تراءى لها أن الوقت لا يزال مبكراً. فقد استفاقت لتوّها ولم تلفح أنفاسها رائحة القهوة الصباحية، وسيلته المبتكرة لإيقاظها من دون أن يصاب بشعور الذنب لأنه قطع عليها غفوتها. وهي اعتادت على هذا الطقس، فرصة الدلال الوحيدة المتاحة لها قبل أن يغادر الى عمله وتغوص هي في أعمال المنزل ورعاية الأولاد وإدارة شؤونهم. تثاءبت على مهل وتمطت في السرير وكحلت عينيها بمناظر الصبح الوافدة تباعاً: الشمس الوادعة الدامعة المطلة بخجل، سطوح البيوت المزروعة بالأنتينات والصحون اللاقطة، صوت العصافير وهي تتنقل على زوايا الشبابيك... غبطة عارمة تتملّكها فجأة ونسمة منعشة تتغلغل في مسامها... إنه أيلول! الشهر الأحب الى قلبها... الشهر الذي يحضن أجمل ذكرى في حياتها: ذكرى لقائهما وذكرى زواجهما! لكنها مع استقبال هذه الذكرى في خيالها تستشعر وخز حرارة تنغّص عليها انسياب مشاعرها! "لو يتذكر هو مرة واحدة ذكرى زواجنا"! لو يبادر بخطوة غير منتظرة تخترق هذا الروتين اليومي المزدحم فتعيد الانتعاش الى حياتهما وتفرحها! إنها، وعلى رغم مرور خمس عشرة سنة على زواجهما، لا تزال من حين الى آخر تلوذ الى استراحة خيالية رومنسية تنسجها من تفاصيل تلملمها من الذاكرة وترفدها بلمحات تخطفها من أفلام قديمة شاهدتها... "لكنه رجل" قالتها لنفسها "والرجال واقعيون قلّما تهمهم هذه الزوائد التي يتطلب ابتكارها خيالاً مجنحاً يتجهون به عادة الى تطلعات أخرى". لذلك عليها هي دائماً أن تقوم بالمهمة، تعدّ احتفالاً بسيطاً وعشاء على ضوء الشموع يفاجأ به عند عودته مساء... وهي كالعادة، اهتمت بالأمر وأعدّت لائحة بالحاجات الضرورية وستحرص على التنفيذ خلال النهار... وتنهدت بغصّة: "ما أبعد اليوم عن الأمس!". يبدو أنها تمادت طويلاً في تمطيها واستذكاراتها واندفاعاتها الشعورية فلم تتنبه لتقدم الوقت، لكن ضجة غير عادية آتية من صوب المطبخ قطعت عليها أفكارها وجعلتها ترفع الغطاء عنها بسرعة وتدلف الى مصدر الصوت. أما هو، الزوج الرصين، الملتزم جداً بواجباته العملية والعائلية، فقد استيقظ باكراً كعادته ومشى بخطى آلية ليمارس طقوسه اليومية قبل أن يتوجه الى عمله. هذا النفق الذي لا يغادره إلا وقد هبط الليل. لفتت نظره ورقة منسية على الطاولة كانت زوجته دوّنت عليها فاتورة الأغراض لهذا اليوم. حانت منه التفاتة فضولية غير معتادة، على مضمونها فقرأ في أسفل اللائحة: "قالب حلوى". وتساءل: ما المناسبة؟ إن زوجته حريصة كل الحرص على لياقتها البدنية وعلى صحة أفراد الأسرة وهي لا تبادر الى شراء قالب حلوى إلا في المناسبات. وراح ينقّب في رأسه وفي ذاكرته: ما هي المناسبة التي ستحتفل بها زوجته؟ الروزنامة المعلّقة على الجدار المواجه أنقذته. إن اليوم هو ذكرى زواجهما! ولمعت الفكرة بسرعة! لن يكون هذه المرة ضحية لملاحظات زوجته المريرة أحياناً بأنه، حتى هذه المناسبة، لا يتذكرها وبأنه يدمن على عمله وينسى كل شيء آخر... حتى هم: زوجته وأولاده لا يتحدّث إليهم ولا يجعلهم يتمتعون برفقته إلا نادراً... هذه المرة لن يسمح لها بأن تكرر مقولتها الشهيرة: "إن الرجال مادّيون يتقنون فن إماتة الحب!". سيكون هو صاحب المفاجأة هذه المرة! اتصل بمركز عمله وطلب يوم إجازة، على حسابه الخاص إذا لم يكن الأمر ممكناً، وأوصى على حلوى لائقة طلب إعدادها بسرعة لحاجة طارئة وأرفقها بباقة زهور وعاد الى المنزل. أفرحه انها لم تكن قد استفاقت بعد فعمد الى إحداث ضجة تستدرجها الى المطبح حيث المفاجأة السارة! وهرعت بالفعل تتساءل: ما الذي يحصل؟ "أنت أجمل ما حصل لي في الحياة يا حبيبتي!" بادرها بسرعة وذراعاه جاهزتان للحظة عناق. أحسّ بصدق الفرح الذي انتابها ورأى "أن المرأة كائن وديع لكنه رومنسي أبدي تغريه المظاهر والطقوس". تناهى الى مسمعها وهو يحضنها صوت تجعيد ورقة ينبعث من يده فضحكت لاكتشافها سرّ تذكّره المفاجئ لكنها كتمته قائلة في نفسها: "إن الرجال ليسوا بالسوء الذي نتصوّره... إنهم فقط يحتاجون الى منشّط... للذاكرة". وقررت أن تضمن اللائحة في المرة التالية بنداً إضافياً: "هدية قيّمة!".