تشهد اسواق التمويل الدولي منذ بداية الثمانينات ثورة حقيقية نتجت عنها تغيرات جذرية في وسائل وأدوات انتقال الأموال من الوحدات المالية ذات الفوائض الى الوحدات الباحثة عن التمويل. وتحولت هذه الأسواق الى حركة متطورة لا تعرف الركود بفعل عدد من التغيرات اهمها ازالة الحواجز الجغرافية بين الأسواق النقدية والمالية، وتحرير الأنشطة الاقتصادية خصوصاً الخدمات المالية، والعولمة، وتحول انشطة المصارف من الانشطة التقليدية الى الصيرفة الشاملة، حتى اصبحت هذه المصارف تعتمد في جزء مهم من ايراداتها على العمولات المكتسبة من العمليات والصفقات الاستثمارية من خارج موازناتها العمومية وليس من هامش الربح المتأتي من الفارق بين سعري الاقتراض والإقراض. واتصف عالم التسعينات من زاوية التمويل الدولي بتبدل في المعالم ينطوي على تغير كبير في مصادر الرساميل الدولية الوافدة الى الدول النامية بما فيها انخفاض الأهمية النسبية للقروض الممنوحة من المصارف التجارية، وانخفاض المساعدات الخارجية، مقابل زيادة اهمية الاستثمار الاجنبي المباشر، واعتماد الاقتصادات الناشئة على التمويل السوقي من القطاع الخاص، وتزايد اهمية التمويل المستمد من اسواق رأس المال المحلية. ولمواكبة هذه التطورات على الساحة المالية الدولية اضحى ضرورياً بالنسبة الى المصارف وأسواق المال العربية الاضطلاع بدور فاعل في الحقل المالي، والتأقلم مع متطلبات التحول المتزايدة، خصوصاً ان الكثير من الدول العربية تمكن من احراز نجاحات كبيرة على المستويين الاقتصادي والمصرفي خلال الأعوام الماضية، فتعززت معدلات النمو الاقتصادي، وانخفضت معدلات التضخم، وانخفض عجز الموازين الجارية، وتمت السيطرة على العجز في الموازنات العامة، ما ادى الى الاهتمام المتزايد للمستثمرين الدوليين بمنطقة الشرق الأوسط، والمشاريع الاستثمارية والمالية الكبرى التي تقام فيها. ونستعرض في هذه الدراسة اتجاهات التمويل الدولي وحصة الدول النامية - ومنها العربية - من تدفقات رؤوس الأموال الاجنبية الى اسواقها، كما نتعرض لواقع اسواق المال العربية، والصعوبات التي تواجهها وكيفية التغلب عليها. واجهت الأسواق المالية خلال الأعوام العشرة الماضية عدداً من الازمات السريعة الانتشار التي كلّفتها الكثير، اذ حدث هبوط حاد في أسعار الاصول، ومرت فترات من التقلب في اسواق النقد الاجنبي، وأزمة في اسعار الصرف، مع ازمة ديون في الأسواق الناشئة خصوصاً في دول جنوب شرقي آسيا، ودول اميركا اللاتينية التي تعرضت لأزمة اقتصادية خانقة. وإذا كانت هناك عوامل كثيرة أسهمت في هذه الاحداث من بينها قصور الرقابة على الادارة خصوصاً في ما يتعلق بالقطاع المصرفي، الا ان هذه الاحداث تبدو نتيجة ثانوية للتغيرات وإعادة الهيكلة في مجال التمويل الدولي خلال الأعوام العشرة الماضية. وكان من هذه التغيرات زيادة المنافسة التي صاحبت تحرير القطاع المالي في معظم الدول، والتكامل في اسواق رأس المال، وتزايد هيمنة المؤسسات الاستثمارية، وظهور تقنية وأدوات مالية جديدة، ونمو الأسواق الناشئة. الا ان التطورات التي حدثت في الأسواق الناشئة نهاية عام 1995 ومطلع عام 1996 عقب الأزمة المالية في المكسيك، جعلت المستثمرين الدوليين يوجهون اهتماماً اكثر للأسس الاقتصادية الثابتة حجم العجز في الحساب الجاري - الديون الخارجية - معدل الادخار المحلي - سلامة النظام المصرفي... الخ عند تقويمهم لمخاطر الاستثمار في الأسواق الناشئة، وبدأ الاستثمار يتخذ في صورة متزايدة شكل الاستثمار المباشر، والاستثمار في محافظ الأوراق المالية والاتجاه المتزايد لاصدار السندات، والابتعاد عن القروض المصرفية خصوصاً في دول اميركا اللاتينية وآسيا، حيث تشير بيانات صندوق النقد الدولي الى ان متوسط صافي التدفقات الرأسمالية الخاصة الى الدول النامية سجل رقماً قياسياً عام 1996 حيث بلغ 207.9 بليون دولار بزيادة نسبتها 33.2 في المئة عن عام 1995 وهو ما يمثل زيادة تقترب من ستة اضعاف المتوسط السنوي للتدفقات الوافدة خلال الفترة 1983 - 1989 منها 105 بلايين دولار استثمارات مباشرة تمثل اكثر من 50 في المئة من جملة التدفقات الرأسمالية للدول النامية. وبلغت التدفقات الى الصين وحدها 40 بليون دولار بنسبة 20 في المئة، ويعكس هذا المستوى من صافي التدفقات الرأسمالية الوافدة التحول المتزايد الى نظام مالي عالمي أكثر انفتاحاً، وجاء ذلك متزامناً مع انخفاض اسعار الفائدة نسبياً في الدول الصناعية، واستمرار تطوير الأسواق الرأسمالية خصوصاً اسواق الأسهم والسندات في عدد كبير من الأسواق الصاعدة التي كانت تشهد نمواً اقتصادياً سريعاً نسبياً، والتقدم الذي حققته دول عدة في عمليات التخصيص وغيرها من الاصلاحات الهيكلية الاخرى التي تعزز من دور قوى السوق ومن ثم تدعيم الأساس الذي يقوم عليه النمو القوي المتواصل. اذ قامت الدول النامية بإزالة القيود على التدفقات عبر الحدود خصوصاً تلك المفروضة على تدفقات رأس المال الى الداخل ما جعل هذه الأسواق اكثر جاذبية للمستثمرين من الاقتصادات المتقدمة وذلك بالنسبة للمستثمرين الراغبين في تنويع محافظهم المالية. أما في عام 1997 فانخفضت التدفقات الرأسمالية الخاصة الى الدول النامية بصورة ملحوظة وسجلت 154.7 بليون دولار بانخفاض نسبته 25.6 في المئة عن عام 1996 على رغم زيادة الاستثمارات المباشرة الى 119.4 بليون دولار اي بنسبة 13.3 في المئة، اذ يعزى الانخفاض اساساً الى تقلص الاستثمارات في محفظة الأوراق المالية في الدول الآسيوية اثر الازمة التي ظهرت في تلك المنطقة حيث انخفضت التدفقات بنسبة 30 في المئة. ومن المقدر ان تتزايد التدفقات الرأسمالية الخاصة سنة 1999 بسبب بدء نمو الاقتصادات الآسيوية التي عانت من ازمة اقتصادية طاحنة. ويلاحظ من الجدول المرفق انه بالنسبة الى الدول النامية فإن التدفقات الرأسمالية الخاصة الى افريقيا عام 1997 تضاعفت بالمقارنة مع عام 1996 اذ سجلت 8.9 بليون دولار مقابل 4.5 بليون عام 1996 منها حوالى بليون دولار الى مصر وحدها، في الوقت الذي تدهورت التدفقات الرأسمالية المتجهة الى آسيا بعد الازمة التي تعرضت لها الى 38.5 بليون دولار مقابل 102.2 بليون بانخفاض نسبته 62.3 في المئة، واستمر هذا التدهور لتسجل هذه التدفقات 1.5 بليون دولار فقط عام 1998. اما الدول الحديثة التصنيع فسجلت تدفقات رأسمالية سالبة عامي 1997 و1998، اي ان التدفقات الرأسمالية الخارجة من هذه الدول اصبحت تفوق التدفقات الرأسمالية الداخلة اليها، وهو ما يوضح عمق الازمة الاقتصادية التي واجهت هذه الدول، والآثار السلبية الناتجة عنها والتي تمثلت في الهروب السريع للمستثمرين الدوليين للبحث عن مناطق أكثر أمناً. يذكر انه في اطار التدفقات الرأسمالية الخاصة استمر الابتعاد عن القروض المصرفية، والاتجاه نحو الاستثمار الاجنبي المباشر، واستثمارات محفظة الأوراق المالية، وعلى مدى الأعوام الخمسة الماضية بلغت نسبة هذين النوعين الاخيرين من التدفقات الرأسمالية ما بين اثنين وأربعة في المئة من اجمالي الناتج المحلي للدول النامية مقارنة بما يقل عن واحد في المئة في الأعوام السابقة لعام 1990. ومن المعروف ان تدفقات الاستثمار الاجنبي المباشر تعكس الى حد كبير التوسع في الانشطة الدولية للمؤسسات المتعددة الجنسية التي تحتكر حالياً ثلثي التجارة العالمية، اذ تعبر الزيادة في الاستثمار الاجنبي المباشر عن عولمة مشاريع الأعمال خلال الأعوام الاخيرة. كذلك اخذ اصدار السندات في التزايد في الدول النامية وفي بعض دول التحول الاقتصادي خصوصاً في روسيا التي اصدرت نحو بليون دولار سندات أوروبية، ويعتبر اكبر اصدار تقوم به حكومة سيادية للمرة الأولى. وتجدر الاشارة الى انه على رغم ان السندات تعتبر ارخص مصادر التمويل نسبياً فإن الدول النامية وخصوصاً العربية منها لا تزال تعتمد على المصارف في تمويل انشطتها، وذلك على عكس الدول الصناعية الكبرى، ففي الوقت الذي تمثل فيه القروض المصرفية في الولاياتالمتحدة الاميركية 50 في المئة فقط من اجمالي الناتج المحلي نجد ان سوق السندات فيها تعادل 110 في المئة من اجمالي الناتج. وتشير التوقعات الى انه من المرجح زيادة صافي التدفقات الرأسمالية الخاصة الى الدول النامية خلال الفترة المقبلة، بل وربما يتجاوز المستويات التي وصل اليها اخيراً. كما يتوقع زيادة الطلب على تمويل مشاريع البنية الأساسية مع تزايد النمو الاقتصادي في آسيا، الا ان التدفقات الرأسمالية لا تزال عرضة للتأثر بزيادة اسعار الفائدة وتطورات اسواق الاسهم في الدول الصناعية الكبرى، وانتقال هذه الآثار الى الاسواق الصاعدة خصوصاً تلك الدول التي تعاني عجزاً في الموازنات العامة والتي تعتمد بشكل كبير على اسعار الفائدة القصيرة الأجل لتقييد الطلب المحلي. * اقتصادي سعودي.