في العام 1995، وبعد صمت استمر طيلة الثلاثة عقود التي تبعت تركه منصبه، فاجأ وزير الدفاع الأميركي الأسبق روبرت مكنمارا العالم بنشر مذكراته/ إعترافاته. وكشفت تلك المذكرات، التي وسمت ب"ان ريتروسبيكت" مراجعة، الكثير من خفايا حرب فيتنام، وتخبط السياسة الأميركية في وحولها. وأعتبرت ما جرى "خطأً فظيعاً"، ما أثار ضجة وجملة انتقادات حول توقيت نشرها وغايتها. وزاد من تسويق المذكرات، كونها أتت من داخل كواليس البنتاغون والبيت الأبيض، ومن مسؤول رفيع شغل حقيبة وزارية مهمة ابان ذروة الحرب الباردة، فضلاً عن القائها الضوء على التوجهات الفكرية والذهنية للفئة الحاكمة الأميركية من البيض آنذاك، والتي أستمدت قوتها من التفوق التكنولوجي والعسكري والاقتصادي. أبرز محاور "ان ريتروسبيكت" وظفها المخرج الأميركي أيرول موريس، صاحب "خط أزرق رفيع"، في شريطه التسجيلي "ضباب الحرب"، الذي عرض أخيراً في مهرجان لندن السينمائي الدولي. وفيه تغطية لحياة تلك الشخصية الخلافية، بدءاً من النشأة والدراسة وصولاً الى السلم الوظيفي. لكن سيرة مثل هذه تبقى سيرة يتدثر في ظلالها ملايين البشر في سعيهم وتدافعهم اليوميين. الا ان الاستثنائي والدرامي في شخصية مكنمارا انها من طينة أخرى، أصطلح حديثاً على تسميتها ب"الصقور". كيف لا وقد ترك هذا الرجل بصماته الدامية على المسرح السياسي العالمي. فقد دشنها بانخراطه في سلاح القوة الجوية خلال الحرب العالمية الثانية، وتوليه في سابقة نادرة شق العرف العائلي ادارة مصانع فورد للسيارات، وصولا الى فصلها قبل الأخير في ورطة الحرب الفيتنامية، ومن ثم تعينيه مديراً للبنك الدولي. نفذ شريط "ضباب الحرب" بطريقة مبتكرة تطرد ملل المشاهدة 106 دقائق، وعبر تقطيعه الى 11 مقطعاً حملت عناوين مختلفة، أستلها المخرج من حديث مكمنارا للكاميرا، وغذاها بأشرطة وثائقية ومكالمات هاتفية تكشف لأول مرة. وأضاف المخرج على هذه المقاطع مفردة "درس" كتورية ذكية لغرض قراءتها بأكثر من مستوى. رمزية هذه الدروس الوصايا تضفي عليها معنى يقع بين الوصايا العشر للسيد المسيح، والمحاكاة للحادي عشر من سبتمبر ايلول من العام 2001. وقد أراد مكنمارا فرصة بوح لتبرئة ساحة وطلب المغفرة، اذ كان يطلب الأجزاء التي سجلها كي يشاهدها ويوافق على مضمونها. ولكن كيف يمكن ضمان براءة شخص خطط لقصف 67 مدينة يابانية في ليلة واحدة، راح ضحيته اكثر من 100 الف شخص في طوكيو وحدها تلك الليلة في آذار مارس 1945. حدث هذا قبل اسقاط القنبلتين الذريتين على مدينتي هيروشيما وناغازاكي. الملفت في هذا الجزء/ الدرس، والذي أطلق عليه "التناسب يجب ان يكون دليل الحرب"، ان مبرر مكنمارا، وبحسب قوله، انه لو لم يتخذ مثل هذا القرار لأتهم، هو ورئيسه كيرتز لي ماي، بأنهما مجرما حرب. اما الدرس المخصص لأزمة الصواريخ الكوبية في العام 1962 وحمل عنوان "تشدد مع الخصم"، فيدور حول حيرة إدارة كنيدي في الإجابة على إشارات الاتحاد السوفياتي المتناقضة. ما حدا بكنيدي الى اتخاذ موقف أكثر ليونة، وجنب العالم حرباً نووية كانت كوبا مرشحة لتكون ساحتها بحسب حديث مكنمارا. فيما يدور درس "ما تراه العين وتسمعه الأذن كثيراً ما يكونان خادعين"، حول هاجس الحرب الباردة الذي كان مسيطراً على عقول اعضاء الإدارة الأميركية التي اعتبرت تدخلها في فيتنام لكبح التوسع الشيوعي في تلك المنطقة. في المقابل كان الفيتناميون ينظرون الى حربهم باعتبارها حرباً أهلية من أجل الاستقلال. ويعترف مكنمارا للكاميرا: "صحيح اننا أقوياء، لكن املاء قوتنا الاقتصادية والعسكرية والسياسية على الآخرين، ومن دون دعم حلفائنا، يفرض علينا إعادة حساباتنا، ولهذا تورطنا في فيتنام". كلام من هذا النوع ينسحب على الحالة الراهنة في العراق، وكأنه يقول ما أشبه اليوم بليلة البارحة. دموع مكنمارا أمام الكاميرا، في أكثر من جزء، لا تغسل خطاياه وذنوبه، ولا تمثل صحوة ضمير، اذ بدت كأنها دموع تماسيح. هل يمكن ان يغفر له الفيتناميون عن الثلاثة ملايين قتيل، والخراب الهائل الذي أصاب بلدهم؟ او الأميركيون عن ال58 الف قتيل ومفقود؟ لكن مكنمارا حاول تبرئة ساحته، محملاً الرئيس جونسون المسؤولية الأخلاقية والمهنية في إطالة أمد الحرب الفيتنامية. ولئن اختتم موريس شريطه بدرس "العقلانية لا تحمينا" وقول مكنمارا "لا يمكن تغيير طبيعة البشر"، فإن رسالته موجهة الى قادة العالم من عسكريين ومدنيين لدراسة هذه الوثيقة. هل يجرؤ وزير الدفاع الحالي دونالد رامسفيلد على مشاهدة هذا الشريط؟ ام علينا الإنتظار لزمن قد يطول.