على مدى عشرة أيام وفي المركز الثقافي الملكي في عمان بحضور جماهيري لافت، إضافة الى عدد من مسؤولي الاتحاد الأوروبي، وبينهم بعض السفراء - أقيم مهرجان الفيلم الخامس عشر للاتحاد الأوروبي كما يقام عادة مثل هذا الموعد من كل سنة - اقتصر المهرجان هذا العام على الأفلام الأوروبية، بينما كانت في السابق تقدم أفلام أخرى غير أوروبية. ومعظم الأفلام كانت مترجمة إلى اللغة العربية. وضم المهرجان عشرة أفلام لم يسبق لجمهور عمان أن شاهد أياً منها، ربما باستثناء الفيلم الألماني "ما وراء الصمت" الذي أذكر أنه قدم في مناسبة سابقة. اختلف النقاد في صحف عمان على تقويم هذه الأفلام. ولكن من الممكن وضع الفيلم الألماني "ما وراء الصمت" في مقدم الأفلام الممتازة علماً انه فيلم يدفع الدموع إلى العيون في أكثر من مشهد. الفيلم يحكي عن الفتاة الذكية لارا التي ولدت لأبوين أصمين أبكمين - ولذا فهي حملت منذ نعومة أظفارها مسؤولية كبيرة، إذ كانت وسيلة الاتصال الوحيدة بين والديها والعالم الخارجي بما في ذلك التعاطي مع المكالمات الهاتفية التي ترد لأحد الوالدين أو إجراء المعاملات المصرفية أو مقابلة المدرسين. وبواسطة عمتها تتعرف لارا الى آلة الكلارينيت التي تجيد العمة العزف عليها. وعندما يتقدم أداؤها في هذه الآلة تقرر السفر من بلدتها البافارية الصغيرة إلى المدينة الكبيرة برلين لإكمال دراستها على الآلة، ولكن الانفصال عن والديها لم يكن سهلاً، فهي ممزقة بين طموحها الذي تغذيه العمة والتي هي على خلاف دائم وقديم مع والدها الأصم والأبكم، وبين احساسها بالمسؤولية عن والديها... لكن العمة تشد من أزرها وتقنعها بأنها قامت بواجبها خير قيام ومن غير المعقول أن تضحي بمستقبلها من أجل والديها بعدما صار في وسع اختها الصغرى أن تقوم بمهمتها. وتنتقل لارا إلى برلين حيث تتعرف الى شاب يصدف أنه مدرس أولاد صم بكم، الأمر الذي يجعلها تعجب به لأسباب تتعلق بوالديها... وفي برلين تتفتح الفتاة اليافعة وتعرف الحب وتحرر جسدها إلى درجة أن تسبح عارية في إحدى البحيرات الصغيرة بتشجيع من عمتها. وإحدى ذرى الفيلم الدرامية نشاهدها عندما يحضر والدها الأصم ليحضر حفلة المسابقة على الكلارينيت أمام اللجنة التي ستقرر مدى صلاحيتها للاستمرار في المعهد العالي... ترى لارا أنها لفتة جميلة ومؤثرة من والدها والذي كان ممانعاً ورافضاً كلياً لاتجاهها إلى الكلارينيت... لقطة مصالحة بين عالمين يتغلب فيها الحب والحنان على أي تناقضات أو سوء فهم. مشهد جميل مؤثر وخاص وعلى درجة عالية من الحرفية في كل المستويات من إخراج كارولينه لنك. "الإسكندرية" من اليونان هذا الفيلم اليوناني يمكن وضعه أيضاً في مقدم الأفلام الجميلة في المهرجان... والحقيقة ان المرء وخلال عرض الفيلم لم يكف عن التفكير في أن هذا الفيلم له علاقة وثيقة بالرباعية الاسكندرانية الشهيرة للروائي لورنس داريل الذي عاش بدوره في الاسكندرية سنوات طويلة قبل مرحلة عبدالناصر التي أرغمت سكان الاسكندرية من غير المصريين على النزوح من مدينتهم ابتداء من عام 1955. الفيلم يحكي عن أم يونانية وابنتها تعيشان في فرنسا وتأتيان في إجازة إلى الاسكندرية حيث تتعرف الفتاة إلينا الى يسري وهو شاب مصري، الأمر الذي يوقظ ذكريات الأم نينا التي عاشت قصة حب مع الكاتب الفرنسي إلبرت يانوفسكي في مطلع شبابها عندما كانت مقيمة في الاسكندرية... تلحّ الابنة على أمها أن تروي لها قصة حبها، ولكن الأم لا تخبر ابنتها بالحقيقة كاملة... ولكن مع إحساس الأم بأن ابنتها المرتبطة بعلاقة خطوبة مع شاب في باريس توشك على الارتباط بيسري، فإنها تكشف مزيداً من الجوانب عن قصة حبها القديمة للكاتب الفرنسي. ثمة مقاربة ضمنية بين عالمين عاشتهما الاسكندرية، مرحلة ما قبل عبدالناصر حيث لم يكن المصريون يظهرون في الفيلم إلا باعة أو خدماً - والمرحلة الحالية إذ يتحول عاشق الإبنة المصري يسري إلى ند موضوعي للكاتب الفرنسي... وأيضاً يمكن إضافة أننا أمام فيلم يؤكد مقولة علم النفس عن التوحد اللاشعوري بين الأم وابنتها... فيلم جميل جريء في لقطاته الحسّية الصريحة مع مساحات رائعة مهجورة على الشواطئ... فيلم ناعم ساحر شاعري، لكن لماذا سيطر على الاحساس بأن الفيلم جميعه يتم في إطار شفاف من النوستالجيا الاستعمارية غير المباشرة، حنين الى "اسكندريتهم" والتي هي أولاً وأخيراً مدينة عربية على رغم بعدها الكوزموبوليتي. "إيلا..." رائعة بلا حدود "إيلا..." هو اسم الفيلم الفنلندي الذي يروي قصة حقيقية عن عاملة تنظيف يتم تسريحها من عملها من دون وجه حق... لكن أيلا لا تستسلم فهي بحاجة لعملها... وبمساعادة أحد المحامين الذي صدف أن عملت في مكتبه كعاملة تنظيف ترفع دعوى ضد الحكومة وسط استهجان كل من يحيطون بها بما في ذلك صديقها المغني عازف الغيتار - ولكن إيلا تكسب الدعوى وسط ذهول الجميع لتنتقل من شخصية سلبية ضعيفة إلى إنسانة شجاعة... إيلا إنسانة بسيطة وأشبه بقديسة معاصرة، فهي تتحمل طيش ابنها المراهق الذي يخرج من السجن ويستمر في طريق الانحراف حتى أنه يضربها ذات مرة - ولكنها تتحمله صابرة باعتبار أن ليس له أحد غيرها - وهي تتحمل نوبات غضب صديقها المغني البسيط في أحد الملاهي والذي كثيراً ما يهجرها ولكنها بنوع من الحدس الواثق تعرف أنه سيعود... وهو يعود فعلاً... إيلا... إمرأة رائعة... بسيطة شجاعة من دون إدعاء. أم محبة وعاشقة من دون شكوى فضلاً عن أنوثتها وجاذبيتها وحلاوة روحها... إنها إمرأة يقع المرء في حبها ويتمنى أن يلتقي إمرأة مثلها... "مصائب صغيرة" فيلم بلجيكي يعكس تأثير العالم الاستهلاكي في حياة الإنسان المعاصر وبخاصة في مجتمعات الوفرة في العالم الغربي... وهو عبارة عن قصة صغيرة عن زوجين يعانيان الاكتئاب والقلق فتهرب الزوجة إلى صديق الزوج لتصبح عشيقته من دون مبرر واضح سوى أنه مثلها مجنون بالتسوق وارتياد السوبرماركت. فيلم صغير لا يخلو من بعض "الغلاظات" البلجيكية ولولا سحر الممثلة ماري ترينيتجانت لما استطعنا إكماله حتى النهاية. "الأطروحة" هو اسم الفيلم الإسباني عن فتاة تعد أطروحة دكتوراه عن العنف في السينما - وتقودها أبحاثها إلى اكتشاف جرائم مروعة يقوم بها أحد أساتذة معهد السينما وأحد الطلبة الشاذين... فيلم يبدو أنه مأخوذ من أحداث حقيقية مروعة، إذ نشاهد أفلاماً عن قتل فتيات بعد تعذيبهن وقتلهن ثم تقطيع أجسادهن. يمكن القول أنه فيلم رعب... لكن الرعب هنا ليس خارجياً، لكنه ينبع من الداخل وبخاصة عندما تتهيأ أجواء تشك فيها الفتاة في كل ما حولها... وضع قد يتجاوز موضوع الفيلم الى ما هو الى حال "اللايقين" التي يعيشها الانسان المعاصر. سبق ان المرأة في جميع حالاتها كانت هي البطلة في معظم الأفلام - فكأن منظمي المهرجان من دون أن يقصدوا قاموا بإبراز دور المرأة واحتلالها مركزاً أساسياً في المجتمع الأوروبي المعاصر. وهذا هو التقدم بعينه. بهذا المعنى فإن هذا المهرجان كان تحية تكريم ومحبة للمرأة، ولعل المنظمين من دون أن يقصدوا أكدوا مقولة كانت ولا تزال تثير حفيظة المحافظين في كل المجتمعات: "المستقبل... إمرأة".