المشكلة بين فرنسا وليبيا معقدة. فالقضاء الفرنسي أقرّ تعويضات لعائلات ضحايا طائرة "يوتا" الفرنسية بقيمة 30 ألف دولار لكل عائلة. أما القضاء الأميركي فحلّ مشكلة تفجير طائرة "بانام" فوق بلدة لوكربي الاسكتدلندية فارضاً تعويضات بقيمة 4 ملايين دولار لكل عائلة. الفرق شاسع على رغم أن الضحايا لاقوا مصرعهم بالطريقة نفسها، وفي عملية تفجير إرهابية أدت إلى مقتل 270 مدنياً من التابعية الأميركية والبريطانية في طائرة "بانام"، وإلى مقتل 170 مدنياً من 17 جنسية في طائرة "يوتا" التي فجرت فوق صحراء النيجر. صحيح أن القضاء الفرنسي أساء تقدير قيمة التعويضات مقارنة مع ما حصلت عليه العائلات الأميركية والبريطانية، فدفع الرئيس الليبي معمر القذافي حوالي بليوني دولار حتى الآن لشراء السماح من الولاياتالمتحدةوبريطانيا. ورفعت عن ليبيا عقوبات دولية فرضت عليها طوال نحو عشر سنوات وكلفتها، حسب تقديرات مسؤول عربي، 15 بليون دولار. لذا كان من الطبيعي التزام دفع 10 بلايين دولار للجانبين الأميركي والبريطاني على أن يكون القسط الأول بليوني دولار، اشترت بهما ليبيا رفع العقوبات. أما فرنسا من جانبها، وعلى رغم أنها هددت بمعارضة رفع العقوبات، فلم تستخدم "الفيتو"، لأن الجانب الليبي التزم تقديم تعويضات إضافية انصافاً لأسر ضحايا طائرة "يوتا". وقامت قيامة وزير الخارجية الليبي عبدالرحمن شلقم على فرنسا وعلى وزير خارجيتها دومينيك دوفيلبان، بينما كان الأفضل أن يتم حل القضية بديبلوماسية هادئة وذكية. والآن بدأ نجل الرئيس الليبي سيف الإسلام القذافي، الذي كُلف مسؤولية حل هذه القضية، بانتقاد فرنسا ورئيسها جاك شيراك، لأنه طالب العقيد بالوفاء بالتزاماته. صحيح أن ليبيا حلت مشكلتها مع فرنسا، من الناحية القضائية، إلا أن طلب الانصاف لأسر ضحايا الطائرة الفرنسية شرعي، بسبب الفارق المريع في "تسعير" الضحايا. كيف يمكن تبرير ذلك؟ هل أن العقيد القذافي مهتم فقط بالحصول على رضا الولاياتالمتحدة وحليفتها بريطانيا، كونها القوة العظمى التي تفرض قوانينها في العالم وتستند الى إسرائيل حليفتها في المنطقة العربية في سياستها الشرق أوسطية؟ هذا وارد مع ابتعاد ليبيا عن الانتماء إلى الجامعة العربية، وتصريح القذافي بأنه غير معني بالسياسة الأميركية في المنطقة. لكن المشهد من واشنطن يختلف، اذ ان رفع العقوبات الدولية لا يعني رفع العقوبات الأميركية قريباً. وهذا ما أكده نائب وزير الخارجية الأميركي ريتشارد ارميتاج عبر صفحات "الحياة"، وأكده أخيراً مساعد وزير الخارجية الأميركي وليام بيرنز. وعلى رغم أن فرنسا أخطأت، على صعيد الملف الليبي ولم تدافع عبر القضاء عن مصلحة أبنائها مثلما فعلت الولاياتالمتحدة، إلا ان إنصاف عائلات ضحايا "يوتا" يصب في مصلحة العلاقات الفرنسية - الليبية. فهل تدرك ليبيا أهمية الدور الذي تلعبه فرنسا ورئيسها في منطقة المغرب العربي؟ فلدى شيراك علاقات مميزة في هذه المنطقة وسياسته الشرق أوسطية متوازنة وأقل انحيازاً لإسرائيل من سياسة الإدارة الأميركية التي يريد القذافي شراء مسامحتها له، وهي في أي حال لن تسامحه. ومهما بلغت الكلفة لإنصاف عائلات ضحايا الطائرة الفرنسية، ينبغي حل الموضوع بعيداً عن النقذ العنيف وغير اللائق الذي وجهه وزير الخارجية الليبي لنظيره الفرنسي عبر صفحات "الحياة". فليبيا أهملت الديبلوماسية في فرنسا، وبعثتها الديبلوماسية في العاصمة الفرنسية غائبة عن الساحة السياسية كلياً، والمحاور الوحيد هو نجل القذافي ووسيطه التونسي الذي لحسن الحظ يتكلم الفرنسية بطلاقة.