جنوب صامتاً أرى إليهم يبتعدون بخطوة واحدة يجتازون السياج. المدى المزنّر بسامق النخيل يبتلع أطيافهم المتلاشية. نقطة صغيرة متضائلة هوذا ما يصيره الواحد منهم في خاتمة الأفق. كنت أودّ لو أنّني علقتُ بمصير كلٍّ منهم كالخنجر الثابت في حزامه. كنتُ أودّ لو غدوتُ فاصلةً أو نقطة في كتاب مصائرهم المكتملة. ببنادقهم المفضّضة الأعقاب يبتعدون. صائدو البطّ والخنزير البريّ حيثما غامر باجتياز غابات القصب المتناهية. أتلقّف كلامهم الموجز وأملأ فراغاته بكلامٍ منّي. وحده الطالع السيئ ولا شكّ شاء أن أولد في المدينة خارج الريف حيث يمدّ أهلي جذورهم بين أغذية الأرض وحيث يقيم أبناء عمومتنا مضائفهم المتعامدة والأنهار. هناك في ارتفاعها تعيدك الظهائر إلى زمنٍ أصليّ لا تفتأ تسمع طنينه المُرنّ متصاعداً من طيّات السكون. وفي الليل إذا لم تسمع صخب أعراس لا يندر أن تتلقّف أذناك غناءً منفرداً لجارٍ متوحّد يزجيه في اتّجاهك كأنّه اصطفاك لتكون من على بُعد شاهداً أوحدَ على أحزانه. حشرات الريف أعرف أزيزها في سائر تنويعاته. غابات النخل بجميع مداخلها أعرف ما تحفل به من ولادات. وطيور الريف أميّزها بعضاً عن بعض من نبرة الشدو لا غير. باكراً تعلّمت أن أغافل الخنازير البريّة فهي لا تَرى من زاوية العين. الموتى الصغار بجثثهم الطافية على المياه أنا يتيمهم كلّهم. اللقاح أعرف طعمه ومن الورد أعرف هذه اللذعة التي تصيبك بدوارٍ عذب. السبخَ أعرف والأرض التي تُزرَع عاماً من اثنين. مثلما ترقد البرتقالة في قاع المياه يرقد في داخلي الجنوب. بدونه أتقدّم في العالَم محروماً من جانبٍ من الكيان، الجانب الأثمن ولا ريب. عازفة القيثار عازفة القيثار في "المترو" الباريسيّ القيثار يكْبرها في الحجم وربّما في العمر أيضاً. لا تكاد تفرّق بين الاثنين ولا تميّز إن كان القيثار يتّكئ على صدر العازفة الهرمة أم أنّها بكيانها تعضده لقيةً عزيزةً. بإزائهما قد تتذكّر القنطروس الجَواد وفارسه هنا فارسته وقد صارا واحداً. أو تتذكّر ملاكاً بجناحَين هائلين حتّى ليعجز عن مبارحة الأرض. أمّا أنا فأؤْثر التفكير في حضورهما بالموجة موجة واحدة تتغوّر وتعلو مازجةً العضل والدم بكتلة الخشب الذي ازداد خفّة بقوّة النغم الذي صارَ أثقل. ارتطام بالعنف الضروريّ كلّه ذاهبٌ أنا لأرتطمَ بمصيري. منذ عقود وأنا أجلس وأنتظر. اليوم قلبتُ مسعايَ حقّاً وها أنا بالعنف الضروريّ كلّه أذهب لأرتطمَ بمصيري. سأجلس على شواطئ خطيرة الانزلاق أخاطب الدلافين وأصرّ صريرها الحادّ نفسه مثلها سأتقلّب في أوقيانوسات من صنع هوَسي. قد يقبل المصير نحوي في هيئة ثور في هذه الحال سأبقره أمام جموع تتلذّذ بمرأى دمائي. سأبقره بمدية خارقة من صنع ذهولي وأدَعه يتمرّغ على رمال تسكبها المخيّلة بلا انتهاء. الرمال أنا والحلَبة والدابّة التي تُنحَر هيَ أنا والمصارع الذي لا يتعب والمدية البارقة في الجرح. عندما يتكشّف المصير سأطرحه أرضاً وأتلقّف ما فاتني منه حاسباً الحسابَ لقادم أيّامي. أو أغسله ببساطة مثلما يُغسَل الوليد من ماء الولادة وبذلك الاحتدام النشوان أقيمه في العالَم بعدالة. باريس - 2002