تأخرتْ كثيراً ترجمة كامل أشعار الكاتب الألمانيّ برتولد برشت؛ الذي تُرجمت أعماله المسرحيّة، تقريباً، كاملة إلى اللغة العربية منذ منتصف القرن الفائت. لذلك فإنّ الكتاب الصادر حديثاً، عن دار الجمل في بيروت تحت عنوان «مختارات شعريّة شاملة» الذي أعدّه وترجمه المترجم أحمد حسّان، يعدّ جهداً كبيراً لاطلاع القارئ العربيّ على جانب آخر، بقي غير مكشوف في كتاب كامل، لبرتولد برشت أو برتولد بريخت أو برتولت بريشت... بحسب ترجمة كلّ مترجم. وهذا يُحيل إلى طرح سؤال يبدو أساسيّاً في عمليّة الترجمة. فإذا كان هناك اختلاف على الترجمة الصحيحة لاسم هذا الكاتب فكيف سنقرأ ونعرف ونصدّق ما هي الترجمة الصحيحة من بين كلّ تلك الترجمات لأشعاره ومسرحيّاته ومقالاته؟؟. وربّما الجواب الأفضل، إذا اعتبرناه جواباً شافياً، لمثل سؤال كهذا يحتمل وجهات نظر عديدة هو أن علينا أن نرضى بذلك من أجل تغذية دودة المعرفة؛ التي تكبر وتصغر بحسب القراءات والترجمات، ومتابعة اللّحاق بالاختراعات اللذيذة والممتعة التي اخترعها كتّاب من وزن برشت وغيره وجاءت به إلينا، مشكورة، الترجمات. «كلّ شيء يتغيّر، يمكنكَ أن تبدأ من جديد بآخر أنفاسك. لكنّ ما حدث قد حدث. والماءُ الذي صببتَه ذات مرة لا يمكن فصله ثانية./ ما حدث قد حدث. الماء الذي صببته ذات مرة لا يمكن فصله ثانية. لكنّ كلّ شيء يتغير. يمكنك أن تبدأ من جديد بآخر أنفاسك». هكذا يكتب أويجن برتولد فريدرش برشت (وهو الاسم الكامل لبرتولد برشت) الشاعر الذي وُلد في مدينة ميشن الألمانية في 10/2/1898، وليس في عام 1913 كما دوّن خطأ على غلاف الكتاب، لعائلة ثريّة. بدأ برشت شاعراً، كما في حالة عدد من الروائييّن والمسرحييّن، فقد أصدر مجموعته الشعريّة الأولى في عام 1919 قبل أن يجرفه المسرح في ما بعد حتى آخر لحظة من لحظات حياته. ولكن شهرته الشعريّة اتضحت أكثر؛ بإدارة رؤوس النقّاد إليه باكراً، بعد عرض مسرحيّته «طبول في الليل»، وهي العمل المسرحيّ الثاني بعد مسرحيّته «بعل»، على خشبة المسرح في مدينة منشن، بتاريخ 19/9/1922، والتي حازت على إعجاب كبير من المتفرجين والنقّاد. هذا النجاح كتب عنه الكاتب الألماني هربربت إيبرنج: «إنّ الشاعر الذي في الرابعة والعشرين برتولد برشت قد غيّر الوجه الشعري لألمانيا بين عشيّة وضحاها». فلنتصوّر الآن كيف يمكن لمسرحيّة، وليس لمجموعة شعريّة، أن تغيّر وجه ومسيرة الشعر في دولة بكاملها. ولنتصوّر كم من الشعر الجديد والغريب والصادم اخترعه برشت داخل نصه المسرحيّ ذاك، وجميع نصوصه لاحقاً. بهذا المعنى، وكما أثبتت الدراسات النقدية الكثيرة لأعماله وسيرته، نصل إلى أنّ برشت «لجأ إلى المسرح تخفيفاً لوطأة الشعر عليه. فإذا به يُحيل المسرح ضرباً من الرؤية الشعرية النابضة بقضايا الإنسان وعذاباته وانسحاقه». لم تكن حياة متوازنة وسهلة، فكريّاً وماديّاً وعقائديّاً وروحيّاً، تلك التي عاشها برشت في ذلك الزمن. ولكنه عرف، سريعاً ومبكراً، كيف يختار طريقه وأسلوبه في الحياة، العامّة والخاصّة، والكتابة والصداقات. فأثناء دراسته الثانويّة كتب في صحيفة «آخر أنباء أوجسبورج» بتاريخ 17/8/1914، عندما كان في السّادسة عشرة، مقالة، أتبعها بمقالات، تُمجّد الجيش الألمانيّ لتحقيق النصر والمجد لألمانيا. ولكنه بعدها بعامين، في عام 1916، كتب موضوعاً إنشائياً يحاور فيه المقولة اللاتينية «ما أجمل وأعذب أن يموت المرء في سبيل الوطن» أظهرت نزعته إلى السلام وكراهيّته للحرب. فما كان من إدارة المدرسة إلا أن اتهمته «بالانهزاميّة» وكادوا أن يطردوه على إثرها. بتخرجه في الثانويّة، عام 1917، سجّل في كليّة الطب التي لم يُكمل دراستها. ثم سجل في كليّة الآداب بجامعة منشن قسم الأدب الألماني. ولم يُكمل فيها أيضاً. ثم عاد وسجل من جديد في كليّة الطب. إلا أنه ترك الدراسة الجامعيّة نهائياً في عام 1921 من دون أن يحصل لا على شهادة في الأدب ولا على شهادة في الطب. لكنه تفرّغ نهائيّاً للكتابة. كأنّما بدا له أن الجامعة، بإيديولوجيّتها وإدارتها ومناهجها في ذلك الوقت، لن تفيده في شيء. بل ستُقيّد آماله ومواهبه ونظرته للعالم. ويمكن لهذا المقطع، من قصيدة «المتعلّم»، أن تعبّر عن ذلك: « في البداية كنت أبني على الرمال، ثم بنيتُ على الصخر وحين تآكل الصخر لم أعد أبني على شيء ثم شرعتُ دائماً أبني من جديد على الرمل أو الصخر، كيفما اتفق، لكنّني تعلّمتُ». في عام 1924 تزوّج برشت من الممثّلة الألمانيّة كارلا نيهر التي طلّقها في عام 1927 ليتزوّج من الممثلة هيلين فيجل؛ التي تعرّف اليها برشت قبل طلاق زوجته الأولى، وعاشا قصة حبّ كبيرة، أنجبا خلالها الابن ستيفن والابنة ماريا برباره، لدرجة أنه كتب مسرحيّات على أساس تصوّره لدورها ونصيبها الدائم في العرض. هذه الزوجة ستبقى، من جانبها، مخلصة للبقاء معه سواء في ألمانيا أو عندما هربا معاً إلى مدينة «براغ» عام 1933 بسبب الفظائع التي حصلت مع وصول «أدولف هتلر» إلى منصب المستشار للرئيس الألمانيّ. وعلى رغم هروبه ونجاته من القبض عليه إلا أنه تمّ حرق مؤلفاته في أيّار (مايو) عام 1933 في الساحة المقابلة لأوبرا برلين! وسيُكمل النازيّون، الذين لن يغفروا لبرشت ما كتبه في قطعة له بعنوان «أسطورة الجندي القتيل» كتبها عام 1920 ورأوا فيها تحقيراً للجيش الألمانيّ، انتقامهم من برشت في سحب الجنسيّة الألمانيّة منه عام 1935. وهذا ما عبّر عنه برشت في مقطع شعري بعنوان «في العام الثاني من فراري»: « في العام الثاني من فِراري قرأتُ في صحيفة، بلغة أجنبيّة أنني قد فقدتُ جنسيّتي لم أحزنْ ولم أُسرْ حين قرأتُ اسمي بين أسماء عدة حسنة وسيئة. فمحنة مَن فرّوا لم تبدُ لي أسوأ من محنة من بقوا». وهكذا بالإمكان أن نجد في كل مقطع شعريّ، من هذا الكتاب الذي يرى نصفه على الأقلّ النّور بالعربيّة، تدويناً لسيرة برشت في بلده وفي منافيه المتعدّدة. وبهذا المعنى أيضاً داوم برشت على كتابة المسرح في وقت الفراغ إن جاز التعبير. فالشعر بقي موجوداً في كلّ ما كتبه. في المسرح والسيناريو والمقالات والدراسات. فلا يمكن، كما قال بعض النقاد، أن نقول بأنّه أخلص للمسرح أكثر من إخلاصه للشعر. لأن الشعر بقي حاضراً في كل كتاباته. كتب برشت ذلك الشعر النّاقد للأوضاع المقيتة التي خلقتها الحرب في أوروبا والعالم. والنّاقد كذلك للأوضاع السيّئة في بلده تحت حكم النازيّة. ولكن كلّ ذلك كان ممزوجاً بهمٍّ كونيّ عام. كانت قصيدته كونيّة ويمكن قراءتها لكلّ فرد وكلّ سلطة في كلّ بلد. وفي الوقت ذاته كان يحلو لبرشت أن يكتب عن نفسه أيضاً. عن الوحدة والمرارة التي يحسّ بهما ويتجرّعهما. عن برشت المُطارد في شكل غامض ودائم. عن الخوف والعزلة. وكان ذلك يحلو له أكثر كلّما كان الاحتفاء به أكثر. «البرد كان البئر التي استمدّ منها حماسي وكان العدم يمنحني هذا المدى اللامحدود كان رائعاً أن يخترقَ وميضٌ نادرٌ لامعٌ الظلامَ الطبيعيّ. قصير الأجل؟ نعم لكنني، أنا العدوّ القديم، كنت دائماً أسرع». هناك قصائد مكتوبة بلسان الأنثى. وكذلك الحوارات والتقطيعات التي اكتسبها من المسرح. هناك قصائد حبّ بقيت طازجة حتى وقت قراءتها الآن. كهذه القصيدة التي كتبها بلسان عاشقة تحت عنوان «أغنية امرأة عاشقة»: « حين تُبهجني أفكِّرُ أحياناً أنّني لو متُّ الآن فسوف أكون سعيدة حتى نهاية حياتي./ وعندما تشيخُ وتفكِّر فيَّ فسوف أبدو كما أنا الآن ويكون لك حبيبة ما زالت شابة. (..) سأناديك سبع مرات ابق بعيداً ست مرات لكن في السابعة، عدني أن تأتي سريعاً./ محبوبي أعطاني غصناً أوراقه بنيّة العام كاد ينتهي حبُّنا بدأ لتوّه». عمل برشت أيضاً في السينما. فخلال إقامته في كاليفورنيا، التي وصلها عام 1941، كتب برشت سيناريوات عدة لهوليود. إلا أنّه لم يُنفّذ منها غير سيناريو واحد كان بعنوان «حتى جلاّدو المشانق يموتون». عاد برشت إلى برلين عام 1948، بعد خروجه الطوعي من أميركا، بسبب التحقيق معه من قبل لجنة النشاطات المعادية لأميركا التي أعلنت براءته من الانتساب للحركة الشيوعية، وبقي فيها حتى وفاته في 14/8/1956. في قصيدة «لماذا لا بدّ أن يُخلد اسمي» يمكن معرفة بعض التقنيات الشعرية التي استخدمها برشت في نصوصه. مثل التكثيف والتقطيع والدراما والتضاد والحوار والمونولوج. هذه القصيدة التي تبدو مثل وصيّة شعريّة باكرة وضعها برشت كي يُعرّي فيها الزمن والدولة والسلطة والاستبداد بكلّ أشكاله. هو الذي داوم على الوقوف إلى جانب الإنسان ضدّ سحقه وقتله تحت أيّ مسمّى أو ذريعة. « فكّرتُ مرة: أنّه في العصور البعيدة حين تكون المباني التي سكنتُ فيها قد تهدّمتْ والسفن التي سافرت فيها قد تحلّلتْ سيظلُّ اسمي خالداً بين آخرين. 2 لأنني امتدحتُ الشيء النافع الذي كان يُعدّ في أيامي وضيعاً لأنني قاتلت الاضطهاد، أو لسبب آخر. 3 لأنني وقفت إلى جانب الناس وأودعتهم كلّ شيء، وبذلك كرّمتهم لأنني كتبت الأشعار وأثريت اللّغة لأنني علّمت السلوك العملي أو لسبب آخر. 4 لذا ظننتُ أن اسمي سيظلّ خالداً؛ فوق حجر سينتصب اسمي؛ من الكتب سينتقل ليُطبع في الكتب الجديدة. 5 لكنّني اليوم ستقولُ؛ بلا شك إنكَ بريء، وبقعة الرطوبة على حائط مساكننا تقول الشيء نفسه».