أصدرت الشاعرة الأردنية زليخة أبو ريشة كتابين حمل الأول عنوان "غجر الماء" الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة والثاني "تراتيل الكاهنة ووصايا الريش" وزارة الثقافة السورية، دمشق، وفي الكتابين تواصل الشاعرة تجربتها في التعبير عن مكنونات النفس والآلام التي تحدثها مواجهة العالم والعصر. هنا قراءة في الكتابين: الإهداء الذي افتتحت به زليخة أبو ريشة كتابها "تراتيل الكاهنة ووصايا الريش" هو "ثغرة" الحب الأولى التي يتسلل منها القارئ الى قلب الشاعرة، وروحها المغرَّبة، المقيمة والمتجولة في بحار الحب الزئبقية. وهذا ما يبقيها تعيش كَبَدَ الفجيعة، ووهم بلوغ شواطئ الحب البراق الخفي. والإهداء "الى ربى ابنتي/ التي لا تكترث بشعري ولا دواعيه" هو اختزال شبه طفولي عفوي، متمرس وماكر في آن واحد. إذ ان الحب كما عبر عنه الرومانطيقيون، وتحديداً الألماني شيللر هو "صدمة الروح الأولى بعد الولادة". وهو أيضاً اختزال لمخزون البراءة الكامن في الإنسان عموماً، والمتجلي في السلوك الطفولي خصوصاً. انه تمرس مسبوغ بالمكر المشاكس، العائد من جولات أو رحلات عمرٍ استنتج ان لا جدوى للانسياق ولا الابتعاد، ولا المراودة، هو محنة إذاً، أو تلبُّس، أو اصطفاء لا يسعى اليه ولا سبيل لرده. وعلى رغم صدق الحدس بالانكسار والتراجع الى أدنى السفوح، وعلى رغم أيضاً مما عبّر عنه ابن عربي حين قال: "وقد بات قلبي قابلاً كل صورة"، فهذا ما استعارته أيضاً زليخة، ولكن في سياق الزهو الأنثوي الطاووسي المتشفي، وليس كما يرى اليه الحلوليون الصوفيون، ولعل ما أفصحت عنه الشاعرة في قصيدتيها "للمجدلية أحوالها" و"عصافير 95 تطير في كل اتجاه" خير تعبير على ما تذهب اليه في رؤيتها المتميزة عن الكثير عما هو مطروح في عالم القصيدة الأنثوية، العربية. وتستطرد أبو ريشة في اندياح الأنثى وغنجها أو دلالها، الذي هو ربيب الحب، ويقتات من منابته ومساربه. لكن هذا الحب يرتاب من مريديه، ولعله يتحصّن ضد انزلاق من هنا، أو كبوة من هناك. وتحاول الشاعرة أبو ريشة ان تزيل حواجز الزمان والمكان، وتدك أسواره ومداميكه بثورة مكنون الأنثى وما يختزن قلب المرأة العاشقة. يتضح ذلك حين تخاطب المعشوق الرجل بكل حرارة الكائن المقطوف من شجرة صحراء الحب الأزلي الجرداء. وهي أي المرأة بكل ما ترمز اليه من غواية وفتنة واضطهاد. وتخاطب الرجل الذكر من أمكنة مختلفة، متنوعة، تمزج العربي بالأجنبي، ذا السلالة بالهجين، ويتجلى هذا التوجه لدى الشاعرة في عناوين أحاديثها معه ورسائلها اليه من أكثر من موقع، وأكثر من مدينة مثل: "القدس، دمشق، إكستر، بغداد، اكسفورد، وهران، امستردام، برلين، لندن، القاهرة، سيدي بوسعيد، باريس، بيروت". وتعمد زليخة الى اختراق جدار المكان والآخر مؤسلبة رؤيتها في ذلك مع سياقات وردت في "نشيد الأناشيد" ولا سيما حين بدت مخاتلة لتقليد ملء الصفحة عبر تفريغ الشحنة الكتابية، من طريق كتابة النص بالحبر الفاتح، والمتن والهوامش بالحبر الداكن. وصنيع كهذا يحيل الى أجواء ملتبسة، رجراجة يستحيل ازاءها انعقاد القول الفني على الشخصي - العيني واللاعيني، وعلى المجرد - التعبيري، والحسي المستعار. في فصل "الترتيلة الأخيرة" ترتيلة التفكك تصوغ أبو ريشة لغتها الشعرية الجارحة، التي تخفي تواطؤاتها وأوجاعها وانفطارات بواكير الروح ودغل الأشياء. وعلى ايقاع لغة تترمّز باجتراح أفعال وأوصاف تطرق أبواب المحبوب في انساق فنية - لغوية وثنية. وهي في هذا تسلك دروباً، وان تكن سُلكت من قبل، الا ان منعرجاتها والتواءاتها ومنعطفاتها الوعرة، الخطرة تجعلها جديدة تماماً، فيخرج منها الداخل اليها كمن دخل معصوب العينين الى حلقه روادها العفاريت ومادتها قرع طبول وصنوج وهلوسات. فالمفردات التي من مثل "المارق، السائد، الكفور، النؤوم، الكفيل، القارئ المتربص، المعقال" الخ وتلك التي تتخذ فيها من الحروف العربية وما تعنيه أشكالها، وتنويعات الصور المنفتحة عليها وان بدت غير مبتكرة لكنها مندغمة تماماً في سياق الدفق الروحي المتفلت جسداً فائراً متفجراً من أنهار كبته الأزلي. بدا هذا السلوك التقليدي منتزعاً تراثياً، أحسب ان الكتابة الحداثوية، التي لا تتبنى شكلاً، ولا لغة ولا نصاً، ولا مذهباً كتابياً، ولا أسلوباً أو طريقة في التعبير، والتي تنتمي زليخة اليها بجدارة كصوت تجاوز هذا المنحى الذي يجاور ويتاخم البلاغة، والبيان وقوة الإيحاء باللغة. وفي هذا أيضاً ما يحيلنا الى القول بضرورة نبذ الادعاءات التي برر بها بعض الذين دعوا الى التجديد "وادّعوه" في القصيدة العربية ولكن بحسب هؤلاء هذا التجديد لا يتم إلا عبر اشتقاقات وأوصاف، وأفعال، ومصادر لغوية ينحتها الشاعر، وان أتى ذلك مفارقاً ومتعارضاً مع هموم الكتابة الإنسانية الحديثة، التي تختزل وثنيات الموروث وتفككها، وتحيلها الى متداول يومي معيش قريب من القلب والروح والهم الإنساني العام. ولعل الأجمل في قصائد زليخة هو عدم استكانتها الى انها قالت في حب المرأة للرجل الكثير، والمتفرد وكأنها بذلك تصدر عن رؤية فيها من الذهنية - الفكرية ما يجافي الشعر ويتعارض معه. فهي وفي كل الحالات والأطوار تقدم نفسها ذبيحة أزلية قد تنزف، لكنها لا تموت. إذ ان ثمة جسداً يحضن هذه النفس - الروح ويفتديها، كلما همّ أحد على الفتك أو النيل منها. هذه الصورة التي مهما اتسعت، وتعددت ألوانها، وريشات أو أساليب المثّالين، والنحاتين على اخراجها فإنها تظل صانعة الحدث وباعثة على الدهشة به. إرهاص مفتوح على الاحتمال والتأويل، يستحضر لاستمراره وديمومته كل سُبل التاريخ ورموزه الخالدة. "غجر الماء" أما في كتابها "غجر الماء" فتضع الشاعرة قارئها في مناخ يرتبط فيه الشعر بالسحر والكهانة، والصرع والهلوسة. وترتبط صورة الشاعر بالاستسلام لعبودية اللغة، اللغة التي هي أكبر من الشاعر من اللغة نفسها. يكبر ويضمحل الشاعر مع اللغة وتتناثر هي مع نفسها. إذ انه لا طريق الى السر، الى الذات سوى اللغة. لغة نريد ان تكون البديل من العالم نفسه، من طريق التلاشي فيها تارة، والخروج منها وعليها تارة أخرى. "غجر الماء" كتاب يجعلك تعيد قراءة ذاتك، مما يخرجك من دعة القناعة بالاختباء وراء القناع والاطمئنان الى مرآة غير أمينة... فالذات التي سعت الشاعرة خلفها عميقاً وطويلاً هي الجوهر الكامن في "الأنا" أو في الخارج. ينبغي البحث عنه في الأعماق السرية. في الصمت الموحش والكلام. في العزلة ومع الآخرين، في الشيء ونقيضه. هذه الذات التي لا تتم معرفتها إلا بمواجهتها، وبالفرار منها. إذ انها في النهاية عبدة مطيعة لرمز الشعر. كل ما تحضنه وما تطلقه المعاناة يقدم قرباناً... كل شيء إذاً هو ان نكتب القصيدة وتكتبنا. والفرق - من دون شك - واسع وضيق في الوقت نفسه. تحيلنا نصوص "غجر الماء" الى الاعتقاد ان ما تظنه ذواتنا هو في الواقع ظلال، نعرف انها محبطة، ثمة إحالات الى مضامين ورؤى ومذاهب وتيارات فكرية، أدبية، روحية يشي بها عنوان كتاب الشاعرة زليخة أبو ريشة "غجر الماء". والغجر كأعراق وشعوب وتكوينات روحية انسانية هم رمز للتفلّت واللانضباط، وعدم التقيد بمعطيات الكون فكرية، دينية، وعرقية وسواها. اذ انهم لا أرض واحد لهم بحسب مفهوم الوطن، ولا لغة، ولا جنسيات. هم المطلق، الكائن، المقيم في انجراحات الأشياء وتراجعاتها الحسية المولدة في نفوسهم شروخاً واقامة دائمة على الخطوط، والهوامش الفاصلة بين شرعية وجودهم وعدمه في الزمان والمكان، وهذا ما يعزز توغلهم الداخلي نحو الخوف والريبة، مما يؤدي الى سلوكهم القسري، الذي يفسَّر على انه "ذئبية". ولعل الماء الداخل في جسدنة الكائنات عاقل وغير عاقل وسيميائها، يبهت الأشياء، ويخذلها، مما يبعث فيها الذبول والانزواء، زليخة أبو ريشة تعيش الى حد كبير "صدمة الحداثة" بدلالاتها الثقافية - الإبداعية، وصدمة المرأة المغيَّبة التي يُترك لها خيار الحياة والمبادرة في صنع أساليبها وتكوناتها، والسير في مساربها ومنعطفاتها الخطرة. تصدر الشاعرة عن رؤيا البحث عن الذات أيضاً في الحب واللاحب، في الجنون والتعقل، في العزلة والاجتماع. وتشير أيضاً الى الحب بمفرداته المعروفة، التي تصنف كمفردات يستخدمها الذكور غالباً. وفيها ان المبادر دائماً الى هذه الأفعال هو الرجل وليس المرأة. في الرسائل تبدو أبو ريشة في حال قلق واضطراب، ورفض وهجاء للمدينة، التي بحثت فيها عن ذاتها الذائبة، المفككة، المبعثرة في شوارع لندن وعمان وغيرها. تتوهم ان العمر قابل للخطف، وان الزمن قد يتركنا جثثاً يابسة وراءه كما يترك الصيف ثماره أعشاباً يابسة. لكن، ثمة سؤال يتبادر الى الأذهان في سياق بحث الشاعرة عن الذات: لماذا تصر على توهم وجود المعنى في حين اننا نؤمن سلفاً بأن المعنى غير موجود، وانه أسطورة تُصنع كأي شيء نصنعه. والأنهار التي حلمت زليخة بوجودها، وخاطبتها في نصوصها معدِّدة ما تستقبل من طيور وأسماك تناسلت فيها، هي أنهار تلوح مودعة، سيتقبلها المحيط بلا اكتراث. ليست حرارة اللغة والمفردات التي تحملها نصوص الشاعرة أبو ريشة سوى دليل حسي للتعبير عن مدى الحاجة لدفء المرأة في عالم صقيعها الروحي وخصوصاً ان المرأة هنا هي شريكة الرجل في كل أفعال الحب ونتائجه. هي التي تعيش أيضاً حال الخواء الإنساني في بلاد كبريطانيا، امرأة عاجزة أمام أكثر من ثنائية اللغة والمجتمع، تعيش صقيعها وغربتها مضاعفة في الزمان والمكان. تعقد الشاعرة زليخة توجهها نحو الحب والمحبوب على تشوشات عصر يتأكد فيه الحضور الأنثوي الذي راح يتبلور في بدايات القرن العشرين. هذا المنحى الذي تزامن مع بروز حركات تحرر الفكر والجسد التي أطلقها المفكرون الغربيون ويليام فوكنر، د.ه. لورانس، هنري ميللر وسواهم. وتجلى هذا التوجه الثوري - الفكري - الجسدي في منتصف الخمسينات - الستينات من القرن العشرين الذي شهد رسوخ فلسفات مثل "الوجودية"، ومذاهب وفلسفات أخرى متفرعة عنها، أو موازية شبيهة بها مثل: الهيبية، والبنيوية، والعبثية، وسواها. هذه الحركات أعطت الجسد حريته اللامحدودة، مما حدا بالمؤسسات التقليدية الاجتماعية والسياسية والدينية الى اعتبار هذه الحركات والتيارات ملاجئ متحركة للمنحرفين والمرض والمطرودين. ولعل ما افتتحت به زليخة كتابها تحت عنوان "بيِّنة" ما يشير الى انسياق الكاتبة خلف الاعتداد بالأنثى. وتمضي في زهوها الماكر، المشاغب مستعيدة لعنة لمرأة ككائن "أرعن" يضل ويقوده هواه الى مناطق "يبهره ظلامها الأبدي". تكشف زليخة عن مكابدات عاشتها في متون أو هوامش تجربة حب يبدو ان عقدها كانت بإرادة كيان المرأة العاشقة وروحها. وأعدت لها شهقات تلدها من بُرك الروح المتلبسة العائمة بالماء. الماء المحيي، مولّد الطاقة ومبرِّدها. أداة امتزاج العناصر. الماء الذي ترتاح فيه المعادن والحديد المصهور بالنار ذات الألوان الوردية. والماء المضرم النار والمطفئها، والمبرِّد الأجساد، والمطهرها من اثمها. ولئن بدت تجربة أبو ريشة تتكئ في جوانب منها على محطات كثيرة تتقاطع معها وأحياناً تناقضها، الا انها تعتبر واحدة من تجارب نسائية عربية متميزة. فما يميزها ويمنحها فرادة هي جرأة الأنثى في تعرضها لتابوهات الجسد. هذا فضلاً عن حرارة اللغة والمفردات والنَفَس الذي صاغت ونسجت منه قصائدها بل نصوصها كاملة. ولا تبدو زليخة في حال استعارة للمكان وتشكيلاته مثل: "بيت، عمارة، شجرة، نهر" الخ بغية انشاء جو سينوغرافي، قائم على توليف الصور والمشاهد والكائنات. فهي تهجس بهذه التشكيلات في سبيل استعادة لحظات غائبة، مفقودة، جامعة، مظللة لحظات ود وصفاء حقيقي سقطت في بئر اسطورية الظلمة والقرار.