الأحياء يحبون الحياة. جملة سهلة بقدر ما هي كاذبة. إنهم يحبون الموت أيضاً لهم ولغيرهم. فما الذي يجعل شاباً في ربيع العمر تحاصره فكرة أن يُنهي أيامه قاتلاً أو قتيلاً؟ وما الذي يجعل بعض الناس يجدون لذة شهوانية في ارتياد الحالات القصوى لمغازلة الموت وجهاً لوجه لا في القتل والقتال وحسب، بل أيضاً في مصارعة الثيران وتسلق الجبال والرياضة العنيفة والإقدام على شتى المخاطر؟ إنه المازوشية الاخلاقية، أي اغتيال الضمير الاخلاقي السادي للحياة في الحي نفسه كمرحلة قصوى لانتصار غريزة الموت على غرائز الحياة. هذه هي الفرضية المركزية التي تفسر بها سيكولوجيا الأعماق اختيار البعض، الذي يبدو للملاحظ غير الخبير لغزاً، للألم، للخطر وللموت. لذة المجازفة بالحياة في البر والبحر والجو لا تضاهيها لذة عند أولئك الذين لم تحل عقدتهم الأوديبية، أي فشل الخصاء الرمزي، في اقناعهم بأن جسد الأم يعود حصراً للأب: "إنهم مثل طفل في عنفوان عقدة أوديب لم يتخلوا عن الفوز بالام... الفوز بالعالم"، كما كتب المحلل النفساني الاخصائي في دراسة الأوضاع القصوى التي يضع فيها الناس أنفسهم، مارك موحي، الذي يضيف: "بركوب المخاطر يحاول المغامر استعادة الثقة النرجسية بالنفس كطريقة في التعبير الجسدي عن نقص الحب، المنحدر من الطفولة، وعن جرح في الإحساس بالقيمة الشخصية. إنه يبحث عن الاعجاب بكل ثمن لملء الفراغ الذي يسكنه". يكتشف ماكيس شامالبوس في كتابه "عظمة وبؤس أبطال الرياضة": "إنهم جميعاً يحاولون الاقتراب من الموت ... قائلين بينهم وبين أنفسهم: أنا أتألم فأنا إذن موجود". سيَرهم الذاتية تشتمل غالباً على أب أو عم أو قريب تعرض للموت حباً في الموت أو لدواع مهنية كملاح في البحر أو الجو. وهكذا صمموا منذ الطفولة الباكرة على التشبه بهذه الصورة المثالية. لأن كل فرد يحتاج، لكي يبني نفسه، إلى مثل أعلى شهير يحتذيه. لكن عند "الأبطال" هذه الحاجة دفعت إلى الحد الأقصى. كما أن هذا التشبه بنماذجهم يساعدهم على الحداد عليهم أي نسيانهم. ركوب الخطر هو أيضاً، يقول شامالبوس، نمط ما للاتصال بالآخرين: هكذا أُقيم لكم الدليل على استقلالي واختلافي وأصنع لنفسي اسماً. وهذا حقيقي طالما انهم كابدوا في طفولتهم ألم العقد النفسية فدفعهم ذلك لمراكمة المفاخر والبطولات لتناسيها. أبسط تعبير عن غريزة الموت هو الانتحار، أما افظعها فهو نحر الأبرياء أفراداً وجماعات، كما يفعل الارهابيون، وشعوباً وأمماً، كما يفعل القادة بقراراتهم الجنونية والانتحارية السياسية أو العسكرية. في 1939 قرر هتلر "إعلان الحرب على أعداء الجنس الآري"، فدشن المذبحة العالمية الثانية بالنتائج التي نعرف. وطوال الحرب ظلت غريزة الموت تملي عليه قراراته المميتة: اعلان الحرب في 1941 على الاتحاد السوفياتي دونما ضرورة، وهو الذي عجل بهزيمته، ورفضه في 1944 تقديم الإمدادات لجنوده في الجبهة الشرقية بذريعة أنهم لا يحتاجونها، لأنهم "على وشك النصر"! قرار جمال عبدالناصر الجنوني سحب قوات الأممالمتحدة من خليج العقبة الذي أدى إلى حرب 1967 التي ما زالت لم تتم فصولاً. قرار صدام حسين "تحرير" الكويت الذي ما زال العراقيون يدفعون ضريبته الباهظة من حياتهم... هذه القرارات القاتلة أملتها لا شعورياً الرغبة في العقاب الذاتي على حكام طغاة لا تقيد فانتازماتهم الهاذية مؤسسات. منذ أسابيع قررت القوى الإسلامية والقومية مقاطعة السلع الأميركية "عقاباً" لأميركا على مساندتها اسرائيل. لكن ما أن ندقق في القرار النظر حتى نكتشف أنه عقاب ذاتي، لأن معظم السلع المطلوب مقاطعتها تنتج في الفضاء العربي. مقاطعتها إذن لن تؤذي إلا الاقتصاديات العربية والعمال الذين ينتجونها المهددين بالبطالة. في اليوم الأخير من القرن العشرين تمرد أصحاب السيارات في مصر على قرار وجوب وضع "حزام الامان". بماذا نفسر ذلك، إن لم يكن بالرغبة في الاستشهاد على... قارعة الطريق؟ لولا ضيق المجال لاستعرضت عدداً من القرارات الرسمية والشعبية التي ختمها الموت ببصمته خلال السنة الماضية وحدها. من يغتالون غرائز الحياة فيهم أي الحب واللعب وجميع تجليات الاستمتاع بالحياة يدفعهم ذلك دفعاً إلى التحرر من حرمانهم بصب عدوانيتهم على الأبرياء الذين استفزوا بمجرد انغماسهم في ملذات الحياة غيرة جلاديهم المثقلين بمشاعر الخطيئة والمجروحين بصدمة الفطام بين الشهرين الثامن والعاشر، الفترة المفترضة لبداية تكون غريزة الموت، والتي عاشها الفطيم كانفصال مؤلم عن ثدي الأم وكاستقلال تراجيدي جسدي وذهني عنها. لكن المحلل النفساني ميزون نوف يلاحظ في كتابه "اقصى اليمين على أريكة التحليل النفسي" ان الإنسانية جمعاء مرت بصدمة الفطام، إلا أنها لا تتعاطى كلها المخدرات لتستعيد اصطناعياً لذة الرضيع المتعلق بجسد أمه أو الجنين النائم في أحشائها ولا تناضل في أحزاب اقصى اليمين أو الاصوليات الدينية. لماذا؟ لأننا جميعاً مسكونون بغريزة الموت التي توجهنا نحو اشكال عتيقة من اللذة، لكننا في الوقت ذاته مسكونون أيضاً بغريزة الحياة التي تحرك رغبتنا نحو مشروع لذة راهنة أو متوقعة للاستمتاع بموضوعات لذيذة توجد أمامنا لا وراءنا، أي في الحاضر والمستقبل لا في الماضي. أما عند ضحايا غريزة الموت لا سيما في أحزاب اقصى اليمين والاصوليات فلا وجود لهذه المراوحة، حسب الظروف الموضوعية والنفسية، بين غريزتي الموت والحياة. لأن الموت هو المحور الذي ينطلقون منه ويعودون إليه كرقاص الساعة. يتضح من خلال كتاباتهم انهم مسكونون بالهوس بالمقابر، بالأموات، بالاسلاف، بالتراث، بنقاء اللغة والعرق والهوية، بالحقد على الآخر الذي يسقطون عليه عدوانيتهم واحتقارهم اللاشعوري لأنفسهم، برُهاب الحداثة وقيمها ومؤسساتها والبحث عن بديل لها من خارجها في النكوص إلى الماضي وطوباوياته الفصامية والدموية التي تعبر عن فانتازم العصر الذهبي الرامز إلى أحضان الأم المرضعة. الشوق والرغبة، لب غريزة الحياة، غائبان عندهم. وغيابهما مميز للاكتئاب الدائم: الحزن، فقدان شهية الحياة، اجترار مشاعر الذنب والعقاب الذاتي، الحداد الدائم والأفكار السوداء. كثيرون من المكتئبين انتحروا وينتحرون. وبالمناسبة فالانتحار يختفي خلال الحرب، لأن حب الموت يجد فيها بديلاً مثالياً للانتحار. في كتابه "اسهامات راهنة في الحرب والموت" يلاحظ فرويد: "روابطنا العاطفية وحدّة حزننا الذي لا يُطاق تصرفنا عن البحث عن الخطر لنا ولذوينا .... ما يصرفنا عن البحث عن الخطر هو السؤال الذي نطرحه على أنفسنا: في حال الموت من سيعوض الابن لأمه والزوج لزوجته والأب لأبنائه؟". غياب هذه الروابط الوجدانية والأسرية هو من بين العوامل التي تجعل الشباب المقاتل في كشمير يقول لمراسل "ليبراسيون" عن الهنود: "الفرق بيننا وبينهم انهم يحبون الحياة بقدر ما نحب نحن الموت". وهي تقريباً الكلمات ذاتها التي يقولها شباب الحركة الإسلامية المقاتلة في الجزائر عن جنود الجيش الجزائري. كيف لا يفضل الموت أخذاً وعطاء على الحياة استمتاعاً وامتاعاً من صاغ وعيه ولاوعيه تريبة عائلية عصابية تخفض عتبة ما هو إنساني فيه، ولقنه تعليم قروسطي الكفر بالعقل واحتقار الجسد واسترخاص الحياة، واكمل غسل دماغه إعلام توتاليتاري باللحن الجنائزي ذاته، وحكمت مجتمعات مأزومة على مستقبله بالإعدام، وحوله انفجار سكاني، مزق الروابط الأسرية والعاطفية، في لاشعور أبويه الفقيرين من فرد إلى رقم، وعلمته تنظيمات أصولية متغولة كيف يصمد أمام استرحام الأطفال، وكيف يغدو بطلاً في النحر والانتحار؟