حظي موضوع القدرات النووية الإسرائيلية باهتمام إعلامي خاص أثناء انعقاد مجلس محافظي الوكالة الدولية وأثناء المؤتمر العام للوكالة في الفترة ما بين 8 و12 أيلول سبتمبر، و15 و19 منه تباعاً. ولم يقتصر الاهتمام على الفضائيات العربية فحسب، بل أمتد إلى وكالات الأنباء العالمية. فلماذا برز الاهتمام هذا العام بالذات على رغم أن بند القدرات النووية الإسرائيلية كان يدرج على جدول أعمال المؤتمر العام بشكل دوري منذ العام 1987؟ إن تفسير الاهتمام الكبير لوسائل الإعلام هذا العام يعود برأيي لأن مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية كان قد اتخذ قراراً قاسياً بالإجماع في حق إيران في دورته، المعقودة في فيينا ما بين 8 و12 أيلول 2003. ظل بند عن "القدرات الإسرائيلية والخطر النووي الإسرائيلي" مدرجاً في جدول أعمال المؤتمر العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية لسنوات عديدة كرر خلالها المؤتمر قراراته المتضمنة دعوة إسرائيل لإخضاع منشآتها النووية لنظام ضمانات الوكالة، علماً بأن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط غير المنضوية لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، Nuclear Non-Proliferation اختصاراً NPT. والدولتان النوويتان غير الأعضاء في هذه المعاهدة بالإضافة إلى إسرائيل هما باكستان والهند، ويعتقد أن للأخيرة تعاوناً وثيقاً مع إسرائيل في المجال النووي. وعند بدء عملية السلام في الشرق الأوسط إثر مؤتمر مدريد، وافق المؤتمر العام للوكالة الدولية في دورته العادية السادسة والثلاثين سنة 1992 على عدم إدراج بند القدرات النووية الإسرائيلية والاكتفاء بإصدار بيان من رئيس المؤتمر، وذلك على اعتبار أنه من غير المستصوب النظر في هذا البند في الوقت الذي كان يؤمل فيه أن تقود عملية السلام إلى حل شامل وعادل في المنطقة، وبخاصة أن المناقشات اشتملت على إقامة منطقة خالية من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط. وقد انضمت الدول في حينها إلى الإجماع الدولي حول هذا الموضوع من أجل بناء إجراءات الثقة بين الطرفين. ويرى البعض اليوم أن هذا الأمر كان خطأ استراتيجياً، إلا أن الحكمة بأثر رجعي أمر سهل، ذلك أن الشعور الذي كان سائداً عندئذٍ تميز بالتفاؤل والأمل في إنجاز اختراق تاريخي في حل أزمة الشرق الأوسط. ومنذ ذلك التاريخ وحتى الدورة العادية الحادية والأربعين المعقودة في أيلول 1998 اكتفى المؤتمر العام بإصدار بيان رئاسي شكلي، وبموافقة الدول العربية، من دون إدراج بند القدرات النووية الإسرائيلية في جدول الأعمال، وذلك على اعتبار أن عملية السلام كانت لا تزال مستمرة. وفي هذه الأثناء بدأت جمهورية مصر العربية تطلب إدراج بند ضمانات الوكالة في الشرق الأوسط في جدول الأعمال وتقديم مشروع قرار بهذا الخصوص. وفي الدورات الثانية والأربعين وحتى السادسة والأربعين أيلول 1998، 1999، 2000، 2001، 2002 أعيد إدراج بند تحت عنوان "القدرات النووية الإسرائيلية والخطر النووي الإسرائيلي" بناءً على طلب عدد من الدول العربية الأعضاء في الوكالة وذلك على ضوء تعثر عملية السلام واعتقاد هذه الدول بأن إسرائيل قد لا تكون جادة أو مستعدة لتحقيق سلام تاريخي عادل للقضية الفلسطينية. ومن الجدير ذكره أن الدول العربية الأعضاء في الوكالة لا تقوم من تلقاء ذاتها بإدراج بند القدرات النووية الإسرائيلية، بل تقوم بذلك بناءً على طلب من مجلس الجامعة العربية الذي غالباً ما يصل متأخراً، مما لا يتيح فترة زمنية كافية للسفراء العرب المعتمدين لدى الوكالة لإجراء الاتصالات والتشاور مع الدول الصديقة، والمجموعات الجغرافية المختلفة، والدول الفاعلة في الوكالة لضمان استصدار قرار ملائم يطلب من إسرائيل فتح منشآتها النووية لضمانات الوكالة الدولية، فينتهي الأمر بالدول العربية الى القبول ببيان رئاسي شكلي يخلو من أي مضمون حقيقي. ولذا تجد الدول العربية نفسها مضطرة للتلويح بمشروع قرار يتعلق بالقدرات النووية الإسرائيلية لضمان إدراج بند خاص به في جدول الأعمال، وضمان صدور بيان رئاسي بهذا الخصوص، وإبقاء الموضوع حياً على أقل تقدير. وعلى ضوء إصرار بعض الدول، بل وضغوطها لعدم إصدار أي قرار يذكر إسرائيل بالاسم، لجأت الدول العربية عام 2001 لمقايضة مشروع القرار ببيان رئاسي، وفي العام 2002 لم تقدم الدول العربية مشروع القرار لأنه كان من السهولة استصدار بيان رئاسي نظراً لسخونة الموضوع العراقي. أما في العام 2003 فقد حصلت الدول العربية على بيان رئاسي يتضمن إدراج البند المتعلق بإسرائيل في جدول أعمال المؤتمر العام للوكالة القادم بشكل تلقائي، من دون أن تضطر إلى سحب مشروع القرار على عكس ما أشاعته بعض الفضائيات العربية. وميزة عدم سحب مشروع القرار، كما هو معلوم، أنه - أي مشروع القرار - يبقى وثيقة رسمية من وثائق المؤتمر، على رغم أنه لا يبحث رسمياً في المؤتمر. وقد بذلت الدول العربية هذا العام جهداً طيباً لتحقيق ذلك. إلا أن تحقيق أي إنجاز فعلي في هذا الموضوع الشائك يحتاج إلى جهد كبير وأسلوب عمل يختلف عما كان يجري في السابق كما سيأتي إيضاحه. والجدير ذكره أن جهد الدول العربية في هذا الملف لم يتوقف عند العمل في الوكالة الدولية للطاقة الذرية، إذ عملت هذه الدول جاهدة في مؤتمر الأطراف في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النوويةNPT لسنة 1995 على استصدار قرار خاص بالشرق الأوسط، عبر فيه المؤتمر عن قلق الدول الأطراف في المعاهدة من خطورة الوضع في الشرق الأوسط الناتج عن وجود أنشطة نووية غير خاضعة لضمانات الوكالة الدولية في المنطقة، مما يعرض السلم والأمن الإقليميين والدوليين للخطر. وفي مؤتمر المراجعة السادس لمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النوويةNPT الذي عقد في شهر أيار مايو 2000، أصدر المؤتمر وثيقة ختامية تتضمن مطالبة إسرائيل بالانضمام الى معاهدة عدم الانتشار في أسرع وقت ممكن، وإخضاع كل منشآتها النووية لضمانات الوكالة الشاملة تحقيقاً لعالمية المعاهدة. وإلى هذا التاريخ لا تزال إسرائيل الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط غير الموقعة على المعاهدة، على رغم أن المجتمع الدولي خطى في العام 1997 خطوة إضافية لتعزيز الرقابة على الأنشطة النووية بإقرار البروتوكول النموذجي الإضافي لتوطيد فاعلية نظام الضمانات، وتحسين كفاءته، والتأكد من عدم وجود أنشطة أو منشآت نووية غير معلنة لدى الدول المنضوية تحتها، وذلك تمهيداً للوصول إلى نظام الضمانات المتكاملة، الأمر الذي لم تظهر إسرائيل أي رغبة في تحقيقه. وحجتها في ذلك أنه لا يمكن تحقيق شرق أوسط خال من الأسلحة النووية، وغيرها من أسلحة الدمار الشامل، إلا في ضوء سلام شامل مع كل دول المنطقة وبشروط تجعل من إمكانية تطوير أي قدرات نووية عربية في المستقبل أمراً مستحيلاً. اتفق في مجلس الجامعة العربية منذ سنوات على التقدم بمشروعي قرارين: أحدهما يتعلق "بضمانات الوكالة في الشرق الأوسط" وتقدمه جمهورية مصر العربية باسمها لوحدها، والآخر يتعلق "بالقدرات النووية الإسرائيلية والخطر النووي الإسرائيلي" وتقدمه الدول العربية مجتمعة. وفي الوقت الذي تطلب فيه الجامعة العربية من مجلس السفراء العرب في فيينا بذل الجهود "لإنجاح مشروع القرار" الأول تطلب فيه "العمل على استصدار قرار" في الموضوع الثاني، واختلاف درجة الإلحاح في صياغة الطلبين واضحة علماً بأن مشروع القرار الثاني تقوم بصياغته اللجنة المعنية بالقدرات النووية الإسرائيلية المنبثقة عن مجلس الجامعة العربية. إن الهدف النهائي من وراء مشروعي القرارين واحد تقريباً، ألا وهو تحقيق منطقة شرق أوسط خالية من الأسلحة النووية. إلا أنه في الوقت الذي ينص مشروع القرار الثاني - القدرات النووية الإسرائيلية - على إسرائيل صراحة حينما يدعوها إلى الانضمام إلى معاهدة عدم الانتشار النووي فوراً، وعدم تطوير أسلحة نووية أو انتاجها أو تجريبها أو حيازتها، ووضع جميع مرفقاتها النووية تحت مظلة نظام الضمانات الشاملة للوكالة الدولية، فإن مشروع القرار الأول - ضمانات الوكالة في الشرق الأوسط - لا يشير صراحة إلى إسرائيل، بل يطلب من كل دول المنطقة الانضمام الى معاهدة عدم الانتشار النووي، وفتح منشآتها لنظام الضمانات الشاملة، كما يحث مشروع القرار الثاني جميع الدول التي تمد إسرائيل بمواد ومعدات نووية على تطبيق ضمانات الوكالة الشاملة على صادراتها، أي ضمان عدم استخدام هذه المواد والمعدات في تصنيع السلاح النووي، بينما لا يشير مشروع القرار الأول إلى هذا الأمر، وبالتالي لا يؤسس التزامات محددة على الدول التي تمتلك التكنولوجيا والقدرة النووية. كما يستند مشروع القرار الأول في فقراته العامة الى عملية السلام المستمرة والمفاوضات المتعددة الأطراف، لا يشير مشروع القرار الثاني لأي من هذه الأمور، ناهيك بأن عنوان مشروع القرار الثاني يثبت وجود قدرات نووية إسرائيلية حقيقية ويؤكد خطرها، بينما لا يشمل عنوان مشروع القرار الأول أياً من هذه الأمور، بل يلمح تلميحاً إلى أن البرنامج النووي الإسرائيلي قد "لا يكون في مجمله مخصصاً للأغراض السلمية". من الواضح إذاً أن مشروع القرار الأول الذي تقدمه جمهورية مصر العربية صيغ بطريقة توافقية لضمان تمريره والموافقة عليه في المؤتمر العام، وإن كان هذا الأمر لا يتم دوماً بسهولة، بينما صيغ مشروع القرار الثاني بطريقة تصادمية يجعل من الصعب جداً قبوله من الدول الغربية بشكل خاص، بل وحتى من بعض الدول النامية والصديقة كذلك. كما ان دولتين من مثل باكستان والهند لا يمكن أن تقبلا به. وبما أن المنظمات الدولية بما في ذلك الوكالة الدولية للطاقة الذرية لا تفضل اللجوء إلى التصويت بل تسعى دوماً إلى توافق الآراء كي تأخذ القرارات مع الالزام الفعلي أو الأخلاقي، فإنه لا بد من إعادة دراسة مشروع القرار المتعلق بالقدرات النووية الإسرائيلية دراسة شمولية بطريقة تؤدي إلى صياغته بطريقة مقبولة دولياً من دون التفريط بالهدف النهائي من ناحية، كما أنه لا بد من تغيير أسلوب العمل أثناء وضع مشروع القرار داخل أروقة الجامعة العربية وبعد إقراره من ناحية ثانية. أما من الناحية الأولى فلا بد أن تجتمع اللجنة الفنية المختصة في الجامعة العربية لدراسة هذا الأمر في وقت مبكر من العام، ليصار إلى إقرار توصياتها من قبل مجلس الجامعة العربية قبل ما لا يقل عن أربعة أشهر من موعد انعقاد المؤتمر العام للوكالة، أي في حوالي شهر أيار مايو من كل عام. إن هذا الأمر من شأنه أن يتيح وقتاً كافياً لإجراء الاتصالات والمشاورات مع الدول الفاعلة والصديقة، والمجموعات الإقليمية المختلفة من أجل إيجاد الأرضية المناسبة للموافقة على مشروع القرار وتبنيه من قبل المؤتمر العام عن طريق التصويت على أقل تقدير، وإن كان توافق الآراء صعباً، وهو صعب حقاً. أما من الناحية الثانية فلا بد من تسخير كل الجهود العربية الفردية والمؤسساتية لإنجاح مشروع القرار. ويعني هذا الأمر في ما يعني، أن يتبنى الملوك والرؤساء والأمراء هذا الأمر، ويجعلوه إحدى نقاط البحث في اتصالاتهم ولقاءاتهم مع زعماء العالم، وأن يقوم وزراء الخارجية العرب بالعمل نفسه في لقاءاتهم الفردية والجماعية مع نظرائهم وزراء الخارجية لدول العالم، سواء كان ذلك في أروقة الأممالمتحدة، أو منظمة المؤتمر الإسلامي، أو اجتماعات دول عدم الانحياز أو اجتماعات الشراكة الأوروبية المتوسطية، أو غيرها من اللقاءات. كما لا بد من تنسيق هذا الأمر والعمل عن قرب مع مجموعة ال77 " الصين ومع مجموعة دول عدم الانحياز من أجل كسب الدعم والتأييد، كما أن التأسيس على مواقف بعض الدول المحورية من مثل كندا وجنوب أفريقيا والبرازيل أمر في غير الأهمية. ومن الضروري أيضاً أن يؤكد الأمين العام لجامعة الدول العربية أثناء زيارته للدول ومشاركته في المنتديات الدولية، وباستمرار، على أهمية انضمام إسرائيل الى معاهدة عدم الانتشار النووي، لدرء الأخطار النووية وتحقيق الأمن والسلم الدوليين. كما أنه لا بد من التأكيد وباستمرار، وبخاصة لدى المحافل الدولية الملائمة وجمعيات أصدقاء البيئة، على خطورة الإشعاعات النووية على البيئة والصحة وما قد تسببه من كوارث بيئة لا يحمد عقباها. إن جهداً متكاملاً من هذا النوع من شأنه أن يقود خلال عدد محدود من السنوات إلى تحقيق تقدم ملحوظ نحو تبني الوكالة الدولية للطاقة الذرية لقرار يدعو إسرائيل إلى الانضمام الى معاهدة عدم الانتشار النووي، أسوة ببقية دول المنطقة، وغالبية دول العالم. * سفير المملكة الاردنية في النمسا ومندوبها الدائم لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية.