انتهت في الأسبوع الماضي الدورة السابعة لمهرجان الاسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة. غادرنا المدينة الصغيرة الهادئة، لكن أفلام المهرجان بزخمها الفكري والتقني تظل حاضرة. يحقق المهرجان تقدماً واضحاً عاماً تلو الآخر، فليس هناك نافذة أخرى مفتوحة على اتجاهات السينما القصيرة والتسجيلية في العالم العربي سواه. أفلام مهمة أتت من شتى أنحاء الأرض، وبدأ شباب الاسماعيلية في الالتفات الى أهميته ومتابعة فاعلياته، وبدأت ادارة المهرجان برئاسة علي أبو شادي تحاول سد الثغرات والنواقص التنظيمية ونجحت بالفعل في تجاوز بعضها هذا العام. وفي الوقت نفسه لم يتخلص المهرجان من أبرز مشكلاته التي أشارت اليها الأقلام في العامين الماضيين، ومنها اكتظاظ البرنامج بعدد ضخم من الأفلام لا يستطيع الحضور متابعتها بسهولة، خصوصاً ان الفيلم يعرض مرة واحدة ولا يعاد عرضه في قاعة أخرى أو توقيت آخر. كما ان افلام المسابقة تعرض في توقيت عرض قسم البانوراما نفسه، فينصرف الجمهور عنها من أجل مشاهدة أفلام المسابقة، لتتعالى الأصوات مطالبة بإلغاء قسم البانوراما الذي يتسبب في ظلم بيِّن لهذه الأفلام التي لا تجد فرصة عرض مناسبة. لكن يبدو أن تمسك الإدارة بهذا القسم واعتناءها بالكم هو مسلك حكومي في التغني والتفاخر بالانجازات متمثلة في شكل أرقام وأعداد لأفلام ودول. وإن كان يلفت ايضاً، لقصور في عمل لجنة المشاهدة التي ألقت بأفلام مهمة في سلة مهملات البانوراما، ووضعت أفلاماً أقل أهمية في جدول المسابقة، كما انها وقعت في أخطاء تصنيفية لا تصدق مثل اعتبار الفيلم الإيراني "الخندق على الجانب الآخر" لبيرم فازلي فيلماً تسجيلياً قصيراً وليس روائياً قصيراً. ما زال المهرجان يشهد غياب الشباب، هل هناك من حاول إحصاء الشريحة العمرية لحضور المهرجان من المصريين؟ لقد حاولنا جاهدين أن نفعل ذلك فاكتشفنا ان عدد المدعوين دون الثلاثين عاماً لا يتعدى أصابع اليدين، بينما يزيد عدد الحضور فوق الخمسين عاماً عن نصف عدد المدعوين.... هناك حفنة قليلة من طلبة معهد السينما تلقي بهم السيارة يومياً أمام قصر الثقافة الذي تعرض فيه أفلام المهرجان ولا يدركون بالضبط ماذا عليهم أن يفعلوا لفك شفرة شيء لم يألفوه وهو بالطبع حضور المهرجانات. يحاول الطالب في ساعات قليلة أن يتجاوب مع الفكرة ولكنه مع نهاية اليوم تشحنه السيارة مرة أخرى عائداً الى القاهرة لتأتي بحفنة أخرى في اليوم التالي. أتمنى في الدورات المقبلة أن يدرك رئيس المهرجان أهمية حضور السينمائيين الشباب وطلبة معهد السينما المهرجان الذي يترأسه، فهؤلاء الشباب هم الذين سيرفعون راية السينما في السنوات الآتية وليس غيرهم. "أنس بغداد"... لا أحد يستطيع ذلك حفلت المسابقة الرسمية بعرض 76 فيلماً، وسيطرت فكرة الحرب والقضايا السياسية على عدد لا بأس به من الأفلام في أقسام مسابقة المهرجان الأربعة. يأتي على رأسها فيلم "أنس بغداد" الذي أخرجه سمير وهو مخرج عراقي مقيم في سويسرا، ويتعرض فيه لسيرة أربعة من المثقفين الشيوعيين العراقيين اليهود الذين أجبروا قسراً على الهجرة الى إسرائيل في الخمسينات من القرن الماضي، ومحاولتهم الاندماج في هذا المجتمع الذي أعلن عن اضطهاده لهم ولكل اليهود الشرقيين منذ لحظات وصولهم من طريق رش أجسادهم بالمبيدات الحشرية.... سامي ميخائيل، موسى حوري، شمعون بلاص، سمير نقاش أربعة نماذج تكاد تكون متشابهة في اهتماماتها الصحافية والأدبية وإن اختلفت مشاعرها الداخلية تجاه الوطن الذي اضطرت للانتماء اليه، وعاشت وطأة هذا الانتماء. النموذج الخامس الذي اختاره سمير هو الناقدة السينمائية إيلا شوهات، وهي من أصل عراقي أيضاً، ولكنها تختلف عن الرجال الأربعة في مجال العمل البحث والنقد السينمائي بينما يعمل الآخرون في الصحافة وكتابة الأدب، وفي محاولتها فضح العنصرية الإسرائيلية ضد اليهود الشرقيين أثناء مشاركتها في أحد البرامج التلفزيونية التي تبث على الهواء مباشرة، ثم هجرتها الى الولاياتالمتحدة رافضة العيش في إسرائيل. بينما ما زالت بقية شخصيات سمير الأربع تقبع داخل اسرائيل. اعتمد سمير على فن الفيديو في تقنيته، واستخدم مؤثرات على غرار الشاشة المنقسمة، والكتابات المتزامنة الظهور على الصورة، وهي تقنية ساعدت كثيراً في تمرير هذا الموضوع الصعب الذي يمتد زمن عرضه الى 112 دقيقة. ومع ذلك يؤخذ على الفيلم الإطالة في بعض الأجزاء، وتكرار الاستعانة بأجزاء من الفيلم الإسرائيلي صلاح شاباتي - 1961 كنموذج للفيلم الذي تناول أوضاع المهاجرين اليهود الى إسرائيل، ومحاولة إدماجهم في بنية المجتمع الاسرائيلي، وكذلك الفيلم المصري فاطمة وماريكا وراشيل - 1949 - إخراج حلمي رفلة كنموذج لفيلم مصري تناول علاقة شاب عابث بثلاث فتيات من ديانات مختلفة. وهو ما انعكس على نهاية الفيلم الغريبة والمتمثلة في مقطع صوتي لتعليق سمير يتمنى فيه أن تعود الأفلام الكوميدية القديمة التي تختلط فيها الخلفيات المسلمة والمسيحية واليهودية كما في هذا الفيلم المصري - يقصد فاطمة وماريكا وراشيل. وإن كان بناء الفيلم على مدى قرابة الساعتين يعكس وعي سمير السياسي بحساسية القضية التي يحللها، أو بالأحرى يشرحها - وإن ابتعد في تحليله وأسئلته لشخصياته عما يدور على الأرض المحتلة من مذابح في السنوات الأخيرة -، فهل هذه النهاية تشي بنفي لهذا الوعي أم أن المخرج يسعى الى السخرية من هذا الصراع السياسي - الديني - العرقي الذي يلف العالم؟ وهل اختياره عنوان "أنس بغداد" يؤكد تطلعه نحو السخرية؟ حصل الفيلم على جائزة المهرجان الكبرى، وما زال موضع جدل ونقاش بين كل من شاهدوه. "بين جبهتين"... الجنوب المنسي وأرض الأعداء في إطار مسابقة الأفلام التسجيلية الطويلة أيضاً، عُرض الفيلم اللبناني "بين جبهتين" لكاتيا جرجورة، وهو فيلم يتماس مع "أنس بغداد" في نقاط عدة تجعل الأول يقفز في ذهنك حينما تشاهد الثاني أو العكس. فإسرائيل تمثل إحدى الجبهتين اللتين تقصدهما كاتيا، بينما الجبهة الأخرى هي جنوبلبنان الذي قبع تحت نير الاحتلال قرابة 22 عاماً. كاتيا جرجورة ولدت وعاشت في كندا ولم تعد الى لبنان بعد نهاية الحرب بسنوات طويلة، وسمير ولد في بغداد لكنه انتقل الى سويسرا طفلاً وعاش فيها سنوات طويلة أيضاً. إذاً، كل من المخرجين تفصله مسافة كبيرة عن موضوع الحدث ومكانه... كلاهما مرتبط عاطفياً ببقعة من الأرض لكنه يعاين حدودها من مسافة تسمح له برؤيتها جيداً. درس سمير السينما وأخرج الكثير من المسلسلات والأفلام التلفزيونية في سويسرا وألمانيا، لكن كاتيا درست العلوم السياسية والصحافة، وعملت في عدد من الصحف، وكذلك في راديو كندا. "بين جبهتين" دخل ببراعة في منطقة أكثر حساسية، المقاومة والعمالة... لماذا انضم ديغول المسيحي الى "حزب الله"؟ وكيف قضى علي خشيش سنوات داخل معتقل الخيام وتم تعذيبه على أيدي الإسرائيليين؟ ولماذا اختار بيار لوقا التعامل مع إسرائيل؟ ولماذا بقي مصراً على العيش هناك بينما عادت أخته وزوجها بعد التحرير؟ ولماذا كانت تذهب مها الحاج كل يوم في الصباح الى إسرائيل لتعمل هناك؟ وبماذا تشعر الآن حيال وجود زوجها في السجن بتهمة التعامل؟ لقد اختارت كاتيا أن تلقي بنفسها في جحيم التوتر السياسي والتطرف المذهبي. لكنها كانت على قدر هذا التحدي، وأنجزت فيلمها معتمدة على التقطيع المتوازي بين شخصياتها الأربع، ومعتمدة أيضاً على الانتقال بين ضفتيها هنا - جنوبلبنان الأقرب الى القلب والهوية - وهناك - شمال إسرائيل حيث يقبع المتعاملون بكل ما يحملونه من مشكلات نفسية وكراهية لبلادهم تعاملت معها كاتيا في شكل إنساني. أرادت كاتيا أن تصنع فيلماً إنسانياً، وأن تبتعد من السياسة قدر استطاعتها، لكنها صنعت في النهاية فيلماً سياسياً من الدرجة الأولى. في كل عبارة تنطقها إحدى الشخصيات تكشف عجزاً انسانياً لكنها تعكس فراغاً وعجزاً سياسياً، فحينما تقول مها "نمسح الأرض ونقبض مصاري" فهي تعلم جيداً حجم الإذلال والمهانة اللذين تتعرض لهما في اسرائيل، ولكنها على استعداد لفعل اي شيء من اجل الحصول على نفقات عيشها. اين إذاً السلطة التي من المفترض ان توفر لمواطنيها الحد الأدنى من متطلبات العيش؟ السلطة كانت غائبة في الجنوب وهذا ما نلمسه ايضاً في حديث بيار لوقا الذي يحاول تبرير انضمامه الى ميليشيا لحد وتحوله الى عميل: "المسيحيون طلبوا المساعدة من اسرائيل، لم يكن هناك خيار آخر، لم يكن هناك سلطة او جيش". اذاً السياسي في "بين جبهتين" يطل بظلاله من وراء كل ما هو إنساني، حتى عندما يتحدث ديغول عن سر اختيار اسمه فيقول ان جده نذر نذراً للجنرال ديغول الذي حرر فرنسا ...، أليس في هذا تأثير مباشر للاحتلال الفرنسي في عقول المواطنين ومشاعرهم؟ ينتهي الفيلم بأحلام شخصياته، علي خشيش يعاني هاجس دخول العدو في اي وقت ويعيد اعتقالهم وتعذيبهم، بينما يحلم بيار لوقا بأن تصبح في لبنان سلطة قوية تحفظ كرامة مواطنيها، بينما يحلم ديغول بأن يعيش حياة طبيعية مثل كل الناس، لكنه يعتبر ان المقاومة قدر مستمر ومرهون ببقاء العدو. اما مها الحاج الأكثر تشاؤماً فترى ان لا احد يستطيع ان يتنبأ بالغد. فلم يكن هناك احد يعرف ان اسرائيل ستنسحب، ومن الممكن ان تعاود احتلال الجنوب مرة اخرى "ما حدا بيعرف بعد سنتين يمكن يصير سلام ويقتلوا الشعب... يلا موت علشان إحنا نكبر" .... إن الحرب لم تنته من وجهة نظر كاتيا، بل ما زالت مزارع شبعا محتلة، وما زالت حقول الألغام تهدد حياة الأهالي، والأهم هو ان التوتر بين الجانبين او بالأحرى الضفتين ما زال مستمراً. وما زالت السلطة غائبة في الجنوب، وما زال "حزب الله" يحكم هناك. لقد حقق "بين ضفتين" معادلة الاقتراب من الحياد من دون ان تغيب وجهة نظر صانعته. فكاتيا لم تقف في صف احد الفريقين لكنها حللت ونسجت بناء سينمائياً فوق ارض مملوءة بالزلازل لكنه بناء صامد وصلب. حصل "بين جبهتين" على جائزة افضل فيلم تسجيلي طويل عربي من اتحاد السينمائيين التسجيليين المصريين. وانتهى مهرجان الإسماعيلية بأفلامه وندواته وفاعلياته، ولكن الجدل في الأفلام لم ينته، وبخاصة الأفلام المهمة التي من المقدر لها ان تعيش طويلاً.