لم تكن اقامتنا في بيت زريق إلا أنها زادت مضايقتنا. فالبيت - برجاله الستة - كان معروفاً بمواقفه الوطنية المناهضة لفرنسا. لذلك لم تكن زيارتنا اليومية الى دائرة الشرطة العسكرية زيارة "روتينية"، بل كانت تحقيقاً وافياً عن الأماكن التي زرناها والأشخاص الذين لقيناهم والأحاديث التي دارت بيننا والى أي حد تناولت الوضع السياسي في البلاد. يبدو أن المسؤول كان يريد أن يفيد من الحديث معنا لمعرفة ما يدور في نفوس هؤلاء القوم. على ان جلال زريق واخوته مكنونا من التعرف على عدد كبير من أهل الفكر والزعامة في المدينة. كانت أحاديث مفيدة - لعلها كانت أكبر فائدة لي من درويش. ليس ثمة مجال للتحدث عما كان يدور في هذه الجلسات، لكن أموراً قليلة لم تتطرق إليها. كان من المألوف في المدن القديمة، الصغيرة والكبيرة منها، أن تغطي أجزاء من بعض الأزقة بمبان تقوم فوقها. ذلك أن شخصاً ما قد يملك بيتين متقابلين على ناصيتي الزقاق، فيصل البيتين فوق الزقاق ليقيم بيتاً أكبر من الإثنين الآخرين. جاء في أواخر أيام الحكم العثماني متصرف تركي متنور منع ذلك منعاً باتاً. لكن سيدة جميلة كانت تملك بيتين على ما وصفنا نجحت في إغراء المتصرف بأن سمح لها بوصل البيتين فوق الزقاق. فسمى اللاذقيون هذا الزقاق - "زقاق رقم 80" - من أراد أن يعرف معنى التسمية فليلجأ الى حساب الجُمَّل. ومن النكات التي سمعناها أن أحد قضاة اللاذقية كان له صبي اسمه لؤي، فلما جاء الفرنسيون لحكم البلد بدل اسمه الى "لويس" عرفت بعد سنوات بالمصادفة من الشاب نفسه الذي لقيته في بيروت، ان القضية كانت تشنيعاً على القاضي لأنه كان ينحاز الى جانب الحكام الفرنسيين. أخيراً جاء الوقت لمغادرة اللاذقية الى أنطاكيا. كانت خطتنا أن نتم المشوار سيراً على الأقدام. لكن لم يرض أحد مما تحدثنا إليهم أن نقوم بذلك، إذ ان المنطقة كانت تزخر بقطاع الطرق، والخطر على حياتنا أمر وارد. ولم يكن ثمة طريق عربات ولا سيارات يمكن الانتقال بواسطتها الى انطاكيا. الوسيلة الوحيدة هي السفر بالباخرة الى انطاكيا. ذهبنا الى مكتب الشركة الخديوية المصرية لحجز تذاكر. وعرفنا اننا يجب أن نذهب من اللاذقية الى مرسين في تركيا أولاً ثم الى الاسكندرون بحراً، ونعود أدراجنا الى انطاكيا براً. أمرنا لله. وفي مكتب الشركة الخديوية وهي شركة مصرية كانت تسير بواخرها على الشاطئ السوري وجنوبتركيا وجدنا أن سعر التذكرة جنيه مصري و80 قرشاً للشخص الواحد. وهو مبلغ كبير بالنسبة إلينا. اقترح مدير المكتب على الزريقين أن يزودونا الطعام اللازم، وعندئذ تصبح ثمن التذكرة للشخص الواحد جنيهاً واحداً فقط. تم الاتفاق على ذلك وسجل المدير اسمينا. بدأ بدرويش ثم جاء دوري. فلما قلت "نقولا"، توقف وقال ان عرضه غير ممكن لأن قوانين الشركة لا تسمح لمسيحي أن يُدخل طعاماً الى السفينة، إذ قد يكون فيه لحم خنزير أو قد يحمل معه بعض انواع الخمر. عندئذ التفت درويش إلي وقال مازحاً: "يا نقولا من زمان قلنا لك أسْلِم وخلصنا!". وانتهى الأمر بنا أن دفعنا ثمن الناولون أي تذكرة السفر كاملاً. غادرنا اللاذقية مساء، وأصبحنا في مرسين حيث قضينا يوماً كاملاً، ولم يسمح لنا بالنزول الى البر لأننا لا نملك تأشيرة. كان درويش يعرف أن الأمير شكيب أرسلان كان تلك الأيام في مرسين، وأمل أن نتمكن من زيارته. في المساء غادرت الباخرة مرسين وأصبحنا في الاسكندرون. ولما جاء دورنا لمغادرة السفينة طلب منا أن نتنحى جانباً في انتظار التعليمات. انتظرنا نحو ساعة الى أن جاء شرطي فحملنا بسيارته الرسمية الى الشرطة العسكرية. كانت المنطقة الممتدة من شمال الاسكندرون الى جنوب انطاكيا مع امتدادها الداخلي قد فصلت إدارياً عن بقية سورية، على نحو ما فصلت اللاذقية وأرباضها. كان يطلق على هذه الوحدة الإدارية "لواء الاسكندرون"، وكان الناس يختصرونه بالاشارة اليه ب"اللواء". كان الحاكم فرنسياً ومن رجال الجيش. نقلنا بالسيارة الى مكتبه مباشرة. وقال لنا انه أمر بنقلنا في سيارة رسمية حفاظاً منه على راحتنا. لكن أسئلته كانت تكذب دعواه. لماذا هذه الزيارة؟ ولماذا مشياً على الأقدام؟ وأين أقمنا منذ أن دخلنا لبنان؟ ومن هم الأشخاص الذين لقيناهم في اللاذقية خصوصاً؟ لماذا زيارة جبل الشيخ والأرز؟ لماذا التجول في الجبال المصاقبة للاذقية؟ ولماذا الترتيب في أن ننتقل الى انطاكيا مشياً؟ لم يكن في الواقع نهاية لأسئلته وكلها استفسارية اساسها انه أبلغ من حاكم اللاذقية اننا لعلنا كنا "جواسيس" من فلسطين أي حكومة الانتداب البريطاني لإثارة الشغب في سورية - لمناسبة ثورتها سنة 1925. وبعد هذا النوع وسواه من س و ج، نصحنا ألا نذهب الى انطاكيا مشياً، فالمسافة طويلة ومتعبة ولا بد من أننا قد انهكنا السير. بل انه يسر لنا سيارة رسمية لتنقلنا الى انطاكيا - فذهبنا - في اليوم التالي وكنا، في واقع الأمر، مخفورين. أوصلتنا السيارة الى الفندق الذي نصحنا النزول فيه في انطاكيا، ولم ينس الشرطي الذي رافقنا - على اعتبار انه ذاهب الى انطاكيا في مهمة رسمية وكانت المهمة الرسمية ضبط تنقلاتنا في الطريق - لم ينس ان ينصحنا بضرورة مراجعة دائرة الشرطة يومياً، حفاظاً على سلامتنا. فنحن غرباء في المنطقة كلها. طبعاً فهمنا النصيحة، ولكنه أراد أن يتأكد من ذلك فرافقنا، قبل أن يودّعنا الى دائرة الشرطة حيث سجلنا أسماءنا واسم الفندق الذي نزلنا فيه، وطلب من المسؤول أن يهتم براحتنا وسلامتنا، والأمران مفهوم معناهما. في انطاكيا، التي كانت أكثرية سكانها عرباً وهم مسيحيون أكثرهم من طائفة الروم الارثوذكس ومسلمون من الطائفة السنية ومجموعة كبيرة من الفئة العلوية. هذه أتيح لنا الاجتماع بأفراد منها، وعرفنا منهم مثل الذي عرفناه في زيارتنا لجبال اللاذقية. وزرنا أفنة التي كانت متنزه أهل اللاذقية في أيام اليونان والرومان والبيزنطيين. ومع ان حدائقها الغناء الواسعة كان قد طغى عليها الإهمال، فإن الكثير من جمالها الطبيعي أشجاراً ونباتات وزهوراً وينابيع ماء وشلالات صغيرة وتماثيل للآلهة القديمة وبقية كنائس من العهد البيزنطي - كل هذا كان يشهد بما كانت عليه وهي التي وصفها الكتّاب الأقدمون بأنها كانت متنزهات الأنطاكيين وأماكن عبادة لهم، ولم تكن مدينة في الشمال تعادلها جمالاً وروعة. والواقع ان الذي رأيناه كان شاهداً على ما كنت قد قرأته عن انطاكيا القديمة. وزرنا ميناء السلوقية ميناء أنطاكيا وكان هذا اليوم أطول يوم مشيناه في رحلتنا. فقد غشّ الدليل وبضوء القمر وجاءنا في الواحدة والنصف بعد منتصف الليل وهو يحسب ان الفجر قد لاح. ولم نخيب أمله على اعتبار اننا سنرجع مبكرين الى انطاكيا. لكننا عدنا في الساعة الثامنة مساء. أي اننا قضينا نحو تسع عشرة ساعة مشياً وتعرفاً على المنطقة والميناء القديمة والنفق الذي حفر ليسهل نقل البضائع الى الميناء. طبعاً جلسنا للأكل والراحة قليلاً. المشكلة كانت في صباح اليوم التالي. لما ذهبنا الى دائرة الشرطة وسئلنا لماذا لم نمر بها صباح اليوم السابق. وأحسب ان صاحب الفندق توقع لنا شيئاً من ذلك لذلك رافقنا، وشهد اننا بدأنا الرحلة مبكرين. ويبدو أن موقعه في مكتب الشرطة كان مرضياً عنه، فقبل عذرنا ولم يُلق القبض علينا. في صبيحة اليوم التالي انتقلنا من انطاكيا الى حلب بالسيارة وعدنا بعدها الى فلسطين بالسيارة والقطار من طريق حماه وحمص وبعلبك وزحلة ودمشق. هذه رحلة من العمر. لعله لا يعادلها، بالنسبة إلي انني، في رحلات مختلفة في صيفي 1936 و1937، قطعت ثلاثة آلاف كيلومتر متنقلاً في أنحاء ألمانيا - لكن لتلك الأسفار حكاية أخرى!