المعرض الخاص بالشاعر والمسرحي برتولت بريشت 1898 - 1956، الذي افتتح الأحد الماضي في أكاديمية الفنون الجميلة في برلين تحت عنوان "وعملي هو نشيد القرن النهائي" هو أحد محاور العروض الثقافية الواسعة التي تحيي بها المانيا مئوية بريشت التي تصادف العاشر من الشهر الجاري، ذلك الكاتب الذي فضل العيش في بلاد المانيا الديموقراطية سابقاً لم يعد لها وجود وموقفها السياسي شبه منسيّ. وعلى رغم ذلك لا يزال بريشت في النتيجة شخصية تثير التساؤل بسبب الكثير من خصائصه. تحاول الأكاديمية في مساهمتها المهمة التخلص من الكليشيهات الاحتفالية التقليدية، وهي تنطلق من أرشيف بريشت مخطوطات، مسودات، رسائل، وصور والتي لم يُنشر معظمها قبل الآن تاركة المشاهد يخرج باستنتاجاته الخاصة لإضاءة شخصية الكاتب والكشف عن جوانب ومراحل العملية الابداعية عنده، والتي ظلت غامضة في الكثير من تفاصيلها. تلك الوثائق المعروضة حتى 29 من الشهر المقبل تصور العمل الذي انجزه بريشت في جمهورية المانيا الديموقراطية، البلد الذي قرر العيش فيه. فالكاتب الذي عاش في الدنمارك والولايات المتحدة الأميركية بعد هجرته من المانيا في عام 1933 وعاد إلى أوروبا عام 1947 ليقيم نهائياً في برلينالشرقية حين كانت تحت سلطة الاتحاد السوفياتي عام 1949، سئل لماذا لم يختر العودة إلى المانيا الغربية حيث سلطة باقي جيوش الحلفاء من الغرب، فقال: نحن الألمان علينا الاختيار بين رأسمالية اجبارية أو اشتراكية اجبارية أو ديموقراطية نختار فيها واحداً مثل هتلر، وأنا اخترت اشتراكية اجبارية!". وهناك إلى جانب زوجته الممثلة المسرحية هيلينا فايغيل، صنع من خشبة "برلينر أنسامبل" واحدة من أهم مراكز المسرح العالمي. وفي معرض اكاديمية الفنون يلقي الرئيس الألماني هيرمان هيرتزوغ كلمته بعد غد الثلثاء، تاريخ الاحتفال بمئوية بريشت. والمعرض مقسم بصورة محكمة، فبعد غاليري من الصور كمدخل، يمر الزائر أمام 22 طاولة موضوعة فوق مساحة ألف متر مربع، لتعرض ما اطلق عليه بريشت "طاولات الكتابة" Arbeitstische، وصممت الطاولات لتسمح بالفصل، حسب المواضيع، بين أوجه شخصية بريشت المتعددة الجوانب. فهنا يُعرض رفضه للفاشية وموقفه من هتلر وستالين، واستقرت فوق الطاولة الأخيرة مجموعة من السيجار مطفأة لم يُكمل بريشت تدخينها اثناء كتابته قصيدة "ثناء لعامل الماني من ساكسن آنهالت". وتعرض أيضاً الاقتراحات التي قدمها الكاتب لجيش المانيا الديموقراطية لبناء مكتبة، وضمن قائمة الكتب المقترحة نقرأ العناوين التالية: "كتابة الغابة" لكيبلينغ، و"الحرب والسلام" لتولستوي، و"روبينسون كروسو" لدانييل ديفو، وأعمال جاك لندن، وتشارلز ديكنز. يعكس المعرض الدور الذي لعبته النساء في عمل بريشت الابداعي دونما أي تعليق، أمر يُشكل في النتيجة تلميحاً للاشكال الذي أثاره كاتب السيرة فيغون فويغس في كتابه "بريشت وشريكاته". إن حضور عشيقات بريشت مثل اليزابيث هاوبتمان وروث بير لاو ومارغريت ستيفين يظل موثقاً في الملاحظات وفي التصحيحات وفي الأسئلة حول مسودات الكاتب. بريشت كان مواطناً عالمياً، "الماني لم يجد أي سبب يدعو للشعور بالعار"، لكن، في النهاية كان عليه ان يعيش دراما شخصية. وصرح السكرتير الأعلى لشؤون الثقافة في برلين ليس هناك في المانيا الاتحادية وزارة ثقافة! لوتز فون بوفيندورف بأنه شرف للمدينة ان تحتفل بالمئوية، على رغم ان النقد وُجه إلى سكرتير الثقافة لعدم موافقته على صرف الأموال اللازمة لاحياء الفعاليات، أمر يُفسر ربما بقاء حساسية اليمين الألماني من بريشت اليساري. وعلى رغم المصاعب المالية، فإن بيت الكاتب في الشاوسه تيراسه جرى ترميمه والفرقة التي أسسها "برلينر انسامبل" لديها عقد لثلاثين سنة وتنوي الإدارة المحلية تأمين مستقبل مسرح ال "شيفباوير دام" المكان المرتبط ببريشت. لقد اخذت برلين على عاتقها الاهتمام بأرشيف بريشت منذ عام 1992 وقسم صغير فقط من المادة يحويه المعرض. أما فعاليات احتفال اليوم العاشر فتضم برنامجاً فنياً واسعاً، يشارك فيه المركز الفني لوسائل الاتصال في كارلسروهه، كما تشارك مطربة الروك نينا هاغن التي ستغني عدداً من أغاني بريشت في مسقط رأسه في مدينة اوغسبورغ. وجاء في نشرة خاصة بالمناسبة أن برامج العروض المسرحية الألمانية تحوي في وقتنا الحاضر ضعف أعمال بريشت التي كانت تُعرض في المرحلة الطبيعية. في الوقت الذي يطرح سؤال في النقاش: ما هي خصائص بريشت التي لم تفقد قيمتها ومعاصرتها؟ الكاتب الألماني الشرقي كرستوف هاين يذكّر بأن بريشت ومسرح "برلينر انسامبل" كانا مهمشين خارج المانيا الديموقراطية، ويؤكد بأن كان لا بد من مرور أكثر من أربعين عاماً على موته لتصبح أعماله على جداول المسرحيات الكلاسيكية للمسرح العالمي، إلى جانب أعمال شكسبير وموليير. في واحدة من أعماله التي تعرض في أوروبا تثير الانتباه معاصرتها "صعود ارتورو أوي الذي لا يمكن مقاومته"، وكان ديكتاتور روسيا البيضاء الكسندر لوكاشينكو منع عرضها في العام الماضي لشعوره بأنها ترمز إلى شخصه، ليس الأمر غريباً، ففي هذه المسرحية صور بريشت بشكل كاريكاتوري صعود "ارتورو أوي" كرمز لصعود هتلر وأي ديكتاتور آخر. بقي أن نشير أن بريشت الذي يُحتفى به عالمياً، ظلت عروضه شحيحة وفقيرة في منطقتنا العربية على رغم تلاؤمها مع الوضع في المنطقة العربية من الناحية الاجتماعية ومن الناحية السياسية. ومهما ادعى العاملون على بريشت من المسرحيين العرب بأنهم قدموه على خشبة المسرح، إلا أنه من الأهمية الاشارة إلى أنهم لم يقدموا أكثر من خمس أو ست مسرحيات لا تدخل في تواجه مع السلطات الحاكمة كما في حال العراق!، ويمكن في هذا المجال استثناء جهود قليلين في مقدمهم المخرج اللبناني جلال خوري. وبريشت شاعر مثلما هو مسرحي، وهذا ما يريد الألمان الاحتفاء به، فهناك على الأقل ثلاثة عروض غنائية لقصائد مغناة لبريشت لحنها في وقته الملحن الألماني المشهور كورت وايلد الذي كان منفياً مثل بريشت.