كان أم أميركياً، واردة من خلال فبركة المعايير القانونية المطلوبة، شأن اتهام المواطن الأميركي بأنه "مقاتل عدو" او "مقاتل غير شرعيّ"، او من خلال إسقاط جنسيته واعتباره مصدر خطر على البلاد. وهذا خطر لا يمكن إرجاء التحذير منه والركون الى حكمة أن "ليس هذا وقته!"، على ما هو شائع في ديارنا الفقيرة بالحقوق والحريات. لكن هل هذا الفقر إلا عاقبة تلك الحكمة؟