من الحق ان كلمة "أزمة" أصبحت من الشيوع والانتشار حتى كادت تفقد وقعها. هناك على الأصح مشكلات للثقافة، لا شك في هذا. هناك أوجه تبشر بازدهار محتمل وهناك نذر توحي بأخطار ماثلة توشك ان تعوق الثقافة عن أداء رسالتها. وفي تقديري أن أزمة الثقافة - ان كانت ثمة - لا تنفصل عن أزمة المجتمع بصفةٍ عامة، أي عن أزمة العلاج الجذري لمشكلات اجتماعية من قبيل هشاشة تقليدية لنظم التعليم، وتضليل الإعلام الموجّه نحو تغييب الوعي وترسيخ السلبية والإسفاف والتسلية الفجة والترويج لنظم الحكم القائمة، بما يترتب على ذلك من ركود روحي واقتصادي، ومن بطالة في العمل وفي العقل. لكن الموضوع من السعة حتى انني لا أملك إلا أن أؤمئ الى بعض الإشارات فيه، فلعلني أرى أن من أهم المشكلات التي تواجه الثقافة الوطنية العربية بعامة، جانبين هما: علاقة الثقافة بالسلطة من ناحية وعلاقة الثقافة بالتراث من ناحية أخرى. وتحت كل جانب هناك عناصر كثيرة لعلني سأشير اليها في سياق هذه التأملات. أما عن الجانب الأول، لئلا نقع في تعميمات وتجريدات لعلها عقيمة، فإن المثقف الذي ينصاع الى السلطة - أياً كانت هذه السلطة، سواءً كانت سياسية أم اجتماعية، سواءً كانت سلطة "رأي عام"، أي انحيازات من جانب جماهير تم تضليلها، أو كانت سلطة ايديولوجية، أي سلطة نصوص سلفية مكرّسة، دينية أو غيرها لا ينالها بطلان في ما يجري به الزعم الشائع - عندئذ يفقد المثقف دوره، ورسالته، كما يفقد، بالمثل، صدقيته. ذلك ان المثقف من شأنه أن يستشرف الأفق ويمثّل الأمل، يمثّل امكان التطوير والتغيير. هناك في ما أقدّر امكان لتصوُّر ثلاثة تيارات من السلطة: السلطة السياسية والاجتماعية، السلطة التراثية، والسلطة الايديولوجية. المثقف في علاقته بهذه السلطات الثلاث، مخالف مناقض لها، بطبيعة دوره، أي بما يكاد يكون "حدّ التعريف" فإنه دائماً يطمح الى الأفضل والأعدل والأجمل. لعل ما يوضح علاقة المثقف بالسلطة السياسية - الاجتماعية إذاً، أن يدعو المثقف، في بلادنا على الأخص، الى أن تكون السلطة السياسية ديموقراطية بالفعل وليست بمجرد ترديد للشعارات - الأكاذيب، أي أن تكون حرية تكوين الأحزاب والجمعيات والنقابات والهيئات المدنية على اختلاف أشكالها، حريةً كاملة لا تقيّدها - ومن ثم تشلّها وتفقدها فاعليتها - شروطٌ تمليها السلطة التنفيذية - أو لنقل بوضوح السلطة البوليسية. وأن تكون الانتخابات التشريعية حرة ونزيهة وقائمة على الانتخاب الفردي المباشر مع الإعداد الجماهيريّ - أو "التثقيف" السياسيّ للجماهير تثقيفاً ديموقراطياً وضرورياً. وأن يكون الفصل بين السلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية فصلاً حقيقياً قائماً على التوازن المتكافئ لا تطغى فيه سلطة على أخرى، وتخضع فيه السلطة التنفيذية - كما ينبغي لها أن تخضع - الى رقابة السلطة التشريعية ومحاسبتها ومقدرتها على تغيير السلطة التنفيذية حتى أرفع مستوياتها، إذا ثبتت لها ضرورة هذا التغيير. على أن يكون هذا التصور الليبراليّ للسلطات قائماً على ما يصطلح على تحديده في شكل عام بأنه "النهج الاشتراكي"، ومرة أخرى فإن الاشتراكية تختلف تماماً عن السلطات التي قامت على طغيان البيروقراطية والفئات العلوية من التنظيمات الحزبية واستئثارها بتسيير المجتمع بما يحقق - في النهاية - مصالحها فقط وليس مصالح الجماهير الشعبية. وهي السلطات التي سادت ثم انهارت في الاتحاد السوفياتي والبلاد المنضوية تحت منظومته. الاشتراكية هنا ليست "عقيدة" ولا نظرية جامدة ولا اتباعاً لتطبيقات سابقة، بل هي منهج وتصوّر مرن قائم أساساً على دعامتين متلازمتين: العدالة والحرية في مختلف مستوياتهما، الفردي والاجتماعي سواء، وهما جناحا الديموقراطية. المثقف إذاً يواجه هذه السلطات بأنواعها بهدف دعم أكبر وأكثر استمراراً وأعمق مضموناً لقيم الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية. ولكنه إذ يؤدي هذه المهمة - أو هذه الرسالة - فإنه لا يمكنه أن يزعم انه يملك حقيقة مطلقةً سواء كانت هذه الحقيقة في جانب التراث المتحجر في الغيبيات أو كانت تنتمي الى فلسفات تنطلق من - أو تمتلك وحدها - كل الحقيقة. من ناحية ثالثة، ما المقصود إذاً بالسلطة الايديولوجية؟ من المسلَّم به في ما أتصور أن الايديولوجيا موجودة في تضاعيف كل موقف، ولكن المعيار - هنا - هو الحرية والنظرة النقدية وليس معيار الانصياع أو الامتثال أو التسليم بمقولاتٍ محددة ونهائية. عادةً ما يقال في مقدمة علاج أو تناول أيّ مشكلة ايديولوجية ان المعيار هو الحرية، وان المسألة تعود الى المنهج وليست مسألة أقوال أو نصوص مقدسة، ولكننا نجد في النهاية زيف هذا الادعاء. ونجد ان المقدمة تتنافى مع التناول وأن التناول - في النهاية - يجد مرجعيته الأخيرة ليس في العقلانية أو في النظرة النقدية وانما في النصوص وفي نوع من التقديس المضمر للنصوص، حتى لو كان هذا التقديس - أو التبجيل أو الانصياع الى المرجعية - غير معلن أو كان منكوراً. فلعل هذه هي مشكلة علاقة المثقف بالسلطة الايديولوجية. هناك السؤال الذي يلحّ عليَّ الآن وهو وجود بشائر للازدهار الثقافيّ في مصر وفي البلاد العربية... بينما سياق الحديث - حتى الآن - يكشف عن وجود أزمة في هذه الثقافة... السؤال المشروع هنا هو أين إذاً هذه البشائر وسط المشكلات الحادة في الثقافة؟ لعل هناك معايير كثيرة لهذه الأوضاع، ولكن فلنتناول أبسط هذه المعايير، وهو ما يمكن أن يسمى بازدهار الملكات الروحية للإنسان وبالتالي ثبات أو رسوخ قيم معينة أهمها: الحرية، الكرامة، العدل، هذه القيم من التجريد والعمومية حيث - أيضاً - كادت أن تفقد معناها، ولكن الجوهر قائم، أعتقد أن مثل هذه القيم سيتصاحب الإنسان طالما بقي كذلك... هذه القيم يترتب عليها التقدم الاجتماعي وتناغم الإنسان مع بيئته، أي مع الطبيعة، وهو التناغم الذي يوجد فيه - إذا سُمح لي بهذا الشطح - قدر من الشاعرية. هذه المعايير المختلفة هي التي نحكم بها ما إذا كان هناك ازدهار ثقافيّ أو أزمة مستحكمة. أما عن البشائر - وللغرابة - فيمكن أن نلاحظها - حقيقة - ليس في العمل الفكريّ أو العمل الاجتماعي. فالآفاق في هذه الميادين تبدو جهمة أو معتمة، ولكن في العمل الفنيّ - بمعناه الواسع - سواءً في الفن التشكيلي أو في فنون القول أو حتى في الموسيقى المسماة بالرفيعة. في هذا المجال نجد ان انجازات الثقافة العربية في شكل عام، تدعونا الى ألا نفقد الأمل. ربما كان لهذا دلالة مهمة: إنه لا يمكن أن تكون هناك علاقة آلية أو ميكانيكية بين العمليات الحضارية اجتماعية - سياسية - ثقافية، ولا يوجد اطراد في الصعود أو في التدهور ولا ترابط آليّ أو محتوم، وإنما هناك حركات مدّ وجزر وحركات اختلاف في الصعود وفي الهبوط. وبالتالي، فإن احدى هذه العمليات قد تتقدم العمليات الأخرى. وإذاً يحدث نوع من التفاعل بين هذه العمليات. ولهذا، فالمجال الفنيّ هو الوحيد الذي لعله يفتح - لنا - هذا الأمل، على عكس الميدان السياسيّ الذي شهد ربما تقدماً في فترة سابقةٍ ولكنه ضُرِب. أما الميدان الفكريّ أو الفلسفيّ فما زال، في معظمه، مريضاً بالتبعية، أما الميدان العلمي فلا يوجد فيه إلا مجرد نقل ومهارة وحذق شديد في التطبيق، ولكن المقدرة على الابتكار مفتقدة أو قليلة. المحور هنا في أزمة الثقافة - أو أزمة المجتمع - هو العلاقة بين التيارين السلفيّ والعلمانيّ. فإنه حتى في داخل التيار السلفيّ هناك اتجاهات عدة: اتجاه سلفيّ مغلق على ذاته تماماً ورافض لكل أنواع الحوار ويتمسك بماضٍ موهوم، مختَرعٍ اختراعاً، يضع مطلقاتٍ أو أحكاماً نهائية، وهو اتجاه شديد الخطورة ويبدو للوهلة الأولى أن ثمّة خلافاً بينه وبين الاتجاهات السلفية الأكثر استنارة أو الأكثر قابلية للجدل. لكن المشكلة في هذا الاتجاه الأخير - الأكثر استنارة أو الأكثر معاصرَة - أنه في واقع الأمر، يقيم فخاً للمتلقي وللقضية كلها... لأنه مهما زعم لنفسه من تجاوبٍ مع متطلبات العصر أو مقدرة على ادارة حوار فهو في الواقع يسلّم القضية الى التيار السلفيّ الآخر المغلق على ذاته، لأنه يستخدم الخطاب نفسه ويعود الى المرجعية نفسها وبالتالي يسلم نفسه الى التيار الأقوى والأكثر جاذبية للجماهير وهو المغلق على ذاته. وهذا تيار قادر على التغلب وعلى السيادة وعلى احتواء أو انهاء ذلك الجناح الذي يزعم لنفسه حق الاستنارة وحق المعاصرة. يبقى الأمل معقوداً على التيار الديموقراطي أو الذي أسميه التيار العقلانيّ. هذا التيار يؤمن بأن الحقيقة المطلقة ليست ملكاً نهائياً لأحد وانما هي دائماً موضع سؤال متجدد إذا توافرت العملية الجدلية الاجتماعية الضرورية لكي يثبت هذا التيار ويصبح فاعلاً، وإلا فأننا نعود الى الآفاق الجهمة أو المعتمة. هل يمكن أن تكون حركة التيار السلفيّ في الميدان الثقافي، على مستوى التنظير - تجاوزاً - أو على مستوى الممارسة، دافعةً الى أفق المستقبل، مغنيةً للثقافة في بلادنا؟ بالتعريف وبالتحديد، ليس فيه ما يغني الثقافة بل فيه - بالضرورة - ما يضير بها وما يؤدي بها الى التردي لكن الناحية الأساسية أن هذا ليس معناه التنكر للتراث، فإن "السلفيين" على شتى أشكالهم لا يملكون توكيلاً خاصاً بالتراث. قد يزعمون أنهم أصحاب الهوية الصحيحة لنا ولثقافتنا، وهو غير صحيح، فالجانب الذي يركزون عليه ليس هو التراث، إن التراث ليس ممارسات معينة عادة ما تعود الى فترات الانحدار التاريخية. اننا لا يمكننا أن ننسى فترة التفاعل الحيّ الخلاق الخصب بين الثقافة العربية والثقافات الأخرى أثناء فترة صدر الإسلام، هذا التفاعل الجدليّ ربما لم يتكرر حتى الآن. أصحاب التيار السلفيّ يحاولون ان يستفيدوا من مغالطة أو لعلهم يمررون مغالطة وهي أن "التراث" كله معناه "السلفية"، بمعنى العودة المستحيلة الى الماضي. كيف يمكن أن نرى الصراع داخل الوحدة المتناغمة المنشودة للتيارات الثقافية، طالما أنني أرى التيار السلفيّ محبطاً لآمال وحاضر بل ومستقبل الثقافة الوطنية؟ لا بد من أن أسلم بأن التيارات السلفية واقع قائم على أرض المجتمع، لكنها في ما أوقن ليست عنصر إثراء. ربما كان من أهم مشكلات التيار الديموقراطي العقلاني هو انه لم يقم حواراً جدياً مع الواقع، وبالتالي يتخلله جنوح متزايد نحو الانعزال، والى الانفصال عن الواقع. يهمني هنا أنني لا أدعو الى وحدة التيارات الثقافية ولكنني أشير الى التكامل بين الواقع المنشود أو بين القائم والمطلوب. هذا ما أعنيه بالصراع، وأيضاً ألا يصبح أحد التيارات - أياً كانت مشروعيته وصدقيته - هو الوحيد، لأن هذا ينتهي بتشويهه هو بالتحديد... ذلك أن الجدل قانون أساس من قوانين الحياة نفسها، هذا ما أقصده بالتناغم، أي التناغم القائم على التناقض والتضاد. مهمة التيار الليبراليّ العقلاني في شكل خاص هي أن يصل الى القدر الضروري من الحرية ومن النظرة النقدية التي من دونها لا تتوافر أبداً ثقافة حيوية، وبالتالي يصبح كل مطلق موضعاً للسؤال... المطلقات أصبحت كثيرة سواء في ما يتعلق بالميتافيزيقا أو السياسة أو الجنس، في كل هذه السياقات مِن المطلَق، يجب أن تكون هناك نظرة نقدية وألاّ يكون هناك شيء نهائيّ، بالمعنى العقليّ بالذات. سؤال آخر في هذا السياق: هل هناك علاقة بين الدور الاجتماعي المفتقد للمثقفين الوطنيين وحركة الصراع الاجتماعيّ؟ نعم هناك علاقة أساسية ولكنها - كما سبق أن قلت - ليست علاقة آلية أو مطردة محتومة، فهناك هامش واسع أو مجال عريض للمغامرة والحرية، وفي داخل هذا الهامش تقع المسؤولية، لأننا إذا سلمنا بأبدية هذه العلاقة وبآليتها، فهذا معناه دعوة حتى ولو كانت مضمرة للقعود عن العمل تماماً والتسليم بآليةٍ اجتماعيةٍ ما، كما لو أنها آلية ميتافيزيقية. هذا هو مجال التفرقة الأساسية في هذه العلاقة وفي ميدان المبادرة أو المغامرة داخل حركة الصراع الاجتماعي وإلى جوارها. * روائي مصري.