تماماً كما في لحظة ميلادها تشرين الثاني/ نوفمبر 1954 تبدو جبهة التحرير الوطني الجزائرية اليوم، تنظيماً فاعلاً ممتد الفضاء، ومتعدد العناصر ذات التكوين الأيديولوجي والغارقة في الرؤية الحزبية الأحادية الطابع والمنتهية عند أفق المصالح، وتلك حال معظم الأحزاب العربية التي خرجت من رحم المعاناة، وجاءت نتيجة طبيعية للظاهرة الاستعمارية. وجبهة التحرير تُدفع اليوم، بعد أكثر من 13 عاماً من إقرار التعددية، إلى صناعة الأحداث، بل إنها ما فتئت تكرر حلول السراب الذي يحسبه الظمآن للديموقراطية ماء، حتى إذا وصل إليه لم يجده شيئاً ووجد جبهة التحرير الوطني عنده مرة أخرى. وما سبق ذكره ليس حكماً عن تراكمات الأفعال السياسية حين كانت الأيديولوجيا سابقة على المعرفة، لكنه إعلان عن وراثة الماضي بحكم الانتصار الذي تحول بعد عقدين إلى هدم لبناء الدولة، وهو أيضاً متابعة متواصلة لادعاءات بالتغيير من داخل، يظهر اليوم في اختزال الدولة والشعب، والسلطة والمعارضة، والجيل القديم والجيل الجديد، والتاريخ بأبعاده الماضي والحاضر والمستقبل المنظور في جبهة التحرير الوطني. فهي الحزب الحاكم من خلال نتائج الانتخابات الرئاسية، وهي أيضاً، وعلى النحو السابق، بالنسبة الى الانتخابات التشريعية البرلمانية. كما أنها امتداد للجيش في السياسة، رفضاً أو قبولاً، وهي الجبهة القديمة مجموعة علي بن فليس وهي الحركة التصحيحية الجبهة الجديدة بقيادة عبدالعزيز بلخادم التي تعمل من أجل ترشيح بوتفليقة للانتخابات المقبلة. إذاً، هي مستحوذة على كل النشاط السياسي، والأحزاب الأخرى عليها أن تكون على طرفي مجموعات جبهة التحرير، وهذا يعني أن المعارضة ليست أحزاباً ذات برامج مستقلة، بل جماعات عشائرية وجهوية تقترب من هذا الفريق أو ذاك، منها من جاء طوعاً، وأخرى تسعى الى البقاء ضمن ترتيبات المصلح لأن معظم عناصرها وظف من خلال علاقته بالحزب الواحد، وثالثة تتحالف هنا لتحقق الفرصة هناك، انتظاراً لمجهول لا يمكن أن يأتي أبداً ما دامت الجبهة هي الخصم والحكم، والسلطة والمعارضة. والملاحظ أن هذا ما كان ليحدث لولا انشغال العالم بالإرهاب، إرهاب الجماعات والدول والأمم، وأيضاً لولا الاعتقاد السائد بانتهاء الأزمة السياسية هناك، وهو اعتقاد يحمل جانباً من الصحة. غير ان ما حدث، ويحدث، في الجزائر له صلة بالشرعية، وهذه الأخيرة لن تعود ما لم يتم تحكيم المجتمع بكل فئاته وأطيافه وجماعاته الفاعلة، خصوصاً "الإنتلجنسيا". فالبلاد أفرغت من أطرها الفاعلة - الحيادية على الأقل - وضيعت ثرواتها بين شح وتقتير جعلا خزانة الدولة تفيض بأموال عائدات النفط، وبين بذخ في الإنفاق لحماية المجتمع من الإرهاب حيناً وتمويل الأحزاب والقيادات والانتخابات أحياناً أخرى. وفي الحالين لم نلحظ دوراً لقيادات الجبهة كما هو الآن، حين تعلق الأمر بمصالح جماعات بعينها، بل إن المناصب التي تشغلها قيادات تنتمي الى حزب جبهة التحرير أصبحت فارغة بعدما هجرها أصحابها وتفرغوا للنشاط الحزبي، وتلك حال موروثة من سنوات الإرهاب في السابق وتطورت مع تنظيمات المصالح في الوقت الراهن. ولنتابع المشهد السياسي الجزائري الراهن، ملياً، ونتساءل من دون توجس من تلك العلاقات المشبوهة سواء المعلنة منها أو الخفية: ما الذي جعل السفير الجزائري في إيران عبدالقادر حجار يقود عمله الديبلوماسي من الجزائر بدل طهران؟ بل لماذا يأتي كل حين ليشارك في التخطيط لدعم الرئيس بوتفليقة ضد خصومه "الجبهويين"، وهذا معلن ومعروف لدى الخاص والعام. وما الذي يجعل شخصاً مميزاً مثل الوزير عبدالعزيز بلخادم يقود الحركة التصحيحية لجبهة التحرير والهدف دعم بوتفليقة أيضاً؟ وعلى حساب من يقع كل هذا؟ ولمصلحة من فيما الشعب حطمت آماله الزلازل، وطارده الفقر والبطالة، وحاربته الأمراض بكل أنواعها بما فيها تلك التي اختفت منذ عقود ونسيتها البشرية. السياسة، ممارسة، ليست حكراً على أحد. هذه قاعدة عامة لكنها في تفصيلاتها تخضع لشروط وضوابط معينة، وخضوع المؤسسات للتوجهات السياسية لا يعني سيطرة جماعات بعينها، أي أن البرامج مقبولة بل وضرورية ومطلوبة على ألا يتم تسخير إمكانات الدولة لمصلحة حزب بعينه، لأن ذلك مخالف للعملية الديموقراطية. وما يحدث في الجزائر اليوم يمثل الاستغلال السياسي البشع والمخيف، حيث يتم احتكار الدولة ومؤسساتها ومنظوماتها القانونية وعلاقاتها الدولية لمصلحة حزب واحد، وهذا القول لا يعني نفور الشعب من جبهة التحرير كما هو في نهاية 1991، وإلى غاية المرحلة السابقة عن استقالة الرئيس اليمين زروال 1999. غير أن المشاركة او العودة إلى القبول على أساس التمييز والفرز منفرة حين أصبحت لمصلحة الأشخاص. تمكنت جبهة التحرير الوطني من السيطرة من خلال مؤسسة الرئاسة من جهة والجهاز الحزبي من جهة أخرى على كل النشاط السياسي. وليس واضحاً حتى الآن تأثير مختلف القوى الفاعلة، لكن عامة الشعب تتساءل عن تلك العلاقات المضطربة بين القيادات الحزبية لجبهة التحرير، وبالطبع لا تجد الإجابة. فالكل يقدم نفسه كمنقذ للبلاد والعباد، والحقيقة أن السياسيين من الطرفين لا يخافون من لحظة الحساب لأن العادة جرت بألا يحاسب السياسيون في الجزائر لكنهم يخافون من البطالة السياسية، لذلك نجدهم في المقدمة لجهة القيادة خلال خمسة عقود تقريباً، فهم الذين اشرفوا على المرحلة الاشتراكية وما بعدها، ثم حراس الرأسمالية ودعاة انفتاح وحماة عقيدة ورجال دولة، وحتى عندما يقع رفض أو اختلاف يكون منهم وإليهم. المشهد متكرر، إذاً، ولهذا تراجعت الآمال في التغيير حيث إن الحنكة السياسية بما فيها من حيل ومكر ودهاء، كانت قائمة منذ أزمة نهاية 1991 على كيفية استعادة جبهة التحرير إلى السلطة، ودافع أصحابها عن أطروحتهم الخاصة بالتعويل على دعم خارجي، وتم التحالف على مستويات عدة، آنذاك والآن،ولم تكن الجزائر الدولة حاضرة لأنها غيبت لمصلحة المشروع الحزبي الذي يختصر أحياناً في المصالح الضيقة لجماعات داخل الحزب. لهذا يرى المراقبون أن الخاسر الأكبر في الصراع الدائر داخل جبهة التحرير الوطني هو الدولة الجزائرية، وهذا يعني سقوط الأبوة السياسية. لكن ماذا بعد هذا كله؟ الإجابة نراها في ذلك الالتزام المشروط، على ما يبدو، بين جبهة التحرير الوطني والجيش. وهذا الأخير لن يتدخل إلا حين تحسم الخلافات الداخلية بين قيادات جبهة التحرير، وهذا يعني تأييده لها ضمناً لجهة أن الرئيس سيكون منها، بغض النظر عن اسمه وموقفه، وتلك منّته على الشعب الجزائري، وعن الأحزاب، خصوصاً بعدما زالت العلاقة الخفية التي حمت الدولة في الماضي من أي هزات سياسية أو اجتماعية، وبات من الصعب الإشارة إليها، اليوم، ناهيك عن تحقيقها مرةً أخرى. * كاتبة جزائرية.