لا تزال أصداء خطاب الرئيس جورج بوش في 6 نوفمبر تشرين الثاني عن "الديموقراطية" تدور حول العالم، وهي قد أثارت من الحيرة والارتباك مقدار ما أثارت من ردود الفعل السلبية. فماذا عساه يعني حين يقول : "أن الولاياتالمتحدة قد اعتمدت سياسية جديدة قائمة على استراتيجية لنشر الحرية في الشرق الأوسط"؟ هل تنوي الإدارة إعطاء جرعة من الدواء العراقي لدول أخرى في المنطقة؟ أم أن أجندة المحافظين الجدد الرامية إلى إضعاف المنطقة حتى تنسجم مع المطالب الأميركية والإسرائيلية قد منحت عقداً جديداً للحياة؟ وهل على دمشق أو طهران اللتين خصهما بوش بانتقاداته المهينة أن تتحسبا لهجوم مقبل؟ أم أن خطاب بوش ما هو كما وصفه الكثيرون سوى مجرد كلام فارغ يجسد تواضع ذكائه وإفلاس إدارته الأخلاقي والسياسي... ولعل ما يدعو إلى السخرية انتقاد بوش لسورية وإيران ووصفهما بالدول الديكتاتورية المفتقرة إلى الشرعية في حين أن الولاياتالمتحدة هي التي قضت على الديموقراطية السورية الوليدة في الأربعينات حين دفعت الكولونيل حسني الزعيم إلى القيام بانقلاب عسكري عام 1949، وهي أيضاً التي قامت بمساعدة بريطانيا بانقلاب على رئيس الحكومة الإيرانية المنتخب محمد مصدق عام 1953 . وأعادت تنصيب الشاه كألعوبة في يدها. وعبر الأخير عن عرفانه فقال لكرميت روزفلت، رجل المخابرات الأمريكية الذي رتب الانقلاب : "إني مدين بعرشي لله ولشعبي ولجيشي ولك". هذا وقد وافق مجلس الشيوخ بأكثرية ساحقة على قانون محاسبة سورية وسيادة لبنان الذي يفرض على دمشق عقوبات أميركية جديدة ديبلوماسية واقتصادية بسبب دعمها للحركات الفلسطينية المتطرفة ولحركة المقاومة اللبنانية حزب الله. والغرض من هذا القانون الذي دعمه بعض أعضاء الكونغرس الفاسدين وأعضاء اللوبي الإسرائيلي في واشنطن، وساعدهم بعض المتطرفين الموارنة، توجيه رسالة مفادها أن أي مقاومة للعدوان الإسرائيلي هي جريمة. معنى "حرية" بوش ترى أي نوع من "الحرية" ينوي بوش تصديره؟ أهي الحرية التي جاء بها إلى العشرين ألف مدني عراقي الذين قتلوا والعشرين إلى ثلاثين ألف جريح الذين سقطوا منذ اجتياح العراق؟ أن إلى الخمسة آلاف عراقي الذين حشروا في معسكرات اعتقال على أرض وطنهم؟ أم إلى نصف المليون طفل الذين قضوا نتيجة الحصار الذي دام ثلاثة عشر سنة والعقوبات الصارمة التي رافقته؟ أم أنه يعني بالحرية الأذى الفادح الذي لحق بالعراق على صعيدي الصحة والبيئة؟ أم يعني بها الأفغان العاديين - الذين ينعتون بالطالبان - والذين قتلهم الجيش الأميركي خلال تمشيطه لمناطق القبائل على حدود باكستان بحثاً عن أسامة بن لادن ؟ أم أن بوش يريد مزيداً من العرب المسلمين أن ينعموا بالحرية التي يستمتع بها مئات "الإرهابيين المشبوهين" المحجوزين خلافاً للقانون في غوانتانامو منذ سنتين منتهكاً بذلك اتفاقية جنيف؟ أو أنه يعني بالحرية تلك التي تقول الأممالمتحدة أن أربعمئة ألف فلسطيني سيحرمون منها إذ يعزلون عن مزارعهم ومصانعهم ومكاتبهم ومدارسهم ومشافيهم بسبب الجدار المشين الذي أخفق بوش في وقف بنائه ورفض إدانته. وإزاء العرقلة التي افتعلها أرييل شارون، تخلى بوش بلا خجل عن "رؤيته" الخاصة بإقامة دولتين، إسرائيل وفلسطين جنباً إلى جنب في أمن وسلام. ترى هل يقدم توني بلير الذي يدعي بأنه ملتزم مئة بالمئة بقيام دولة فلسطينية، على تذكير بوش بهذه "الرؤية" حين يصل إلى لندن بزيارة رسمية في الأسبوع القادم؟ ولعل لدى الزعيمين الشجاعة ليؤيدا علناً اتفاق جنيف الذي ثمرة مفاوضات بين يوسي بيلين الإسرائيلي وياسر عبد ربه الفلسطيني والذي يعرض الحل الوحيد الممكن للخروج من هذا المأزق القاتل؟ وبدلاً من أن تضبط واشنطن حكومة إسرائيل اليمينية المتطرفة في سعيها إلى تدمير المجتمع الفلسطيني فتستعيد بذلك شيئاً من الاحترام الدولي وشيئاً من الهيبة، تبنت أميركا التكتيك الإسرائيلي في حربها في العراق: الاستخدام الواسع للرشوة، وابتزاز المخبرين، وإجبار السجناء على تغطية رؤوسهم، واستخدام التعذيب أثناء الاستجواب، هذا إلى جانب الغارات وتدمير المنازل والعقوبات الجماعية... إنه لمنحدر تنساق إليه أميركا، بينما يستدعى بول بريمر حاكم العراق الإداري، على حين غرة إلى واشنطن ليبحث مع بوش وصحبه سياسة الحزم الجديدة في التعامل مع حركات مقاومة الاحتلال، ولا بد أنهم سيفكرون طويلاً بحثاً عن سبيل لوقف نزيف الخسائر والخروج من المستنقع. سلسلة من الأخطاء أكثرية دول العالم تخشى أن تكون استراتيجية بوش الخاصة بالحرية عبارة عن تكرار الأخطاء ذاتها التي جلبت للعالم هذه الفوضى العنيفة كاستخدام القوة الأميركية بعيداً عن القيود التي فرضها القانون الدولي، وهاجس الإرهاب ورفض النظر عن أسبابه فضلاً عن معالجة هذه الأسباب، والضيم الذي يولد الإرهاب... وإطلاق تعبير "الدول المارقة" من دون أي تفكير متزن على الدول التي ترفض الرضوخ أمام أميركا وإسرائيل، والتشكيك بالمنظمات الدولية ونقض المعاهدات الدولية مثل بروتوكول كيوتو لحماية البيئة أو معاهدة حظر التجارب النووية أو رفض القبول لسلطة المحكمة الجنائية الدولية. ويذكر في هذا الصدد أن إحدى المنظمات الأمنية وتدعى "ضبط المحاذير" Control Risks، ومركزها لندن، قامت هذا الأسبوع بتنبيه المسؤولين إلى أن سياسية أميركا الخارجية التي يؤيدها بلير بشكل مؤسف جعلت من لندن الهدف الأول للهجمات الإرهابية، وكذلك الأمر بالنسبة الى الشركات الأميركية الكبرى المنتشرة حول العالم وبخاصة في الشرق الأوسط. كذلك الأمر بالنسبة الى الدول التي تربطها بأميركا علاقات خاصة كالمغرب والأردن وباكستان والسعودية - التي كانت هذا الأسبوع مسرحاً لضربة إرهابية شنيعة لا عذر لها - فالسعودية مثلاً تجد نفسها في موقف دقيق وهش، إذ تتعرض لهجمات المحافظين الجدد الذين يضفونها بالداعمة للإرهاب الإسلامي، بينما يهاجمها بالوقت نفسه أولئك الإرهابيون الذين تتهم بإيوائهم وتمويلهم. في هذا الأثناء تبكي حكومة ايطاليا برئاسة برلوسكوني التي سارعت إلى إرسال قواتها إلى العراق، تبكي جنودها ال 17 الذين لاقوا حتفهم هذا الأسبوع في الناصرية. الأهداف المزيفة للحرب لعل نقطة الضعف القاتلة لحرب أميركا على العراق هي رفض واشنطن الاعتراف بأهدافها الحقيقية، اذ جرى تغليف هذه الأهداف بنسيج من الأكاذيب والتعتيم، وأُعلن في البدء أن الهدف من الحرب هو التخلص من أسلحة الدمار الشامل التي يملكها صدام حسين والتي وصفت بأنها تهدد العالم بأسره. ظهر الآن أن هذا الذريعة الواهية لا أساس لها إذ لم يعثر على أي أثر لأسلحة الدمار هذه. ثم تحول هدف الحرب إلى كونه إنسانياً في جوهره إذ يرمي إلى "تحرير العراق" من دكتاتور بغيض وإقامة الديمقراطية في هذا البلد البائس. وكما أعلن بوش في الأسبوع الماضي ف "إن الديموقراطية العراقية ستنجح وأخبار هذا النجاح ستسري إلى دول الجوار، من دمشق إلى طهران، وتبشر بأن الحرية سوف تكون مستقبل كل دولة". كان أولى ببوش وأكثر إقناعاً أن يعلن بأن أهداف الحرب هي ذات شقين: الأول إقامة قاعدة استراتيجية لأميركا في قلب الشرق الأوسط مع الاستيلاء على حقول النفط، والثاني حماية الهيمنة الإسرائيلية الإقليمية وإن كان هذا الهدف الأخير يأتي في المقدمة في نظر الليكوديين الذين يحتلون المراكز الحساسة في الإدارة الأميركية. يبدو أن أحداً لم يقل لجورج بوش أن الديموقراطية ليست بضاعة قابلة للتصدير. فالعرب والمسلمون في غالبيتهم الساحقة حريصون على التقدم المادي الذي تحققه الحداثة الغربية لكنها ترفض الغرب وبخاصة طريقة العيش الأميركية. فهم لا يريدون أن تستعمرهم الامبريالية الأميركية ولا يرحبون بالثقافة الغربية المسيحية أو اليهودية في مجتماعاتهم الإسلامية. فالتمسك بالروابط القومية والاعتزاز بالهوية الوطنية والإيمان بالدين والتقاليد والأعراف، كل ذلك أهم بكثير في نظر العرب والمسلمين من "الديموقراطية" التي تجهد أميركا لزرعها. أجل إنهم يريدون التحرر من الحكام الطغاة لكن التحرر الحقيقي الذين ينشدونه هو التحرر من الولاياتالمتحدة. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط.