سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
رواية "عشيقة بريشت" الفائزة بجائزة غونكور الفرنسية ... و"فيرنون غود ليتل" الفائزة ببوكر البريطانية . بريشت ثورياً مشتبهاً به ... وعاشقاً في برلين الأربعينات
روايتان تمثلان نموذجين عن الرواية الجديدة التي تكتب في فرنسا والعالم الانغلوفوني، الأولى فازت بجائزة غونكور الفرنسية وعنوانها "عشيقة بريشت" للروائي الفرنسي جاك - بيار أمّيت والثانية فازت بجائزة بوكر البريطانية وعنوانها "فيرنون غود ليتل" للكاتب الأسترالي - الانكليزي د.ب.ك. بيير. ليست "عشيقة بريشت" رواية عن الكاتب المسرحي الألماني برتولت بريشت فحسب، ولا عن عشيقته كما يوحي العنوان وهي تدعى ماريا، ولا عن برلين الأربعينات حيث تجري الأحداث، ولا عن هانس ترو الشرطي الألماني السري الذي سعى الى مراقبة بريشت منذ عودته الى برلينالشرقية بعد خمس عشرة سنة قضاها "منفياً" في الولاياتالمتحدة الأميركية هرباً من الجنون النازي، إنها رواية عن بريشت وعشيقته والشرطي هانس ترو وعن برلين في آن واحد. رواية في ما يعني الفن الروائي من اختلاق حكائي وارتكاز الى بعض الوقائع التاريخية لبناء عالم هو حقيقي بمقدار ما هو وهميّ. هكذا لا تخلو الرواية من بعض الوقائع التي تخللت حياة بريشت لكنها لم تحاول كتابة سيرته مذ تخيّل صاحبها الروائي جاك بيار أمّيت تلك العلاقة بين رائد المسرح الملحمي والممثلة النمسوية ماريا أيخ التي فشلت في التمثيل ونجحت في التجسس "البريء" على بريشت وفي رفع الكثير من التقارير عنه الى جهاز الشرطة السرية في برلينالشرقية. تبدأ الرواية إذاً في 22 تشرين الأول اكتوبر 1948 عندما يصل بريشت الى أرض برلينالشرقية وتنتهي في حقبة مجهولة في الستينات عندما تجد العشيقة ماريا نفسها وحيدة تتآكلها الذكريات الأليمة في منطقة نائية من برلين الغربية. كان بقي أمام بريشت ثماني سنوات ليواصل خلالها "ثورته" المسرحية ويؤسس فرقته الشهيرة "برلينر انسامبل" ويكتب القصائد والنصوص المسرحية ويخرج بعض العروض. عاد بريشت الى برلينالشرقية هرباً من صعود "المكارثية" في الولاياتالمتحدة الأميركية وكان استجوب هناك وشعر انه مراقب وشبه ملاحق. إلا أنه في برلينالشرقية سيكون مشبوهاً أيضاً أو مشتبهاً به وستلاحقه الشرطة السرية ستازي ولكن في طريقة خفيّة حتى أنّه لن يشعر بتلك الملاحقة. فهو استقبل استقبالاً رسمياً احتفالياً نظراً الى شهرته وتكريماً لريادته المسرحية والنجاح الذي حققه. تذكّر رواية "عشيقة بريشت" بجو جون لوكاريه "البوليسي" وببعض الأعمال الروائية التي تناولت "الحرب الباردة" وكذلك بالأدب الألماني في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وتحضر برلينالشرقية المدمّرة كما لو أنها في أحد أفلام الموجة الجديدة في ألمانيا. انها برلين الخرائب والساحات المقفرة، برلين الفقر والخوف، برلين التي تملأها المصفحات الروسية والحواجز والجنود... هرب بريشت من الجو النازي وعاد الى جو سوفياتي لا يخلو من العسكرة والتجسس. شعر أن الحياة الشخصية باتت مخترقة إن لم تكن "مغتصبة"، البيروقراطية بادية بوضوح، والأجهزة هي التي تتحكم بالحياة انطلاقاً من موسكو. ولم يستطع بريشت إلا أن يتململ من الواقع الجديد، لكنه كما بدا في الرواية، كان يؤثر الصمت. انه بريشت الصامت، بريشت المتعب ولكن العاشق الذي يهوى معاشرة النساء من غير حب أو ولع بل رغبة وشبقاً، بريشت المنهمك في تأسيس فرقته البرلينية تعاونه زوجته هيلين فيغيل التي بدت متسامحة جداً إزاء خيانة بريشت لها أو خياناته ولكنها أصرت ألا تكون "معزولة" أو "ممحوة". وفي أحد فصول الرواية تتحدث الزوجة مع عشيقة بريشت الممثلة الفتية ماريا ويندّ الحوار عن غيرتها الشديدة و"الخرساء"، وتعترف لها أن بريشت كان يحبها قبل نحو عشرين سنة عندما كان جسدها ندياً وجميلاً، أما الآن، تقول الزوجة ف"إنني أصبحت جثته وشبحه العظمي". وتقول لها أيضاً انها مزمعة على طلاقه. وهذا ما لن يحصل أو ما لن تقدم عليه لأنها تحبه وتحب العمل معه وتفهم أفكاره، على خلاف الممثلة الشابة التي لم تستوعب مبادئه المسرحية. قد يمكن وصف رواية "عشيقة بريشت" برواية "الثلاثي" الذي طالما عرفته الرواية الغربية اي رواية الزوج والزوجة والعشيق. لكن الثلاثي هنا سيتألف من العشيقة ماريا والعشيق بريشت والشرطي السري هانس ترو الذي يمكن إحلاله محل الزوج. فهو وقع في حب الممثلة التي استخدمها كالطعم ليوقع بريشت أو ليتجسس عليه. وان بدا هانس قاسياً وصارماً في وظيفته كشرطي سرّي فهو ظل يخفي وجهاً آخر هو ربما وجهه الحقيقي الكامن وراء قناع السلطة البولشيفية. إنه غريم بريشت و"رفيقه" في الوقت نفسه. غريمه في حب ماريا وفي التجسس عليه من خلالها ورفيقه في "النضال" السياسي الذي لن يخفي تململه منه ويأسه من المستقبل المجهول الذي سيؤدي اليه. انه الشرطي "المقموع" وربما "المنفصم" الذي لن يحاول أن يقترب من ماريا. فهو عاجز عن جعل حبه "المثالي" إن أمكن هذا الوصف فعل حب أو علاقة جنسية. علماً أنه كان يقيم علاقات سريعة وعابرة وخالية من الحب مع فتيات الهوى. أما ماريا فأراد أن يحافظ عليها من دون أن يلمسها. وكم كانت تؤلمه هذه العلاقة الشائكة: هو يحب ماريا ولا يضاجعها وبريشت يضاجع ماريا من دون أن يحبها. أما ماريا فهي تضاجع بريشت من غير أن تحبه ولكنها معجبة به أيما اعجاب وتخشاه وتخونه في الحين عينه، كونها دمية وجاسوسة. على أنها كانت تشعر ببعض الحب الخفر حيال هانس الذي دفعها الى هذه الوظيفة الشنعاء. ولم يكن هانس يرغب في التفكير بانصدامه العاطفي إزاء ماريا وكأنه كائن مازوشي سعى الى التكفير عن ذنبه عبر إصراره على إخراج ماريا من "الفخ" الذي أوقعها فيه. وسينجح ختاماً في تدبير فرارها الى برلين الغربية حيث ستبدأ حياة جديدة. لا أحداث جساماً في رواية "عشيقة بريشت" ولا أبطال إيجابيين. حتى بريشت نفسه يغدو بطلاً هامشياً وسلبياً على رغم حضوره شبه الكثيف. فالرواية هي رواية أجواء تشكل برلين خلفية لها، زمنية ومكانية، فيما الشخصيات ماضية الى مصائرها شبه المأسوية: بريشت يموت بعد أن يختفي من الرواية وخصوصاً في الجزء الأخير الذي أفرده الروائي لماريا، هانس يقع في خيبة مزدوجة: رحيل ماريا و غموض المستقبل الذي تنتظره ألمانياالشرقية. أما ماريا التي بدت غريبة في هذا العالم أو كما يقول الروائي "غياباً في العالم" فانتهت مدرّسة للّغة الألمانية في إحدى المدارس الكاثوليكية. وعندما تعبر خط التماس متوجهة الى برلين الغربية تخضع للاستجواب ويسألها الشرطي الأميركي عن بريشت وعن أفكاره وميوله. وفي عزلتها التي تطول حتى الستينات تحاول ماريا الانقطاع حتى عن الذكريات. إلا أنها ستفاجأ بصدور أعمال بريشت الكاملة بعد رحيله فتشتريها وتتملّى الهوامش والملاحظات وتدرك ان اسمها لم يرد فيها فتفرح. فالماضي أضحى ماضياً بحقّ. لم تكن مارياً ممثلة قديرة أصلاً وعندما حاول بريشت أن يجعلها تؤدي دور "أنتيغون" اكتشف انها غير قادرة عليه. يحدّثها بريشت مرة عن "انتيغون" قائلاً لها: "كل شخصيات انتيغون حتى الآن تنتمي الى الماضي وتتحدث عن الماضي. ستكونين "أنتيغون" الأولى التي تتحدث عنا... كيف سندفن أبناءنا الألمان؟ كيف...". لكنها لم تستوعب ما قاله. حتى عندما كان يحدثها عن نظريته في "التغريب" لم تكن تستوعب الأمر، يقول لها: "القليل من التعبير في الوجه" أو يقول: "من أجل معرفة المسرح، ما من حاجة الى الشعر". كانت تشاهده يكتب القصائد ويقرأ الشعر ولا سيما قصائد الشاعر هوراس، بل انها مرّة سرقت إحدى قصائده السياسية وأرسلتها الى "رئيسها" هانس ترو. لم تكن ماريا قادرة على فهم بريشت: كيف ينفي الحاجة الى الشعر في المسرح فيما هو يكتب الشعر باستمرار؟ أما القصيدة التي ظنتها "وثيقة" سياسية فيقول مطلعها: "آهٍ يا ألمانيا، كم أنت ممزقة/ أنت لست وحيدة/ في الظلمات، في البرد/ كل جزء منك يحاول أن ينسى الآخر". لم توافق ماريا على أن تتجسس على بريشت إلا من أجل ابنتها المصابة بالربو وخشية من أن تتهم بالنازية. فوالدها كان نازياً وانتهى منفياً في إسبانيا وكذلك زوجها الذي هاجر الى البرتغال حيث سيقتل بعد سنوات. كانت تكره والدها القاسي الذي زجرها مرة ومنعها من الصلاة ورمى مسبحتها في المرحاض رافضاً صورة الانسان الذي يخشع كالنعجة. وعندما عاشرت بريشت اكتشفت فيه شخصاً لامبالياً، وكانت تسأل نفسها ان كانت له روح وطفولة، فهي لم تكن ترى أي ملمح للروح والطفولة فيه. عاشقة خائنة وبريئة وامرأة هي ضحية الآخرين دوماً وممثلة فاشلة أو شبه فاشلة لم تستطع إلا أن تؤدي دوراً صغيراً في مسرحية بريشت الشهيرة "بونتولا وتابعه ماثي". وإن لم تحمل الرواية ملامح سيرة بريشت فهي اعتمدت بعض الوقائع التي حصلت في حياته. صحيح ان شخصية ماريا، العشيقة الجاسوسة هي مختلقة أو متوهمة روائياً، لكن قصص بريشت العشقية معروفة جداً. وترد في الرواية اسماء عشيقات بريشت مثل روث وهيلي وغريتا اللواتي يتذكرهن بريشت مثلما يتذكر صوت أبيه القاسي وصوت أمه الرقيق تقرأ له مقاطع من كتاب مارتن لوثر. أما الحادث الطريف فهو حَمْل العشيقة روث من بريشت ووضعها الطفل في مستشفى "أرز لبنان" في كاليفورنيا في حضور بريشت نفسه، على أن الطفل لن يلبث أن يموت بعد بضعة أيام. يسأل هانس رفيقه ثيو: "لماذا جاء بريشت الى هذه البلاد حيث القهوة نفسها سيئة، هو الذي يحب المال كثيراً والبطاقات المصرفية والرفاهية؟" هذا السؤال قد يكون جوابه ان بريشت عاد الى برلين ليموت بعد أن حقق مشروعه المسرحي في تأسيس "البرلينر انسامبل". لكن الرواية لن تتحدث عن موت بريشت ولا عن سنته الأخيرة، فخبر وفاته يرد في حوار هانس مع رفيقه الشرطي، فيما تنتهي الرواية مع ماريا التي اختارت العزلة البعيدة.