التحرر أو الحرية مصطلح مستبعد من فضاء الفكر الإسلامي، وارتبط في ذهن المتلقي المتدين بمفاهيم الحرية الجنسية وتحرير المرأة وهي مفاهيم ذات مرجعية ليبرالية نشأت وتبلورت في حضن الثقافة الغربية، ولم يعرف هذا المصطلح في التراث الإسلامي إلا في الحقل الفقهي تحرير الرقيق وحرية التصرف. فما الذي أعنيه بمصطلح التحرر الذي عنونت به هذا المقال؟ ثمة أصل مجمع عليه بين الأطروحات الإسلامية كافة، بمنظوماتها المختلفة، وتتخذه جميع الحركات الإسلامية شعاراً لها، هذا الأصل هو إتباع الكتاب والسنة، والكتابات الإسلامية على اختلاف توجهاتها مشحونة بالتنظيرات التي تبدئ وتعيد في وجوب التحاكم إلى هذا الأصل، ومشحونة بالروايات المأثورة في هذا المجال كقول الإمام مالك: "كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر"، وقول الإمام الشافعي: "إذا صح الحديث فهو مذهبي"، وبنظرة أولية يفترض أن يكون هذا الأصل عاملاً حاسماً في توحيد تلك الأطروحات، أو على الأقل في إزالة الخلافات الحادة بينها. والمفارقة أنه تحول لدى تلك المنظومات والحركات إلى سبب للصراع الشرس، والنفي المتبادل، فمع الإقرار بمرجعيته، والتسليم بسلطته إلا أن كل منظومة من تلك المنظومات تسعى جاهدة لاحتكار معرفته، وتطرح نفسها مرجعاً وحيداً في فهمه وفقهه. وهذه الإشكالية ليست وليدة اليوم بل هي ضاربة في عمق التاريخ الإسلامي نشأت بنشوء تيارات الفقه الإسلامي أهل الرأي وأهل الحديث ثم المذاهب الأربعة بعد ذلك، ونشوء الفرق الاعتقادية المعتزلة والأشاعرة والكرامية والماتريدية والشيعة. وكانت هذه الإشكالية حاضرة في الذهن الإسلامي آنذاك، ولذلك واكب نشوء تلك التيارات والفرق التنظير في أصول الفقه وعلم الكلام، وتشكلت مصطلحات الأصول والفروع والظن والقطع والإجماع والبدعة وأهل الأهواء. وشغلت الذهن الإسلامي آنذاك إشكالية الاجتهاد وكيف الوصول إلى الحق المطابق للكتاب والسنة مع كثرة الآراء والخلافات؟ وتبرع بعض المنظرين بتصويب كل الآراء وطرح نظرية كل مجتهد مصيب وهو ما عرف لاحقاً برأي المصوبة. وكتبت البحوث في شروط المجتهد، والاجتهاد في الظنيات والاجتهاد في القطعيات، ووضعت المؤلفات في فقه الخلاف، كالكتب التي تبحث عن أسباب الخلاف بين العلماء، وآداب المناظرة، والجدل، وأنواع الخلاف، وما زالت المكتبة الإسلامية إلى اليوم تواصل إنتاج الكتب في معالجة هذه القضايا والأفكار. وكل هذه الجهود الضخمة مساهمة صادقة مخلصة لتحرير العقل المسلم من متابعة غير ذلك الأصل الكتاب والسنة. ولكن ثمة معوقات ذهنية لا مفكر فيها تحول دون التحرر قد لا يشعر بها كثير من العلماء وطلبة العلم فضلاً عن العوام ممن هو واقع تحت تأثيرها، فما هذه المعوقات؟. الإجابة عن هذا السؤال تستلزم الإشارة إلى علاقة الفكر بالمجتمع، فكثير من الكتّاب الإسلاميين يتناول الأفكار، وأطروحات العلماء والمفكرين على أنها مقولات ناجزة متعالية على الواقع غير متأثرة بسيرورة الزمن وتشكلات الحضارة، ويغفل عن جدلية العلاقة بين كل معرفة وأطرها المجتمعية السياسية، والاقتصادية. فالفكر والواقع الزمكاني يشكلان علاقة جدلية ذات تأثير متبادل. فالفكر يصنع الأحداث، والأحداث تساهم في صنع الأفكار. وهكذا في دورة جدلية لا مرئية، والفكر الإسلامي بجميع تياراته مر في تاريخه الطويل بتلك الدورة الجدلية حين لعبت الأحداث السياسية والاقتصادية دوراً في تشكيله كما هو عليه اليوم، فالذهن الإسلامي اليوم رهين لمؤثرات تاريخية وواقعية تعوقه عن التحرر ومتابعة الأصل الكتاب والسنة وهنا نعيد السؤال مرة أخرى: ما هي هذه المعوقات؟ يمكنني تلخيص تلك المعوقات تحت مسمى واحد وهو السلطة، في معناها الفلسفي، وهو وقوع الفرد تحت تأثير ما، وعليه فإن الفرد في تشكيله الفكري قد يقع تحت تأثير السلطة السياسية أو سلطة العلماء، أو سلطة المثقفين، أو سلطة العوام، أو سلطة العادات والتقاليد، والأعراف، أو سلطة التاريخ، أو سلطة الحزب، أو التنظيم، أو سلطة المذهب، أو سلطة القبيلة، أو سلطة الأسرة. فالفرد إذاً واقع تحت تأثير سلطة ما، لا ينفك عنها، شعر بذلك أو لم يشعر، يستمد من تلك السلطة أحكامه على الأفكار والأشخاص، والوقائع، وثمة معايير يحتكم إليها المرء في اختياره لأحد السلطات مرجعاً له، وتجعل منها سلطاناً على الأذهان. ويمكن حصرها في ثلاثة معايير: - الأول: العدد، فالأفكار والمذاهب تستمد سلطتها على الأذهان بعدد معتنقيها، فالتي يقبلها أكبر عدد من الناس هي الصحيحة. ولهذه الحجة ذاتها صيغة أخرى يمكن أن تسمى بعبارة العمومية تذهب إلى أن أي فكر أو مذهب يحظى بقبول عام يكاد يكون من المحقق أنه صحيح. ومجرد العدد لا يمكن أن تكون له أهمية بوصفه معياراً للحق إلا إذا كانت الأذهان توصلت إلى أحكامها المختلفة كل على نحو مستقل عن الآخر، ولهذا لا اعتبار للعدد في الترجيح في الأحكام الشرعية إلا إذا تكافأت الأدلة. وساهم اتخاذ العدد معياراً للحق في تشكيل عقل جمعي قمعي يرفض أية محاولة للخروج عن رأي الأكثرية، وهذا أدى إلى وقوع العلماء والمفكرين تحت سلطة العوام بوصفهم يمثلون الأكثرية، في المجتمعات، فنتج عن ذلك اجترار الأفكار، وغياب التجديد واستحكام التقليد. وهذا ما يفسر لنا المقاومة الشرسة للمجددين في الإسلام كالإمام ابن تيمية، والشوكاني وابن حزم والإمام محمد بن عبدالوهاب لأنهم طرحوا أفكاراً تخالف ما لدى الأكثرية، ولهذا حكم على آرائهم بالانحراف. والمفارقة الغريبة هنا أن رأي هذه الأعداد الغفيرة يرجع أحياناً إلى رجل واحد! قال ابن الوزير: "تجد العوالم الكثيرة في لطائف المعارف المختلف فيها على رأي رجل واحد من القدماء في الأمصار العديدة، والأعصار المديدة، فلو كانوا في ترك التقليد كالأوائل لاشتد اختلافهم في الدقائق، ولم يتفقوا على كثرتهم وطول أزمانهم وتباعد بلدانهم واختلاف فطنهم كما قضت بذلك العواد العقلية الدائمة". - المعيار الثاني: القدم، وهذا المعيار يشكل حجر الزاوية في الفكر الإسلامي في الاحتجاج للأفكار والأقوال، وذلك لأن مرجعية الفكر الإسلامي الكتاب والسنة وللسلف خصوصية في فهم وإدراك الكتاب والسنة لقرب عهدهم من فترة النبوة. ومن هنا ارتبط الصواب في الذهن الإسلامي بما أثر عن السلف، وانسحب هذا على كل قديم سواء أثر عن السلف أم لا، فكل ما كان مستقراً في الأذهان متعارفاً عليه من الأفكار والمفاهيم يحكم على الرأي المخالف له بالانحراف، لأن قدر القول معياراً لصوابه، ولأهمية هذا المعيار نشأت إشكاليتان في الفكر الإسلامي: أ - الأولى: مصطلح السلف، هل هم الصحابة فقط؟ أو هم أهل القرون الثلاثة الأولى؟ ثم على القول بأنهم أهل القرون الثلاثة الأولى، هل يدخل فيهم مؤسسوا فرق المعتزلة، والشيعة، والخوارج كما يرى أتباعهم لأن مؤسسيها عاشوا في القرن الأول في أواخر عهد الصحابة؟ ولأهمية هذا المعيار للسلطة المؤثرة على العقول نجد أصحاب تلك المذاهب يعنون بنسبة مذاهبهم إلى السلف كما صنع الصاحب بن عباد في رسالته الإبانة عن مذهب أهل العدل، وابن جهبل الأشعري في رسالته نفي الجهة ومحمود اللامشي الماتريدي في كتابه التمهيد لقواعد التوحيد وعبد الكافي الأباضي في كتابه الموجز، فنحن هنا أمام صراع على السلف لتوظيف رصيدهم المؤثر على الأذهان في تصويب آراء تلك الفرق. ولا شك في أن اتخاذ السلف معياراً على صوابية الآراء الدينية يؤيده النقل والعقل. أما النقل فقد جاءت نصوص كثيرة في مدحهم والحث على الاقتداء بهم، وأما العقل فإن قرب عهدهم من عصر النبوة وإدراكهم لصفاء الدين قبل أو تؤثر به الثقافات الوافدة بعد الفتوحات، يؤهلهم لصوابية الفهم والإدراك للدين. لكن هذا المعيار القدم استقر في الدين الإسلامي وأصبح دليلاً على صوابية الأقوال والأفعال، وأصبح كل قول ديني قديم تعارف عليه الناس وتوارثوه صواباً ينكر على مخالفه حتى لو كان تخالفه يحتج برأي السلف الذين هم أساساً معيار القدم الحقيقي. ب - الإشكالية الثانية: مفهوم البدعة، ومصطلح البدعة مصطلح إسلامي خالص، وهو التعبد لله بما لم يشرعه. وكان موقف الإسلام حاسماً في التحذير من البدعة ليبقى نقياً خالصاً. فالبدعة إذاً نقيض القدم، وهذا ولد في بعض الأذهان تلازم الإسلام مع كل قديم ورفض كل جديد، ودفع بعض العلماء والمفكرين إلى نقل البدعة من مجالها الديني المحض إلى المجال الثقافي والاجتماعي، ويحفظ لنا التاريخ بعض الحوادث الطريفة في هذا المجال من ذلك أن القاضي ابن سلطان الدمشقي حرم القهوة سنة 950ه وقال عنها: ومن جملة المصائب التي حدثت بهذا الزمان وكان يسمي بيت القهوة الخمارة الكواكب السائرة: 2/13، ومن الحوادث الطريفة أن استعمال مكبرات الصوت في المساجد واجهت مقاومة دينية في نجد في بداية انتشارها وذلك باعتبارها بدعة في الدين وكذلك استعمال آلات التسجيل والراديو في الأمور الدينية. - المعيار الثالث: من معايير السلطة النفوذ، وليس هناك أحد محصن تماماً من تأثير النفوذ فأغلب الناس لهم شخص أو أشخاص لهم تأثير على حياتهم وخياراتهم الفكرية. وقد يكون هذا الشخص المؤثر عالماً أو مفكراً أو رياضياً أو سياسياً أو فناناً. ومن هنا يستغل المعلنون الشخصيات المؤثرة للإعلان عن السلع والمنتوجات. وهذا المعيار يكاد يكون أهم معايير السلطة المؤثرة على الأذهان في حقل الفكر الإسلامي. فالعالم الشرعي له سلطة معرفية يستمدها من معرفته بالدين، وهذه السلطة تكسبه نفوذاً على الأذهان ويتحول العالم نفسه بما يملك من هذا النفوذ إلى معيار للخطأ والصواب في الحكم على الأشخاص والأفكار والوقائع. وكثيراً ما تتعدى مرجعيته لدى الذهنية التقليدية المجال الديني المحض إلى المجالات الثقافية والاجتماعية، والسياسية. وثمة عوامل تؤهل العالم لاكتساب النفوذ على الأذهان منها عوامل ذاتية تتوافر في العالم نفسه كغزارة العلم والتقى والورع، وجمال الأسلوب، والمواقف الشجاعة، وعوامل خارجية كالوظيفة الرسمية وحال المجتمع من حيث الانغلاق والانفتاح، وتوفر حرية التعبير والنقد مما يساهم في وضع العالم في حجمه الطبيعي. وتتعدد الشخصيات النافذة على الأذهان، ولهذا يقع الشاب المتدين عادة تحت نفوذ عدد من الشخصيات المؤثرة كالأب والمدرس وإمام المسجد والشيخ الموجه والعالم، فكل هؤلاء لهم حضور في ذهن الشاب المتدين ولهم بصمات على تفكيره وأحكامه على الأشخاص والأفكار والوقائع. وغالباً ما تقوم صراعات. بين الشخصيات المؤثرة للاستحواذ على أكبر عدد من الأذهان للتأثير عليها، وتستخدم أسلحة دينية خالصة في تلك الصراعات هذا بالنسبة للأفراد، وأما الاتجاه الفكري عموماً كالاتجاه السلفي" مثلاً، فثمة شخصيات لها حضورها وسلطتها المعرفية على أطروحات هذا التوجه. ولا يمكن فهم منطلقاته أو سير تفكيره من دون قراءة فكر تلك الشخصيات المؤثرة فيه، فشخصية كالإمام ابن تيمية تمتلك نفوذاً هائلاً داخل الاتجاه السلفي. فأطروحاته ومقولاته وخياراته الفكرية تشكل حضوراً كبيراً في الاتجاه السلفي، بل ان كثيراً من الأطروحات السلفية اليوم انما هو اعادة انتاج لخطاب ذلك الامام الكبير، وقد تحول بما يملك من سلطة معرفية داخل النسق السلفي الى معيار للخطأ والصواب في الحكم على الأشخاص والوقائع والأفكار. وأبو حامد الغزالي يملك سلطة موازية لسلطة ابن تيمية داخل النسق الصوفي. وأبو الحسن الأشعري يملك سلطة معيارية داخل النسق العقلاني. وحسن البنا يملك سلطة حاضرة في الذهن الاخواني. وهكذا لكل توجه فكري اسلامي شخصياته النافذة التي تعد سلطة معرفية تحتكم اليها الأذهان في حكمها على الأفكار والأشخاص والوقائع، وترسم الأطروحات الفكرية لتلك الشخصيات مساراً محدداً للأذهان داخل تلك الأنساق، وأي مخالفة أو نقد لتلك الأطروحات يعد خروجاً وانحرافاً يستلزم الانكار مما ولد عقلاً ثقافياً جمعياً يعيد انتاج نفسه ويعوق أي محاولة تجديدية تحرر العقول من متابعة غير الأصل الكتاب والسنة. هذه المعايير الثلاثة للسلطة ساهمت في تشكيل خريطة الذهنية التقليدية. وكان للظروف الزمانية والمكانية دور في إضفاء هذه المعايير أو بعضها على بعض الأفكار والمفاهيم. ويمكن تحديد لاعب رئيسي ساهم في التمكين للأطروحات الفكرية وأعطاها الصدقية لدى جمهور المتلقين وضمن لها الاستمرارية واكتساب معيار التقدم واكساب الدعاة اليها نفوذاً على الأذهان، هذا اللاعب الرئيسي هو سلطة الالزام. وسلطة الالزام تمارسها مؤسستان مؤسسة رسمية ومؤسسة غير رسمية، فالأولى هي السلطات السياسية الحاكمة، فإن كثيراً من الأفكار والمفاهيم والعادات والتقاليد التي يعتنقها الأفراد وينخرطون في الدفاع عنها كانت في أول نشأتها صدرت بالزام من سلطة سياسية حاكمة، فيما يشاهد تاريخياً أن كثيراً من الأفكار والمذاهب في التراث الإسلامي لم تأخذ بعدها في المجتمع إلا بعد أن تبنتها السلطات الحاكمة وبنت لها المدارس واحتضنت مفكريها وحاربت أو أهملت من لا يعتنقها، فالتوزيع الجغرافي للمذاهب الفقهية المذهب المالكي في المغرب والأندلس والحنفي في المشرق خرسان وما وراء النهر، والشافعي في مصر والحجاز والشام، والحنبلي في بغداد وضواحي دمشق، ثم لاحقاً في نجد، وما زال هذا التوزيع إلى اليوم، إنما تم في البدء بإلزام من السلطات الحاكمة. والاعتزال أخذ بعده في المجتمع وتمكن من التراث بعد أن تبنى المأمون أيديولوجية الاعتزال، وفرضها على الأمة وأصبح الاعتزال شرطاً لمن يتولى الوظائف الدينية، بل وصل الأمر إلى اشتراطه لمن يتولى تدريس الصبيان، ولهذا بقي الاعتزال بعد الانقلاب السني على يد المتوكل اذ بقيت الموصل الغالب عليها الاعتزال حتى القرن الخامس الهجري، وتحول المجتمع المصري إلى أيديولوجية التشيع الإسماعيلي بعد فرضه من قبل الدولة الفاطمية وبقي أثر التشيع حتى القرن السابع انظر طبقات الشافعية 8/391. وتحولت إيران إلى الأيديولوجية الشيعية الجعفرية في القرن العاشر الهجري بعد فرض الدولة الصفوية التشيع على شعب فارس وفرض الأمويين النصب وهو بغض علي بن أبي طالب فترة حكمهم فبقي أثر ذلك في الشام إلى القرن الرابع الهجري. قال النسائي "دخلت دمشق والمنحرف بها عن علي كثير فصنفت كتاب الخصائص رجوت أن يهدي به الله تعالى". سبر أعلام النبلاء 14/129. ومن الطريف أنه لما حدث به هجم عليه وضرب ثم مات بعد أيام وذلك سنة 303ه. فالسلطة السياسية بما تملك من وسائل ترغيب وترهيب حاضرة في التشكيل الفكري للعالم والمفكر ولجمهرة العوام وكثيراً ما ينخرط العالم والمفكر في الدفاع عن أفكار ومفاهيم وأطروحات فكرية اعتنقها بتأثيرالوسط الذي يعيش فيه وهو وسط لعبت السلطة السياسية الدور الأول في تشكيل مفاهيمه وآرائه الفكرية. اما المؤسسات غير الرسمية التي تمارس الإلزام فكثيرة منها المجتمعات المغلقة المحافظة. فخياراتها الفكرية معجونة بالعادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية التي يعد الخروج عليها أو المساس بها تهديداً لقيم المجتمع. وهنا يختلط الفكري بالاجتماعي، ويصبح العالم أو المفكر محكوماً بسلطة المجتمع المغلق وملزماً بتبني آرائه ومفاهيمه الفكرية، ومطالباً بالانخراط في الدفاع عنها. ولهذا يكثر في المجتمعات المحافظة المنغلقة الازدواجية بين ما يؤمن به الإنسان من أفكار وما يتظاهر به، والتغيير الفكري في المجتمعات المنغلقة بطيء جداً، وفي الوقت نفسه محسوس جداً، فإن أي تغيير مهما صغر يحدث دوياً هائلاً ويثير ضجيجاً مدوياً، لأنه تعبير عن تمرد ضد سلطة الزام قمعية. ومن المؤسسات التي تمارس سلطة الإلزام وتعوق مسيرة التحرر في الفكر الإسلامي التنظيمات الحركية الإسلامية لأن كل تنظيم يتبنى أيديولوجية فكرية ملزمة لكل أعضائه المنخرطين فيه. فيصبح التنظير لتلك الأيديولوجية والدفاع عنها من مهمات العضو الحركي وأي مخالفة لأيديولوجية التنظيم تعد تهديداً للتنظيم نفسه لأن التنظيمات الحركية في عمومها ترفع شعار الثقة مقدمة على الكفاءة. واقعون تحت سلطة الإلزام من التنظيم، فهم ملزمون بخياراتها ومبادئها الفكرية لا يملكون المقدرة على الاستقلال والتحرر من التبعية الفكرية المطلقة للتنظيم. وإذا وضعنا في الاعتبار أن غالب الملتحقين في التنظيمات الحركية هم من فئة الشباب وفترة الشباب هي فترة التكوين الفكري والتشكيل الأيديولوجي. أدركنا أن الحركات الإسلامية المعاصرة لعبت دوراً كبيراً في تشكيل الذهن الإسلامي القويم بما يحمل من أفكار ومفاهيم وأحكام تجاه الوقائع والأشخاص والمجتمعات، ونحن إذ نعترف لها بفضل نشر الوعي الديني ومحاولة إصلاح المجتمعات إلا أننا في الوقت نفسه نرى أنها ساهمت في إعاقة تحرر الذهن الإسلامي واستقلاليته، وكرست الجمود والتقليد، وذلك محافظة على مكتسباتها السياسية والاجتماعية. وأختم المقال بالتنبيه على أنه ليس شرط التحرر من تلك السلطات سلطة العدد، وسلطة النفوذ، وسلطة القدم، وسلطة الإلزام وإنما التحرر أن يكون الفرد على وعي تام بأثر هذه السلطات في تشكيل وعيه الفكري، وأحكامه على الأشخاص والوقائع، فيكون وقوعه تحت تأثيرها نابعاً عن قناعة ذاتية تتكئ على فحص ودراسة وتمحيص لا تقليد ومتابعة من دون وعي كما هو واقع الذهنية التقليدية التي ما زالت اللاعب الرئيسي في إنتاج الفكر الإسلامي اليوم. * كاتب سعودي.