بوفاة ادوارد سعيد ازاح الموت من طريق الاعلام الاسرائيلي الاميركي صخرة كبيرة كانت تعيق اندفاعه المتنامي وسط المجتمعات الغربية. وبهذه الوفاة ايضاً فقدت السلطة الفلسطينية وياسر عرفات بالذات معارضاً صلباً قرأ في اتفاق اوسلو هزيمة عربية اخرى سببها الجهل، او تجاهل دور الانتليجنسيا الفلسطينية. ومع انه تسلّح بالحافز الوطني لمقاومة سرطان الدم مدة اثنتي عشرة سنة، الا ان انهيار مناعته الجسدية منعه من اكمال آخر مقالاته عن فلسطين والعراق، وهما الموضوعان اللذان استحوذا على تفكيره لكونهما مرتبطين بمشاريع السيطرة الغربية على الشرق. والمعروف ان ادوارد دشّن حملته الثقافية الاولى سنة 1978 بعرض نظرية "الاستشراق" التي احدثت دوياً مروعاً داخل الاوساط الاكاديمية الغربية، بسبب اتهامه للكتّاب والشعراء والرسّامين والمؤرخين البريطانيين والفرنسيين والالمان والبرتغال بأنهم ساهموا في خلق صورة نمطية عن الشرق وصفوها بأنها متخلّفة، ومنحطّة، وغير متحضّرة وقاصرة عقلياً. وفي سنة 1992 اصدر كتابه الثاني عن هذا الموضوع وعنوانه "الثقافة والامبريالية" دعا فيه الى ابتكار حركات فكرية كالتي حدثت في الهند بعد الاستعمار، لمساعدة العرب على التحرر من الماضي المظلم. لكنه اعترف بأن القفزة التاريخية المطلوبة تحتاج الى جهد استثنائي للتغلب على اوهام صنعها 60 ألف كتاب اصدرها مستشرقون ما بين سنة 1800 و1950. وهو يقرّ بصعوبة الانتقال من مرحلة الاستعمار الثقافي والفكري الى مرحلة الانعتاق والاستقلال. وانما كان دائماً يطالب المواطن العربي بضرورة تحقيق وجوده كطرف مساو للاميركي والاسرائيلي بحيث لا يبقى الضحية الغائبة غير المعترف بها انسانياً وسياسيا. وفي هذا السياق، حرص ادوارد سعيد دائماً على مهاجمة الصهيونية بشراسة لانها في اعتقاده، بدأت نشاطها بإقناع الرأي العام العالمي بمقولة غولدا مائير: أرض بلا شعب… لشعب بلا أرض". اي ان هذه الايديولوجية الماكرة كانت تتعمد تغييب الفلسطيني او محوه من الوجود في سبيل تثبيت هدف راسخ يعفيها من المسؤولية التاريخية تجاه الشعب الفلسطيني. وربما ازدادت قناعته بهذه المسألة اثر المناقشات التي كان يجريها على منابر الاندية او شاشات التلفزيون مع مسؤولين اسرائيليين او اساتذة يهود. وحدث في ربيع 1988 عندما كان يستقل الطائرة المتجهة من نيويورك الى لندن، ان دخل السفير الاسرائيلي لدى الاممالمتحدة بنيامين نتانياهو وجلس في مقعد امامه. وصدف اثناء الرحلة ان وقف نتانياهو ثم التفت الى الوراء ليفاجأ بوجود ادوارد سعيد يجلس خلفه. وتسمّر في مكانه قبل ان يطالب المضيفة بتغيير مقعده فوراً. وهذا ما جرى بالفعل، الأمر الذي جعل المضيفة تعلّق على الحادثة بالاعتذار من ادوارد سعيد وتقول له: "يبدو ان السفير خائف منك". وكتب ادوارد سعيد عن هذه الواقعة مقالاً تحت عنوان: "الرفض الكامل والقبول الكامل" يصف فيه سلوك نتانياهو بالمقارنة مع سلوك شمعون بيريز مثلاً. وتذكر ان تيد كوبل، مقدم برنامج "نايت لاين" كان يضطر لاعلام المشاهدين ان فكرة فصل ادوارد عن نتانياهو وجلوسهما في غرفتين متباعدتين هي بطلب من السفير الذي وافق على المناقشة وليس على مبدأ التساوي ولو في المكان. ولقد اتخذ من هذه الحادثة الرمزية مثلاً ليؤكد ان نتانياهو وبيريز مرتبطان واحدهما بالآخر في قضايا ذات اهمية قصوى، على رغم اختلافهما على الأسلوب. ذلك ان الاثنين يرفضان اعطاء الفلسطينيين السيادة الكاملة على الأرض. ومعنى هذا ان "ليكود" وحزب "العمل" متفقان على جوهر السلام، وانما يظهران وكأنهما مختلفان على اسلوب المصالحة. في كثير من المناسبات قال ادوارد سعيد ان الوضوع المأسوي الذي يعيشه الفلسطينيون في الضفة وغزة لا يختلف كثيراً عن وضع السود في المجتمع الاميركي - خلال القرن العشرين. وقد أثبتت حركة مارتن لوثر كينغ ان هناك هوة عميقة من الكراهية والتمييز العنصري تمنع الغالبية البيضاء من معاملة السود كطبقة متساوية لا يجوز ابقاؤها قيد التخلف والاضطهاد. وللخروج من حال التنافر المتواصل، يطالب سعيد الفريق العربي بضرورة اجتراح محاولة منظمة ودائمة لإجبار اسرائيل على تغيير نظرتها الفوقية الاستعلائية بطريقة تدخل الصورة المتحضرة في الوعي الاسرائيلي. لكن تغيير النظرة العربية، كما يدعو سعيد، يجب ألا يكون بشكل ملائم لطروحات ورثة المستشرقين من أمثال برنارد لويس وفؤاد عجمي وفرانسيس فوكوياما وتوماس فريدمان. وكان يقول ان احد الأفكار الرئيسية لخطاب "الاستشراق" منذ منتصف القرن التاسع عشر اصراره على الإدعاء بأن العرب مبتلون بذهنية وبلغة لا فائدة منهما للواقع. وصدّق عرب كثيرون هذا الهراء العنصري، كما لو ان لغات وطنية بأكملها مثل العربية والصينية تمثل بشكل مباشر عقول مستخدميها. وفي تصوره ان هذه الفكرة هي جزء من الترسانة الايديولوجية التي استخدمت في القرن التاسع عشر لتبرير الاضطهاد الاستعماري. وعليه رأى ان العرب يوبخون دائماً لعجزهم عن التعامل مع الواقع، أو لتفضيلهم اللغة الطنانة على سرد الحقائق. ولقد حمل بقسوة على الذين اشتركوا في وضع تقرير برنامج التنمية التابع للامم المتحدة سنة 2002، وقال انهم تعمدوا ادانة انفسهم لكي يثبتوا ان العرب قادرون على مواجهة الحقيقة، وان التقرير هو برهان على التفكير العربي الجديد الذي يتوافق مع البراغماتية الاميركية! بعد استفراد ياسر عرفات بقرار تأييد صدام حسين في غزو الكويت، قدم ادوارد سعيد استقالته من المجلس الوطني الفلسطيني إلى جانب إبراهيم أبو لغد وعبدالمحسن قطّان ومحمود درويش وشفيق الحوت. ولما وقع أبو عمار اتفاق أوسلو هاجمه ادوارد بعنف بسبب تجاهله مواقف الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج. واتهمه أيضاً بتقديم تنازلات تاريخية في وقت لم يحصل مقابلها على دولة، وإنما على حكم ذاتي. وهكذا بقيت السلطة الفعلية في أيدي الإسرائيليين، بما في ذلك: السيادة، والأمن، ومستقبل القدس، والمستوطنات، والمعابر، والمياه. واعتبر أن واجب المثقف ألا يصبح واحداً من أفراد الجوقة، وأن يفضح الجوانب الخفية المتعلقة بحقوق اللاجئين وازالة المستوطنات واسترجاع القدسالشرقية. والمؤكد أن انكار النكبة الفلسطينية على أيدي الصهاينة، كان النقطة المركزية في حملة ادوارد سعيد على عرفات. لقد اتهمه بالتغاضي عن معاناة الضحية وبنسيان سجل طويل من الممارسات المعادية للفلسطينيين. وكتب له يقول: "مثلما يطلب اليهود من العالم الاعتراف بمأساتهم، كان من الواجب انتزاع اعتراف من رابين وبيريز بالظلم الذي ألحقته إسرائيل بالفلسطينيين، بقصد العدل لا بقصد الانتقام". بين الأماكن المحببة التي امتدحها ادوارد سعيد واعتبرها مرافئ حرة وآمنة لمرساة سفينته السياسية والاجتماعية، كانت القاهرةوبيروت. كان يرى فيهما المدينتين الوحيدتين في المشرق العربي اللتين تعرضان ما في حياة المدينة من بهجة وثقافة. وقال إنه لا يجد في غيرهما تلك الحيوية والحركة، إضافة إلى شعور الاعتزاز بتاريخ المدينة وتقاليدها وأدبها وأساطيرها وعاداتها الشعبية. ومن مميزات هاتين العاصمتين في رأيه، وجود حد أدنى من الديموقراطية التي من دونها تبقى الأجواء مجلببة باليباس الروحي والخوف والقلق. وقبل أن تكرمه الجامعة الأميركية… وقبل أن يفتح له جنوبلبنان "بوابة فاطمة" لكي يرشق إسرائيل بحجر، وصف بيروت بالقول "إنها كالمعجزة في فيضانها بالسخاء والأمل من نوع ليس له مثيل. فهي مزيج غريب من الماضي والحاضر، من السهل والجبل، من الثبات والزوال، من الجمال والقبح، كل هذا موجود في بيروت، ولم تستطع الحرب الأهلية اخماده". ومع أن سعيد رأى في لبنان حيوية نادرة مقارنة بالعالم العربي "الغاطس في الكآبة والاحباط"… إلا أن انتماءه الشخصي ظل موزعاً على مواقع عدة، وربما ساهمت غربته في تشكيل شخصيته العالمية بحيث أن عامل الجاذبية كان يشده إلى مصر ولبنان والضفة الغربية والولايات المتحدة. ولقد أوقعه هذا التشرذم العاطفي بالاحراج، تماماً مثلما أوقع الكاتب أمين رشدي المعلوف، الذي وصف هويته بأنها وليدة مجتمعات متنوعة. وهذا ما يلمسه القارئ من مراجعة مذكرات سعيد بأن صناعة أفكاره ومواقفه كانت مرتبطة بأماكن طفولته وصباه، كما هي مرتبطة بأصدقائه ومعارفه في المدرسة والكلية والجامعة. في سنواته الأخيرة لم يكن ادوارد سعيد مؤمناً بأن وجود دولتين فلسطينية واسرائيلية هو الحل الأفضل للقضية العالقة منذ 1948. ذلك ان زياراته المتقطعة للضفة الغربية أثبتت له صعوبة اقامة دولة قابلة للحياة والنمو على بقعة لا تزيد مساحتها على 24 في المئة من أراضي الضفة. خصوصاً أنها سلبت من المياه والحكم المستقل والأراضي الصالحة للزراعة. والحل كما وصفه، في اقامة دولة ديموقراطية ثنائية القومية، يتعايش فيها الفلسطينيون والاسرائيليون على قدم المساواة، وربما تصور ان الوقت سيخدم الكثرة العربية، وان واحدة ستنتصر على الأخرى بزيادة عدد السكان. سؤال أخير: كيف كان يتصور ادوارد سعيد النهاية الحتمية لمأساة فلسطين، وما هو الحل الذي اقترحه للخروج من دوامة العنف؟ كتب يقول: "نحن بحاجة الى استراتيجية جديدة للسلام، والى حركة سلام تقوم على أسس المساواة والعدالة، والى خطاب يضع تاريخنا على الاجندة العالمية لرفع مظالم التاريخ. ولن يحصل هذا اذا اتخذنا موقف الاستجداء، بل علينا تنظيم الموارد الوفيرة وتعبئتها لدى الجاليات الفلسطينية في الشتات، من ضمن ذلك المال والمواهب الانسانية والارادة الواعية. لكن في النهاية لا بديل من استحداث خطاب وطني لا يحمل أياً من شعارات الماضي البائسة، أو المفاهيم الحمقاء التي تقوم عليها عملية السلام الأميركية الاسرائيلية. ان الجيل الحالي من القادة، عاجلاً أم آجلاً، في طريقه الى الزوال. وعلينا من الآن أن نبدأ بالتفكير البنّاء لمستقبلنا. لقد عانينا من قرن كامل من الخسارة والفشل. واليوم يجب أن نفكر بغد يقوم على تغيير أنفسنا...". كتب الصحافي المعروف روبرت فيسك مقالة في صحيفة "الاندبندنت" يقول فيها انه التقى صديقه ادوارد سعيد آخر مرة في بيروت. كانت علامات المرض مرسومة على وجهه الهزيل المغطى بطبقة خفيفة من الشعر الأبيض. ولما قال له فيسك اننا بحاجة اليك حياً، أجابه ادوارد بنبرة عسكرية: لن أموت... لأن هناك غالبية من الناس تريدني ميتاً... وبعد مدة قصيرة توفي ادوارد سعيد، ولكن ما كتب عنه في صحف العالم يدل على أن الذين كانوا يتمنون موته لا يمثلون أكثر من قلة لا تريد الحياة لأحد... * كاتب وصحافي لبنان.